المدرسة, الجامعة, العمل, الزواج, طفل أو اثنان... ثم الخواء الرهيب. هذه هي الحياة التقليدية التي يحياها أغلب أبناء مجتمعنا متسلحين بنصائح -قيل لنا إنها حكيمة- عن أن "يعيشوا زي ما الناس بتعيش" و"يعيشوا يوم بيوم". هناك من يختار -بكامل إرادته- تنفيذ تلك النصيحة والانضمام للطابور الطويل. وهناك كذلك من يرفض أن يكون مجرد نقطة في نقاط كثيرة متراصة في طوابير طويلة لحياة رتيبة تقليدية. من هؤلاء "الحسن أنس" طالب الفيزياء بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة والناشط في مجال حماية البيئة تحديدًا المياه.
الخروج عن المألوف يقول الحسن-ذو التسعة عشرة سنة- حين سألته عن سر رغبته الدائمة في التمرد على الحياة التقليدية: "كنت منذ صغري منبهرًا بفكرة الرجل الذي يجيد مهارات كثيرة ويحيا حياة خارجة عن المألوف. ولأن حياتي كانت مجرد حياة طالب في مدرسة فقط وجدت أن اكتساب المهارات يتطلب بعض التحرر من قيود المناهج الدراسية التقليدية. كنت طالبًا متفوقًا؛ لكني حرصت كذلك على البحث عن مجالات أخرى للدراسة خارج نطاق مناهج وزارة التربية والتعليم. ولأن الكمبيوتر كان من أهم المجالات -ومازال- فقد حصلت على بعض الدورات في مجال Visual basic , كان هذا في بداية المرحلة الإعدادية. "وفي ديسمبر 2003 تلقت مدرسة الحسن زيارة من السيدة داليا خليل, المدير الإقليمي للشبكة الدولية للتعليم والموارد IEARN. كانت ترغب في أن تنضم المدرسة لشبكة المدارس المتعاملة مع المنظمة الدولية المهتمة بالثقافة والعلوم والتبادل الفكري, من خلال تقدم المهتمين من طلابها لمشاريع الشبكة. ولأنه ينجذب لتلك الأنشطة البناءة -غير التقليدية- فقد وجد الحسن فرصته في الانضمام لإحدي فرق العمل التابعة للشبكة سالفة الذكر, وكان المشروع عن "الأمثال الشعبية لدى الشعوب المختلفة على مستوى العالم". بعث جديد "بعد انتهاء المشروع "يقول الحسن" وجدتني أنجذب لإحدى المنظمات الفرعية للشبكة وهي Youth. CaNوهي اختصار لعبارة Youth care about nature الشباب يهتمون لأمر الطبيعة. انضممت لها مع صديقين مقربين لي وأبدينا حماسًا شديدًا للعمل بها. في ذلك الوقت, كانت تلك المنظمة الفرعية تواجه بعض الركود في عملها في مصر, ربما لضعف اهتمام الشباب بمجال عملها -حماية البيئة- حتى أن منظمة الأم IEARN كانت تعتبر أن عمل Youth CaN في مصر بمثابة المشروع الفاشل. إلا أن الحسن, ورفيقيه, قاما ببذل مجهود جبار كان بمثابة البعث للفرع المصري من المنظمة, بشكل مثير للإعجاب. عالم أكبر في يوليو 2004 سافر الحسن إلى سلوفاكيا لحضور المؤتمر السنوي لIEARN لعرض التجربة المصرية في إطار الاستعراض السنوي لمشروعات الشبكة على مستوى العالم. وفي مارس 2005 قامت IEARN في إطار عمل Youth. CaN بتنظيم أول معسكر بيئي في مركز الوادي لعلوم البيئة WESC. كان موضوع المعسكر هو استعراض وتنظيم تجارب ونماذج لنظم الطاقة البديلة. "وفي أغسطس من نفس العام, تم تنظيم "مشروع التوعية والتعليم من أجل المياه"، وهو عبارة عن حملة للتوعية العامة لأهمية ترشيد المياه والحفاظ عليها من التلوث. كانت الحملة في خمسة محافظات مصرية هي أسوان, الفيوم, المنوفية, الجيزةوالإسكندرية. وكان فريق العمل عبارة عن شابين وفتاتين من كل محافظة, مهمتهم القيام ببعض الأبحاث الشاملة حول المياه, وكذلك تنظيم وتنفيذ حملات لتوعية الجماهير بأساسيات التعامل مع المياه كمورد بيئي هام. وفي مارس 2006 سافر الحسن إلى المكسيك في وفد من الشباب الناشطين في مجال المياه، كان على رأسه د.محمود أبو زيد -وزير المياه السابق- حيث حضروا مؤتمر المنتدى العالمي للمياه, الذي افتتحه الرئيس المكسيكي. "كانت هذه نهاية ما يمكن تسميته المرحلة الأولى من رحلتي.. إذ وجدتني منجذبًا -من بين كل تلك الأنشطة- لقضية المياه؛ الأمر الذي دفعني للتركيز عليها من خلال عملي مع WESC". طريق النجاح إلى جانب نشاطاته سالفة الذكر, كانت للحسن نشاطات أخرى؛ ففي الفترة من يناير إلى سبتمبر 2004 نظمت جامعة "لون" السويدية في مكتبة الإسكندرية دورة في استراتيجية البيئة الوقائية, وقد تلقى الحسن تلك الدورة مضيفًا خبرات جديدة -نظرية وعملية- لخبراته. كما أنه كان قد بدأ في تعلم اللغة الألمانية؛ بالإضافة لإتقانه الإنجليزية وتلقيه بعض الدراسات المدرسية السابقة في اللغة الفرنسية. تحول حسن من دراسة الفرنسية في المرحلة الإعدادية لاختيار دراسة لغة جديدة عليه كالألمانية خلال المرحلة الثانوية, كان بمثابة تحدٍ اختار خوضه؛ بل ونجح فيه, وكان ممن أرسلتهم وزارة التربية والتعليم في رحلة إلى ألمانيا -في نهاية صيف 2006- كمكافأة لتفوقه في اللغة الألمانية. في تلك الأثناء, كان الحسن وأحد رفيقيّ كفاحه قد انضما لمركز "الوادي" WESC كأصغر موظفين فيه على الإطلاق؛ حيث كان عملهم في مشروعات هامة كإطلاق حملات توعية بالحفاظ على المياه, تنظيم وتنفيذ ورش عمل في مجال حماية المياه من التلوث, تدريس ذلك التخصص لبعض طلاب المدارس كنوع من التوعية وتصميم وصناعة نماذج للشرح للمتلقين لمساعدتهم في فهم برامج التوعية المذكورة. الاختلاف يقوده للجامعة الأمريكية كان الحسن قد بلغ نهاية مرحلة الدراسة الثانوية, ولأنه -كالعادة-يرفض الحياة التقليدية؛ فقد بحث عن دراسة جامعية بناءة -بحق-خارج الإطار المعتاد لمكتب التنسيق وقوائم الاختيارات. قام الحسن بمراسلة حوالي 20 جامعة على مستوى العالم بعد بحث دقيق عن ما يهتم به من تخصصات, وفي صيف 2007 تلقى الحسن منحتين دراسيتين كاملتين من كل من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة, والجامعة الأمريكية ببيروت, ومنحة بنسبة 60% من الجامعة الألمانية بالقاهرة. وبعد تفكير قرر الحسن أن يدخل في منحة الجامعة الأمريكية في القاهرة؛ في الوقت الذي كان مجموعه في الثانوية العامة - شعبة الهندسة (99,04%) قد رشحه لكلية الهندسة. "المثير أن من الشروط المطلوبة لمتلقي تلك المنحة أن يكون قد تلقى دراسات خارج المنهج الحكومي؛ الأمر الذي جعلني أدرك فائدة قراراتي وخياراتي القديمة "هكذا يقول الحسن مبتسمًا بثقة". كان الحسن واحداً من اثنين سكندريين تلقيا المنحة التي توجه فقط لشاب واحد وفتاة واحدة من كل محافظة. في العام الدراسي 2007-2008 درس الحسن هندسة الإلكترونيات في الجامعة الأمريكية, وكذلك انضم لبرنامج إعداد وتنمية القادة التي نظمته نفس الجامعة. "بعد انتهاء التيرم فكرت.. ما الذي سأفعله بتخصصي هذا؟ أليس من الأفضل أن أتخصص في مجال أكثر اتساعًا من حيث مجالات الدراسة والتخصصات العملية؟ هنا قررتُ -بعد تفكير- أن أغير مجال دراستي من الإلكترونيات, إلى الفيزياء. كنت أرى في هذا أولاً مجالاً أكاديميًا أكثر اتساعًا, وثانيًا زيادة في تخصصي في العلوم البيئية؛ مما يعطيني فرصة أكبر -مستقبلا- لخدمة المجتمع. وقد كان؛ انضم الحسن لدارسي الفيزياء كتخصص أساسي, واختار مجال العلوم البيئية كتخصص فرعي له. في التيرم الثاني, تعرف الحسن على شخصية يقول إنها ساهمت كثيرًا في بناءه علميًا, وهي الدكتورة مشيرة حسن, أستاذ البيولوجيا بالجامعة الأمريكية. "د. مشيرة علمتني كيف أقوم بتوظيف دراستي في مجال العمل البيئي, وبالتأكيد كانت هذه إضافة كبيرة لي هي صاحبة الفضل فيها بعد الله". ترتيب الأوراق من وقت لآخر في تلك المرحلة, بدأ الحسن يفكر في ما يسميه "مشكلة الهوية".. هل يريد أن يركز على مجال البيئة فقط؟ هل يكتفي بدوره كناشط في مجال حماية المياه؟ ماذا يريد حقًا لنفسه لتكون له إسهاماته الخاصة في مجال خدمة المجتمع؟ وخلال تلقيه دورة دراسية صيفية في الجامعة البريطانية بالقاهرة, كان قد اتخذ قراره بالتركيز على الفيزياء بشكل عام, وتوجيه جهده لمجال جديد هو "علاقة الشباب بالعلم"؛ بحيث يصبح مجاله أكثر اتساعًا, ويصبح نطاق إسهامه المستقبلي الذي يطمح إليه في توظيف علمه لخدمة المجتمع, أكبر وأوسع. أي حياة بلا معنى.. لا تستحق أن تُعاش أترك القلم من يدي, وأضع أوراقي التي دونت فيها بسرعة كل تلك المعلومات لأصوغها فيما بعد, وأسأله: "ألم تشعر وسط كل ذلك -ولو للحظة- أنك ترغب في أن تحيا حياة عادية لشاب عادي؟ فأجابني فورًا: "حياة بلا معنى.. لا تستحق أن تُعاش. ثم أكمل وهو يبتسم ابتسامة من اعتاد هذا السؤال: "أية حياة؟ أن أقضي وقتي بين السينمات والمقاهي ولا يشغلني سوى ألبوم تامر حسني الجديد؟ هل هذه حياة؟" لأكون صادقًا مع القارئ, أقول إن الحسن صديق عزيز ومقرب مني؛ لكني في جلستي تلك معه وجدتني أكتشف منه جوانب أخرى لم أكن أعلمها, أو لنقل لم أدرك أني أعلمها. ربما يتساءل القارئ الآن: "وماذا يهمني في معرفة علاقتك به؟" والإجابة هي أني حريص أن تكون لي مصداقية لدى قارئ الأسطر السابقة حين أقول له: إن الحسن أنس شاب يعيش شبابه بشكل طبيعي دون أن يحول ذلك بينه وبين تحقيقه طموحاته.. وحريص أن يصدقني قارئي العزيز حين أؤكد له أن الحسن ليس كائنًا منطويًا ولا شخصًا منغلقًا محرومًا من متع الحياة, كما يظهر الشاب النابغ في الصورة النمطية المعتادة في الأفلام والمسلسلات؛ بل هو شاب طبيعي جدًا.. يجيد تنظيم وقته وجهده وخططه؛ بحيث يوفق بين طبيعته العامة كشاب, وطبيعته الخاصة كشخص له طموحات كبيرة.. باختصار.. هو شاب متميز.. لكنه في النهاية شاب.. مثلك.. تستطيع ببعض الجهد منك وبعض العون من الله أن تكون مثله, في مجالك. خارج طابور الحياة الأبدي * تنمية ذاتية اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: