تتبنى الولاياتالمتحدة في سياستها الداخلية منظومةً ليبرالية من القيم والمبادئ والأفكار والرؤى والتصورات تتركز في مجملها حول الحرية المطلقة والمساواة وحق المشاركة السياسية لكل أبناء الشعب بشكل ديمقراطي حر, وبات من المستقر في ذهن الشعب الأمريكي أن هذه القيم هي أسمى قيم الخير والصلاح في العالم, وما عدا هذه المنظومة القيمية من المنظومات فهي شر ينبغي على الدولة كما صوِّر للشعب الأمريكي أن تسعى لمحاربتها, وأن تسعى لإحلال قيم الليبرالية محلها في أرجاء العالم, حتى ولو استدعى ذلك التدخل العسكري المباشر وذلك كي يسود السلام والاستقرار ويمحى الشر والظلام.. غير أن صناع السياسة الأمريكية الخارجية لا ينظرون إلى الأمور كما يراها المواطن العادي, فهم لا ينظرون إلى الأمور بمثل هذه النظرة المثالية والطوباوية, وإنما يتصرفون بالطريقة التي تحقق مصالحهم وتحفظها, وتمنع الخصوم والأعداء من منافستهم ومزاحمتهم على الموارد والفرص المصلحية, حتى ولو اقتضى الأمر الكفر العملي بتلك القيم الليبرالية جملةً وتفصيلاً, ولكنهم يرون أنه من الضروري أن تكون ممارساتهم تلك مقنّعة بقناع قيمي وأخلاقي, يصور لشعبهم وشعوب العالم أفعالهم على أنها سعي لنشر الخير ومحاربة الشر ودعم للسلام والاستقرار وحقوق الإنسان وقيم الديمقراطية.. إذاً فالخطاب الأمريكي الإعلامي ملمع ومصاغ للشعوب العاطفية أما ممارسات الولاياتالمتحدة العملية في الواقع فهي مُشكَّلة بما يخدم مصالحها فقط, وقد أشار إلى هذا الباحث الأمريكي الأبرز في حقل العلاقات الدولية جون ميرشايمر وذلك في نظريته التي سماها (الواقعية الهجومية) والتي أوضحها بشكل مفصل في كتابه المأساة في سياسات القوى العظمى. مصالح الولاياتالمتحدة مع نظام مبارك: حافظ النظام السابق بقيادة حسني مبارك على مصالح أمريكية كبرى بإخلاص من أهمها: - حفاظ نظام مبارك على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي وفرت الأمن والاستقرار لإسرائيل, والتي جعلت من مصر بثقلها وموقعها وأهميتها حليفًا استراتيجيًّا مميزًا لإسرائيل, مما وفر على الولاياتالمتحدة وعلى إسرائيل الأعباء الاقتصادية والعسكرية الهائلة فيما لو غابت الحراسة المصرية للجانب الغربي من إسرائيل والتي وفرتها إسرائيل واستثمرتها في التنمية الاقتصادية والصناعية. - حول مبارك ونظامه الدور القيادي المصري للأمة العربية والإسلامية من دور بارز في مواجهة الاحتلال الأجنبي إلى دور قيادي بامتياز للأمتين العربية والإسلامية لمساندة ذلك الاحتلال ودعمه كما حدث في إسرائيل وغزو العراق وأفغانستان. - سيطرة مبارك ونظامه القمعي على الطاقات والتيارات الشعبية المصرية الهائلة, والتي تغذيها روح الدين الإسلامي والتاريخ المجيد والثقافة العربية الأصيلة تلك الطاقات والتيارات الرافضة للخنوع والاستسلام المهين, والتي تطمح إلى سياسة خارجية مشرفة تليق بها وليست كتلك المهينة التي ينتهجها النظام المصري السابق, والذي كبت الشعب وأفقره وسرق ثروته وأمواله؛ لينشغل الشعب المصري بالجري وراء مقومات المعيشة الصعبة وأمور الحياة اليومية المرهقة تحت نظام بوليسي أمني قمعي وحشي لا يرحم. إلى غير ذلك من المصالح التي لا تحصى من بقاء مصر تحت نظام فاسد كدولة مهمشة محيّدة عن الصراع العربي الإسلامي - الغربي وستكون كل تلك المصالح في مهب الريح فيما لو نجحت الثورة المصرية في تحقيق أهداف كبرى حقيقية تؤدي إلى استقلال مصر السياسي التام, وتحقيق المصالح القومية العليا النابعة من عمق الإرادة الشعبية كالتوجه نحو تعزيز الأمن القومي العسكري والاقتصادي والسعي نحو زعامة عربية حقيقية تكون لها الريادة في تكوين تحالفات سياسية استراتيجية مع دول إسلامية كتركيا وإيران ودول عربية بعد مساعدتها على التحرر من السيطرة الأجنبية لتكوّن تحالفات ذات وزن استراتيجي مؤثر في توازن القوى العالمية يشكل خطرًا محتملاً على حلفاء الولاياتالمتحدة في المنطقة وهذا ما يقلق الولاياتالمتحدة بالفعل وهذا ما يسعون إلى تجنبه. وخلال المرحلتين على السواء كرست السياسة الخارجية الأمريكية جهودها على استخدام الدولار استخداما سياسيا فى المعونات الخارجية وهو ما أطلق عليه الاقتصادى الأمريكى سيتوارت سميث "الدولار السياسي حيث وجه انتقادات قاسية لسياسة المساعدات الاقتصادية الأمريكية بوصفها لونا من ألوان السيطرة الجديدة لخدمة الأهداف الأمريكية دون مراعاة المصالح الوطنية للدول المتلقية للمساعدات فالدولار الأميركى لم يتخل عن جنسيته السياسية من خلال المساعدات الأمريكية إلى الخارج. الطابع التركيزى: وعلى مدار المرحلتين أيضا مرحلة الاعتماد على المساعدات الثنائية ثم مرحلة الاعتماد على المساعدات متعددة الأطراف كانت إحدى السمات البارزة الأخرى إلى جانب الدولار السياسى تتمثل فى الطابع التركيزى الشديد للمساعدات الخارجية الأمريكية إذ طبقنا لأولويات الأمن القومى الأمريكى كانت نسبة عالية من المساعدات تذهب إلى عدد محدود من الدول فى العالم الثالث وكانت هذه الدول تتميز غاليا بسيرة أنظمة ديكتاتورية عسكرية معادية للاتحاد السوفيتى ومتعاونة إلى أقصى حد سياسيا وعسكريا وأيديولوجيا مع الولاياتالمتحدة والعالم الغربى وفى المنطقة العربية كانت إسرائيل هى المثل السافر على سيطرة هذه السمة التركيزية للمساعدات الخارجية الأمريكية واشتراطها أوضاع محددة لمنح هذه المساعدات. الترابط العسكرى الاقتصادى: ومنذ بروز الدور العالمى للولايات المتحدةالأمريكية كقوة كبرى بعد الحرب العالمية الثانية كان هناك ترابط وثيق بين المساعدات الاقتصادية والمساعدات العسكرية فنادرا ما كانت هناك مساعدات اقتصادية دون أن ترتبط بمساعدات عسكرية ويعكس هذا الارتباط طابع الاستراتيجية الأمريكية فى تعبئة وتقوية أنظمة معينة معادية للسوفيت بشكل خاص وخلال سنوات الخمسينات يقدر بنحو ثلثى المساعدات الخارجية الأمريكية كانت عبارة عن مساعدات عسكرية أما المساعدات الاقتصادية فقد كانت تتمثل فى الثلث المتبقى غير أن سنوات الستينات شهدت تراجعا فى نسبة المساعدات العسكرية إلى 40% فقط من إجمالى المساعدات الأمريكية وكان ذلك راجعا إلى الإخفاق المتزايد للسياسة الخارجية الأمريكية فى الخمسينات ونتيجة لسياسة كيندى التى كانت تقول بضرورة الاحتفاظ بموطئ قدم عند الباب وهو ما كان يفرض بالضرورة الاحتفاظ بأرقام للمساعدات الاقتصادية ولو بشكل رمزى مع أكبر عدد من الدول ذات المواقع الهامة استراتيجيا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا فى العالم الثالث وقد انتهت هذه السياسة بنهاية الستينات حيث قفزت نسبة المساعدات العسكرية مرة أخرى إلى نحو ثلثى إجمالى المساعدات الخارجية الأمريكية وذلك على الرغم من إعلان سياسة الانفراج بين القطبين الأعظم. حماية وتشجيع الاستثمارات الأمريكية: وإلى جانب الدور الذى تقوم به المساعدات الخارجية الأمريكية فى تحقيق الأهداف الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة فإن هذه المساعدات تقوم بدور هام فى ضمان وتشجيع الاستثمارات الأمريكية فى الخارج بما يفتح الباب دائما لفرص كبيرة من النمو والتوسع أمام الاقتصاد الأمريكى ورجال الأعمال الأجانب وتقوم المساعدات الأمريكية بأداء هذا الدور على مستويين مختلفين هما: المستوى الأول: يتمثل فى ضمان أسواق للصادرات الأمريكية وخصوصا الصادرات العسكرية وفائض الغذاء الأمريكى وكلاهما يتم استخدامه لأغراض سياسية إذ أن التسهيلات الائتمانية والقروض الأمريكية إنما تمنح لشراء بضائع أمريكية فى الأساس يتم شحنها أيضا على وسائل نقل أمريكية وتستفيد من ورائها شبكة واسعة من رجال الأعمال وأصحاب الخبرة والفنيين من الولاياتالمتحدة أما المستوى الثانى، فإنه يتمثل فى استخدام المساعدات كرشوة للدول المتلقية من أجل أن تصدر تشريعات وقوانين لضمان وتأمين الاستثمارات الأجنبية، وإعطاء حوافز لرأس المال الأجنبى الذى يعمل فى أراضيها، بما يخلق فرص أعمال مضمونة أمام قطاع الأعمال فى الولاياتالمتحدة ويضمن بذلك مزيدا من التحويلات الخارجية إلى الاقتصاد الأمريكى، فى صورة موارد وأرباح وفوائد، ترفع مستوى الرفاهية والاتفاق العسكرى على السواء فى الدولة الأولى داخل العالم الرأسمالى. دعم القطاع الخاص المحلى: إن أهداف المساعدات الاقتصادية الخارجية للولايات المتحدة هو التأثير فى هياكل الإنتاج والهياكل المؤسسية فى اقتصاديات البلدان المتلقية للمساعدة من أجل أحداث تغييرات تشجع على بناء توليفة اقتصادية اجتماعية مستقرة على أرضيه من النمو الرأسمالى فى إطار التبعية للنظام الرأسمالى الدولى وتوجه المعونة الأمريكية فى الأساس نحو البنية التحتية اللازمة للاستثمار الخاص، خصوصا فى القطاعات الأولية مثل الزراعة والصيد والصناعات الاستخراجية، أو صناعات تجهيز منتجات هذه القطاعات ولا تهتم المساعدات الاقتصادية الأمريكية بإجراء تحويلات هيكلية أساسية بهدف تحقيق تنمية اقتصادية ترتكز على تنويع الإنتاج وتوزيع عادل للدخل، وعلاقات متكافئة مع العالم الخارجى وفى سبيل خدمة مصالح القطاع الخاص المحلى فى الدول المتلقية للمساعدات الأمريكية، فإنه عادة ما تتم ضغوط عديد لتقليص دور الدولى فى الاقتصاد وتقليص حجم القطاع العام، وإتاحة المزيد من الحوافز للاستثمار الفردى ومزيد من الضمانات لنشاط رجال الأعمال سواء فى التجارة، أو فى مجالات الإنتاج الأخرى. -- كاتب المقال دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية