فى السينما المصرية، طالما استحوذت "المدينة الكبيرة" – القاهرة بكل صخبها وعشوائيتها وقسوتها المباشرة – على حصة الأسد من الحكايات، تاركة مدن الأقاليم والدلتا فى ظلال التنميط، إما كخلفية ريفية ساذجة أو كمنبع للهجرة. لكن فيلم "بنات الباشا" يأتى ليكسر هذه المركزية القاهرية، ويأخذنا فى رحلة موحشة إلى قلب "طنطا"، مدينة السيد البدوى، حيث يختلف طعم الخوف، وتكتسب الفضيحة وزنا أثقل من الموت ذاته. هذا الفيلم ليس مجرد دراما اجتماعية، بل هو مرثية بصرية طويلة، ونعى جماعى لنساء يعشن فى منطقة رمادية خانقة، حيث لا ينقذهن أحد، ولا يملكن حتى رفاهية الصراخ. ما يميز "بنات الباشا" هو وعيه الشديد بجغرافيا المكان وتأثيره على سيكولوجية المرأة. نحن لسنا فى القاهرة حيث يبتلع الزحام الخطايا. نحن فى مدينة إقليمية، مجتمع متشابك يعرف بعضه بعضا، حيث "السمعة" هى العملة الوحيدة التى تمتلكها النساء. النساء فى هذا الفيلم لسن مجرد ضحايا لظروفهن، بل ضحايا لبيئتهن الجغرافية والثقافية. صالون التجميل هنا ليس مجرد مكان للتزين، بل هو "المخبأ". إنه الحصن الأخير لنساء هاربات من أحكام المجتمع، يختبئن خلف ستائره الحديدية ليمارسن حقهن الضئيل فى التنفس. عندما تقع الكارثة – انتحار نادية – تكون الصدمة مزدوجة. الرعب ليس من الجثة بحد ذاتها، بل من "الفضيحة" التى ستخرج من باب الصالون لتسرى فى شوارع طنطا كالنار فى الهشيم. هذا الرعب هو ما يدفعهن لاختيار التستر على الموت؛ لأن الحياة "مفضوحات" فى مدينة صغيرة أقسى عليهن من التواطؤ مع الجريمة. إن مأساة نادية – وسبب انتحارها الحقيقى – تكمن فى أنها أدركت عبثية دور المنقذ فى مجتمع لا يكف عن إلقاء النساء فى الجحيم. شعورها بالتقصير تجاه الأخريات، رغم أنها فعلت المستحيل، يعكس تلك العقدة النسائية المتوارثة: جلد الذات. النساء فى الفيلم، وفى الواقع، مُدربات على لوم أنفسهن أولا. انتحار نادية لم يكن هروبا، بل كان استسلاما لواقع يقول إن النجاة فردية ومستحيلة فى آن واحد. هى المرثية الحقيقية، المرأة التى ماتت لأنها منحت كل حياتها للأخريات فلم يبق لها شيء لتعيش به. من منظور نسوى، يقدم الفيلم تفكيكا ذكيا لعلاقة هؤلاء النسوة بالرجل، المتمثل فى شخصية "نور". فى مجتمعات الدلتا والأقاليم، لا يزال الرجل يمثل "السترة" والحماية المادية والاجتماعية. الغريب والمؤلم فى "بنات الباشا" هو التنافس المحموم بين النساء (جيجى ونهال وغيرهما) على رجل واحد، ليس لأنه فارس أحلام، بل لأنه "مالك المكان". نور الباشا يمثل السلطة الأبوية فى أكثر صورها تعقيدا، مأساة هؤلاء النسوة تكمن فى إيمانهن بأن النجاة تأتى من "رجل"، بينما الواقع يثبت أن هذا الرجل هو جزء من المنظومة التى تخنقهن. جيجى التى تقبل بوضع مهين، ونهال التى تبيع جسدها ثم تشترى شقة جواره، كلهن يبحثن عن "أمان" زائف. الفيلم يعرى هذه الفكرة بقسوة: الرجل هنا لا ينقذ، هو فقط يملك المفاتيح، مفاتيح الصالون ومفاتيح السجن. تتجلى الرمزية العالية فى اختيار "مركز تجميل" مسرحا لهذه التراجيديا. المكان الذى يُفترض أن يُصلح العيوب ويجمل الوجوه، يتحول إلى مشرحة ومسرح للجريمة. هذه المفارقة تصرخ فى وجه المشاهد: كم من مساحيق التجميل نحتاج لنغطى كدمات أرواحنا؟ فى مدننا، تُجبر النساء على التجمل طوال الوقت، ليس فقط التجمل الشكلى، بل التجمل الاجتماعي. عليهن أن يظهرن سعداء، مستورات، عفيفات، وناجحات. داخل الصالون، تسقط الأقنعة. نرى ميس فلك، المرأة القوية، منكسرة. نرى جيجى المتسلطة، عاشقة ذليلة. نرى منى المتدينة، شريكة فى إخفاء جثة. هذا التعرية النفسية هى جوهر الفيلم؛ إنه يقول لنا إن تحت طبقات "الفاونديشن" والمجتمع المحافظ فى طنطا، هناك نساء يحترقن بصمت، ودماء تجف على البلاط ولا يراها أحد. لا يمكن قراءة هذا "المانيفستو" البصرى عن نساء الدلتا دون التوقف بتقدير أمام "الكيمياء الفنية" التى جمعت بين السيناريست محمد هشام عبيه والمخرج محمد العدل. لقد نجح عبيه فى خوض مغامرة محفوفة بالمخاطر؛ وهى تحويل نص أدبى روائى دسم للكاتبة المبدعة نورا ناجى إلى سيناريو سينمائى، دون أن يفقد النص روحه أو يسقط فى فخ السرد الأدبى المترهل. يحسب ل "عبيه" – بذكاء وحساسية نادرة – أنه التقط "الصوت الداخلي" لنساء الرواية وحوله إلى لحم ودم وصراع ملموس، محافظاً على خيط "الهم النسوي" دون شعارات زاعقة، مقدما تشريحا دقيقا لنفسية المرأة المحاصرة فى مدينة لا تغفر. وعلى الجانب الآخر، التقط المخرج محمد العدل هذا الخيط ببراعة، ليتحول "صالون التجميل" تحت إدارته من مجرد ديكور إلى بطل درامى خانق؛ سجن أنيق بجدران مزينة بالمرايا التى لا تعكس سوى الانكسار. لقد تمكن العدل من ترجمة جغرافيا الخوف بصريا؛ فاستخدم كادرات ضيقة وزوايا تصوير تحاصر الممثلات، وإضاءة تعكس شحوب الأرواح لا نضارة الوجوه، جاعلا من المُشاهد شريكا فى الشعور بضيق التنفس الذى تعيشه البطلات. هذه الشراكة بين كاتب يغوص فى العمق النفسى، ومخرج يجيد رسم "لوكيشن" برائحة الموت، هى التى منحت الفيلم ثقله الفنى، وجعلت من طنطا – عبر شاشتهم – ليست مجرد مدينة، بل حالة حصار كاملة. تتجلى قوة الفيلم فى أداء طاقمه النسائى الذى شكل نسيجا دراميا واحدا؛ فنجد صابرين التى تخلت عن زينتها لتجسد بتمكن دور السيدة المسيحية المحافظة الزاهدة فى عالم الرجال، تقابلها زينة فى دور الزوجة التى تعيش صراعا مريرا وتضحى بكل شيء – حتى مشاعرها – قربانا لسمعتها وصورتها الاجتماعية، بينما باغتتنا ناهد السباعى بتقديم دور "فتاة الليل" من زاوية إنسانية مغايرة تكشف عن قلب عاشق بصدق بعيدا عن التنميط، وتتكامل الصورة بوجود مريم الخشت التى بدت كالملاك الحارس الذى يحاول حماية من حوله، وصولا إلى الظهور الخاص والآخاذ للقديرة سوسن بدر فى شخصية مدرسة الرسم التى اختارت العيش فى عالمها الخاص بعيدا عن ضجيج الواقع، ليقدمن جميعا وجوها متعددة لعملة القهر الواحدة. فيلم "بنات الباشا" هو إدانة بصرية لمجتمع يفضل النساء "الميتات والمستورات" على النساء "الحيات والحقيقيات". إنه يطرح سؤالا مرعبا: لماذا شعرت هؤلاء النسوة أن وجود جثة بينهن أقل وطأة من استدعاء الشرطة؟ الإجابة تكمن فى نظرة المجتمع لنساء الأقاليم، حيث المرأة دائماً متهمة حتى تثبت براءتها، وحيث الفضيحة تلاحقها حتى القبر. "بنات الباشا" فيلم عن الوحدة. وحدة المرأة وسط الزحام، ووحدتها أمام خياراتها المصيرية. إنه مرثية ل نادية، ولكل امرأة أخرى فى طنطا، والمنصورة، والزقازيق، وفى كل زاوية من هذا الوطن، تعيش لتمسح دموع الآخرين، وحين تقرر الرحيل، ترحل بصمت، وكأنها تعتذر عن وجودها. هذا الفيلم يقول بصوت عال ما تهمس به النساء فى الغرف المغلقة: نحن هنا، نختنق، ولا أحد قادم للإنقاذ.