جَاءَ اعتقال شرطة مكافحة الإرهاب الإندونيسية للداعية "أبو بكر باعشير" البالغ من العمر 71 عامًا، للاشتباه بدعمِه مجموعة سريَّة مسلحة جديدة كانت تخطِّط لاعتداءات على الرئيس الإندونيسي وسفارات وفنادق في جاكرتا، ليعيد الجدل مرة أخرى عن الحركات الإسلامية الجهادية في أكبر دولة إسلامية (مساحةً وسكانًا). فهذه ليست المرة الأولى التي يُعتقل فيها "باعشير"، فقد تَمَّ اتهامُه من قبلُ بأنه على علاقة بسلسلة هجمات دامية منذ سنوات، بينها اعتداءات بالي التي أودت بحياة 202 شخص في العام 2002، واعتقل على إثر هذه التهمة لمدة 26 شهرًا، وتمت تبرئته وإطلاق سراحِه في العام 2006. وإذا كانت دوائر السلطة الحاكمة في إندونيسيا -ومعها الدوائر السياسية والإعلامية الغربية- تصف الرجل بأنه الزعيم الروحي والناطق باسم التيار الإسلامي المتشدِّد في إندونيسيا، وبأنه "أمير الجماعة الإسلامية" في إندونيسيا، ولذلك فخوفها منه يؤدي إلى توجيه الاتهامات الجاهزة والمعلّبة له، فإن الحقيقة أن ثقافة ونشأة "أبو بكر باعشير" المولود في جومبانغ بجاوا الشرقية من سلالة أسر حضرمية يمنية، وكذلك خطابه السياسي وحماسه الشديد لفكرة تطبيق الشريعة والمضامين الجهادية التي يبثُّها في أحاديثه، كل ذلك جعله متهمًا قبل أن يحدثَ أي تحقيق. ويبدو أن ملف "باعشير" الذي برز، بدءًا من منتصف الخمسينات من القرن الماضي، ضمن زعماء حركة الشباب المسلم الإندونيسي المعروفة آنذاك بأنها حركة طلابيَّة استقلاليَّة فاعلة، وكانت بمثابة الذراع الطلابية لماشومي أو "مجلس شورى مسلمي إندونيسيا" (الذي حظر نشاطه في عام 1960 وكان يمثِّل التيار الإسلامي وكان قوة سياسية معروفة لفترة طويلة وله امتداداتٌ حاضرة ضمن أكثر من حزب سياسي في الساحة اليوم)، وتأسيسه عام 1967 "إذاعة سوراكرتا للدعوة الإسلامية" بصولو، والتي تم إغلاقها عام 1971، ونشاطه البارز في الدعوة وفي تأسيس المدارس والمعاهد الدينية، كما كان "باعشير" عضوًا في حركة دار الإسلام التي كانت تدعو في الخمسينيات إلى إقامة دولة إسلامية في إندونيسيا، وتمَّت تصفية الحركة على يد (سوكارنو) ليواجهَ "باعشير" مضايقات شديدة في بلاده بلغتْ أقصاها عام 1985 حين حوصر معهده من قِبل الجيش ما دفعه إلى الهرب إلى ماليزيا، وبعد سقوط نظام سوهارتو عاد... كل هذه الخلفية جعلت الرجل "متهمًا مثاليًّا" خاصة بعد انتشار وتعميم السياسة الأمريكية لمكافحة ما يسمى "الإرهاب" بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001. وأصبح على "باعشير" أن يدفع ثمن خطابِه الدعوي والديني والسياسي، حتى ولو لم يكن مشتركًا في أية أحداث إرهابية، وكأن المطلوب الآن (أمريكيًّا وغربيًّا ثم بالتبعية محليًّا) هو أن المفردات المستخدمة في الخطاب سيتم المحاسبة والعقاب بشأنها حتى وإن لم يكن لها امتدادات في الواقع. فحينما وقعت تفجيرات "بالي" كان لا بدَّ من توريط شخصية بحجم "باعشير" باعتباره منتج الفتاوى الجهادية التحريضية ضد الأمريكان، على اعتبار أن المنفِّذين شباب صغير ليس لديهم خبرة ولا علم، وإنما استَقَوا أفكارهم من "جهة" أو "مرجعية" أكبر، ليتمّ تشويه صورة هذه المرجعية والإساءة إليها وإلى ما تحمله من أفكار، وهذه هي عادة القوم دائمًا. كان اعتقال "باعشير" منذ أيام من قبيل إكمال ملامح الصورة وإكمال أهمية وخطورة المخطط، لتكون تهمة "الصلة بجماعة من المتشددين في آتشيه" تهمة معقولة ويمكن تسويقها إعلاميًّا، ثم رأى القوم أنه لا بأْس من إضافة تهمة أخرى "أكثر جاذبية" وهي اتهام الرجل بأنه "زعيم تنظيم القاعدة في إندونيسيا" وأن التنظيم يسعى لإقامة قاعدة له في إقليم آتشيه، وأن التنظيم الذي تَمَّ ضبطه عبارة عن اندماج عدة مجموعات متشدِّدة، بينها الجماعة الإسلامية والدولة الإسلامية في إندونيسيا وجماعة أنصار التوحيد، وأن "باعشير" نشيطٌ في المساعدة على جمع الأموال للتنظيم. ما يحدثُ في إندونيسيا هو جزء مما يحدث في العالم الإسلامي كله في أمر الحركات الإسلامية وعلاقتها بالسلطة السياسية، ثم دخول الطرف الأمريكي كمحَرِّض وموَجِّه للاتهامات من أجل أن يضع العمل الإسلامي والنشاط السياسي الإسلامي في الدول العربية والإسلامية تحت السيطرة، فالإدارة الأمريكية تؤمنُ أن الحركات الإسلامية إذا تُركت فإنها ستنمو وتكبر وتصبح قوةً سياسيَّة فعَّالة قادرة على تحريك الشارع وتغيير السياسات التي هي في الأغلب موالية للنظام الدولي الجديد الذي يأتمرُ بأمر الأمريكان، والذي يعمل لصالحهم ووفق إرادتهم. الوضع في إندونيسيا يحظى بأهمية خاصة عند الولاياتالمتحدة، فإندونيسيا تمثِّل موقع ثقل كبير، إقليميًّا وعالميًّا وإسلاميًّا، فهي الأكبر مساحة والأكثر سكانًا والمتمتعة بموقع استراتيجي هام، ولذلك فإن الاهتمام الأمريكي بها يتزايد خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001 والادّعاء بأن إندونيسيا باتت حاضنةً للإرهاب في جنوب شرقي آسيا، وكذلك الادّعاء بوجود تنظيم "القاعدة" في الأراضي الإندونيسية. ما يزعِجُ الأمريكيين في الملف الإندونيسي هو ظهور الفِكْر الجهادي وتصدِّيه للسياسات الأمريكية التي تستهدف الإسلام والمسلمين ومحاولة الرد عليها، فالقوم خائفون من أن تتحول إندونيسيا إلى أفغانستان أخرى أو إلى باكستان أخرى، فالجرائم الأمريكية كثيرة ومتلاحقة، ولو تَمَّ التصدي لها والرد عليها على الأراضي الإندونيسية الشاسعة والممتدة ستكون التداعياتُ شديدة السلبية، ومن أجل ذلك "يحشر" الأمريكيون أنوفَهم في الشأن الإندونيسي، وبصفة خاصة في الشأن الإسلامي، محاولين إدارته وتوجيهه كما يريدون. الحركات الجهادية الإندونيسية تلخِّص موقفها من الولاياتالمتحدة في الآتي: ما دامت أمريكا تحاربُ العالم الإسلامي، وما دامت أمريكا تضغط على العالم الإسلامي، وما دامت أمريكا تحاول أن تقتل المسلمين في بلدان المسلمين، فإنها بهذا تكون عدوَّنا وعدو الله ورسوله، ولا يتبقى بيننا وبين الأمريكيين إلا الجهاد. وإذا كانت جمعية نهضة العلماء هي أكبر جمعية إسلامية في العالم بأعضائها الذين يصلُ عددهم إلى 30 مليون نسمة، والتي تأسست عام 1926، فإن الملاحظ أنها ليست تنظيمًا حزبيًّا بالمعنى المعروف، بقدر ما هي مظَلَّة يتجمع تحتها عدد كبير من علماء الدين ومريديهم، وليس للجمعية استراتيجية سياسية أو فكرية تنظم مواقفها، ولذلك رأَيْنا الرئيس عبد الرحمن واحد، حفيد مؤسس جمعية نهضة العلماء، يرفض أن تكون هناك علاقة مباشرة بين الدولة والأيديولوجيا، ويرى أن الدولة ليست لها علاقة بأيديولوجيا الإسلام، وهذا موقف غريب باعتباره صادرًا من مرجعية دينية. وفضلًا عن موقف عبد الرحمن واحد من علمانية الدولة، فإن له آراءً تُثير من حين لآخر دهشة الجميع، وهو لا يتردَّد مثلًا في الدعوة إلى إقامة علاقة مع الكيان الصهيوني وإقامة علاقات وطيدة مع رموزِه. ورغم أن أكثر من 90% من الإندونيسيين مسلمون، إلا إن الدستور يعترفُ على قدم المساواة بالإسلام والمسيحية والبوذية والهندوسية، ومن هنا كان رفض الحكومة لأي دعوة لتأسيس دولة إسلامية، باعتبار أن ذلك يشكِّل تهديدًا مباشرًا للوحدة الوطنية، وهي الأطروحة التي تبنَّتْها بإخلاص الحركات الإسلامية التقليدية. كثيرٌ من الحركات الإسلامية التقليدية تشبه جمعية نهضة العلماء في أفكارِها وتوجهاتِها العامة، وإزاء هذه الرؤية المتناقضة بدأ يظهر فكر جديد وثقافة جديدة في الواقع الإندونيسي، أكثر اهتمامًا بالشريعة، وأكثر حماسًا لإقامة دولة الشريعة، وأكثر رغبةً في ممارسة العمل السياسي من الأرضية الإسلامية، ركَّز "باعشير" في خُطبِه وتحركاتِه الدعوية على توضيح مفهوم "الجهاد" وإرجاعه إلى أصوله الشرعيَّة ومرجعيته الفقهية وتخليصه من اتّهامات أعداء الإسلام. يبدو أن "باعشير"، ذلك الشيخ المسِنّ، الذي أسّس مجلس مجاهدي إندونيسيا الذي يحتلّ موقعه على خريطة الحركات الإسلامية الجهادية في البلاد، وأبرز أهدافِه الدعوة لإقامة الدين في إندونيسيا، والدعوة لتطبيق الشريعة في حكومة إندونيسيا، هذا الشيخ الذي يعيش بين فصول المعهد المؤمن الذي تأسَّس عام 1972، والذي يضُمُّ اليوم حوالي 2000 من الطلاب والطالبات القادمين من مناطق مختلفة من إندونيسيا، يتلَقَّوْن الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، ويرفعون شعاراتِ الدعوة والجهاد التي يعلمها لهم، يؤكِّد أن ما يفعله هو تعليم التلاميذ الجهاد لا فنونه، فالجهاد، كما يرى "باعشير" لإقامة الدين ولإعلاء كلمة الله، فعندما يهاجمنا الأمريكان فنحن ندافعُ طبعًا عن ديننا وندافع عن أنفسنا، إذا كان هؤلاء يهاجمونَنا بالحجة كنا سندافع بالحجة، أما وإنهم يهاجموننا بالسلاح فنحن ندافع بالسلاح.. هذا هو الجهاد، من هنا جاء التركيز على "باعشير" ووضعه بصفة مستمرَّة في دائرة الشكّ والاتّهام. والحقيقة أن الفكر الجهادي والجماعات الجهادية على الساحة الإندونيسية ليست مختزلة في "باعشير" وفي مشروعه الفقهي والفكري، فهناك جماعاتٌ جهادية أخرى أبرزها حركة "لسكر جهاد" التي أنشئت بعد المذابح التي تعرَّض لها المسلمون في "أمبورن مولوكو" من قِبل النصارى وحركتهم الانفصالية، فطلب الناس من الحكومة أن تفعل شيئًا لتساعد المسلمين في "أمبورن"، وحينما تقاعستْ تكوَّنَت هذه الحركة التي يصفها مؤسسوها بأنها حركة جهادية دفاعية. وأخيرًا فإن ملف الحركات الجهادية في إندونيسيا وثيقُ الصلة بما يُسمَّى استراتيجية "مكافحة الإرهاب"، وهي العصا الأمريكية الغليظة التي تُهدِّد كل مَن تُسوِّل له نفسه العصيان أو الخروج من الطاعة الأمريكية أو تستهويه دعاوى السيادة الوطنية، فالولاياتالمتحدة استطاعت أن توظِّف أحداث 11سبتمبر عام 2001 كأداة طَيِّعة لها تعيدُ بها صياغة الكرة الأرضية لصالحها، غيرَ عابئةٍ بالأمم والشعوب والمجتمعات والأفراد والأديان والثقافات. المصدر: الاسلام اليوم