بطاركة الكنيسة القبطية 118 بطريركًا تعاقبوا على كرسى مار مرقس منذ بداية النصف الثانى من القرن الأول الميلادى، وهو تاريخ دخول المسيحية مصر وحتى الآن، بداية من القديس مرقس الرسول إلى قداسة البابا تواضروس الثانى الذى يحمل الرقم 118، وخلال 20 قرنًا تقريبًا ارتبط هؤلاء البطاركة بالدولة والمجتمع المصرى، عبروا عنه وحملوا همومه. فى هذه السلسلة نقدم نبذة سريعة عن بطاركة الكنيسة القبطية للتعريف بهم وبدورهم ورسالة كل منهم. منذ ظهرت الأريوسية على أرض مصر، عاشت الكنيسة المصرية فترات صعبة جداً، ومواجهات كانت أحياناً دموية، إلا أن الكنيسة المصرية ظلت قائمة، تقاوم كل فكر خارج عن إيمان مرقس الرسول، البطريرك الأول لها. والحقيقة أن كرسى الإسكندرية تأثر كثيرا بمواجهة الأريوسيين الذين عملوا كثيرا على هدمه، بل كانوا هم البذرة الأساسية فى أن يفقد ترتيبه الأول ضمن الخمس كراسى الشرقية، وذلك لأن الأريوسيين كان هدفهم تحطيم العقيدة الأرثوذكسية فى مصر، لأن المصريين كانوا أكبر المقاومين لهم وأعظمهم شأناً، وكانوا ذوى صلابة شديدة. هكذا ظلوا بطاركة الكنيسة المصرية حماة لعقيدتها، فلم يكن البابا أثناسيوس الرسولى فقط من وقف أمامهم ونال من بطشهم، فبعد رحيله تم اختيار بطرس، تلميذه ليصبح البطريرك ال 21، وكان هو البابا بطرس الثانى. نشأ البابا بطرس الثانى بالإسكندرية، وتتلمذ على يدي البابا أثناسيوس، تشرب منه الحياة الإيمانية والغيرة على الكنيسة، فأحبه البابا ورسمه كاهنًا بالإسكندرية. وعندما طلب القديس باسيليوس من يسنده فى مقاومة الأريوسية، أرسله البابا أثناسيوس ومعه من يعاونه، فقاموا برسالتهم على أكمل وجه، وعادوا إلى الإسكندرية ليكون سكرتيرا له، وكأنه كان يعده كخلفٍ له. وبالفعل تمت رسامته خلفا له، وكان الأريوسيون فى ذلك الوقت يطمعون فى الكرسى، لكن الشعب مع الكهنة أسرعوا برسامته، فسيم بطريركًا سنة 373 م. مما أثار غضب فالنس الأريوسى، الذى امتلأ غضبًا وحنقًا على الأقباط بسبب هذه السيامة حيث وجد الأريوسيون أن فرصتهم قد ضاعت بسيامة البابا بطرس الثانى بطريركًا، لكن وجود فالنس الإمبراطور الأريوسى، شجعهم على الشكوى ضد البابا بأنه لا يستحق هذا المركز، فوجد فالنس فرصة للانتقام، وبعث إلى والى الإسكندرية «بلاديوس» يأمره بنفى البابا بطرس، وإقامة لوسيوس الأسقف الأريوسى بدلًا منه. كان لوسيوس هذا مصريًا نال الأسقفية بطريقة غير شرعية خارج البلاد، طمع فى الكرسى المرقسى، وإذ دخل الإسكندرية ذهب إلى بيت والدته، وقد ثار المؤمنون ضده، وخشى الوالى من قيام ثورة فقام بطرده خارج مصر لينجو بحياته، إلا أنه عاد إليها بأمر الإمبراطور، حيث انطلق لوسيوس إلى مصر ومعه كتيبة ضخمة تحت قيادة ماجينوس، أمين خزينة الملك، وأوزوسيوس البطريرك الدخيل. هجم القائد بجنده على الكنيسة، وقد حال المؤمنون دون بلوغ الجند إلى البابا بطرس الثانى، الذى وتحت ضغط المؤمنين ولسلامهم اضطر إلى الهروب والاختفاء فى قصر مهجور على شاطئ البحر، حيث كتب من هناك رسالة رعوية لشعبه يثبتهم على الإيمان، بينما فتك الجند ببعض المؤمنين منتهكين المقدسات الإلهية. أبلغ الوالى الإمبراطور بهروب البابا فقام بإلزام الأساقفة بالخضوع للوسيوس والتعاون معه، ومن يخالف الأمر يُنفى. أما البابا بطرس فانطلق إلى روما حيث قوبل بحفاوة بالغة، وذلك تكريما لدور البابا أثناسيوس ودفاعه المجيد عن الإيمان فى مجمع نيقية، وهناك التقى بأسقف روما داماسوس، وشجعه على عقد مجمع لحرم الأريوسيين، وأرسل القرارات إلى الأسقف الشرعى لإنطاكية ميليتوس، ولم يرسل إلى أسقف إنطاكية الأريوسى الدخيل. وقام ميليتوس بعقد مجمع بدوره حضره 146 أسقفًا وافقوا بالإجماع على قرارات المجمع الرومانى، وبهذا أعاد البابا الإسكندرى علاقات الود بين روما وإنطاكية. أما فى مصر فاقتحم لوسيوس الكرسى المرقسى، لكنه لم يستطع أن يكسب محبة الناس، فهجره جميع المؤمنين، وإذ مُنعوا بالقوة الإجبارية من الصلاة بدونه لزموا بيوتهم، رافضين مشاركتة فقام بعملية تخريب وبطش فى الكنيسة، لا فى داخل المدينة فحسب، وإنما أرسل الجند إلى البرارى يفتكوا بالنساك، حتى الشيوخ منهم. كما رسم أساقفة أريوسيين ليحتلوا مراكز الأساقفة المنفيين، فكانوا أساقفة بلا شعب. ويذكر تاريخ الكنيسة أنه كان فى ذلك الوقت بعض القبائل العربية التى على حدود مصر والشواطئ الآسيوية تكتلت معًا وأقامت دولة تحت قيادة ملكة اسمها موفيا، لم تكن مسيحية، لكنها أرادت إرضاء شعبها الذى ضم مسيحيين كانوا على علاقة طيبة بمصر، وكان من بينهم راهب متوحد قبطى يدعى موسى، أرادوا سيامته أسقفًا عليهم، وإذ انهار فالنس أمام هذه القبائل طلب عقد معاهدة صلح فاشترطت سيامة موسى هذا على يدى الأساقفة فى الإسكندرية، فوافق. ذهب الراهب المتوحد موسى إلى الإسكندرية ومعه نواب الإمبراطور، وإذ عرف أن لوسيوس الأريوسى اقتحم الكرسى رفض السيامة على يديه، وعبثًا حاول نواب الإمبراطور إقناعه طلب الراهب أن يعود إلى بريته ولا يُسام على يد هرطوقى، الأمر الذى يسبب مخاطر بين فالنس والقبائل هناك. أخيرًا، اضطر النواب أن يأتوا بأساقفة أرثوذكس من المنفى لسيامته وسط فرح الإسكندريين وتهليلهم، وقد استطاع الأسقف موسى أن يكسب الملكة موفيا من الوثنية إلى المسيحية، كما قام بدورٍ مهم بالنسبة لكنيسة الإسكندرية بكونها الكنيسة الأم بالنسبة له. من جانب آخر قامت ميلانيا ابنة قنصل إسبانيا فى البلاط الإمبراطورى التى زارت مصر، بمساندة الأساقفة المنفيين واهتمت باحتياجاتهم. وعندما انشغل فالنس بالحرب مع الفرس رجع البابا بطرس من رومية بعد أن قضى بها حوالى خمس سنوات، فاستقبله الشعب بكل حفاوة وطردوا لوسيوس الدخيل الذى انطلق إلى فالنس يشتكى شعب الإسكندرية، وفى نفس العام قُتل فالنس وخابت آمال لوسيوس. كان للبابا بطرس الثانى دورا كبيرا فى القسطنطينية والتى كانت قد تمزقت بسبب الهرطقات، فأرسل الإمبراطور ثيؤدوسيوس إلى البابا الإسكندرى بطرس الثانى ليهتم بها. وبالفعل بذل كل جهدٍ لإصلاح شأنها حتى تسلم القديس غريغوريوس النزينزي هذه الإيبارشية كطلب شعب القسطنطينية يعاونه فى ذلك البابا بطرس، وقد قبل غريغوريوس اللاهوتى الأمر بعد ضغط شديد. وهكذا ظل البابا بطرس الثانى مقاوما للاريوسية، لكنه رحل سريعًا، وذلك بعد أن مكث على كرسى مارمرقس8 سنوات، خمسة منهم كان هاربا، مقاوما ومثبتا للمسيحيين على إيمانهم. بعد رحيله تولى من بعده أخيه تيموثاوس ليصبح البطريرك ال 22 باسم البابا تيموثاوس الأول، والذى عرف بالفقير، حيث باع كل ما يملك قبل أنت يتجه للنسك. البابا تيموثاوس الأول هو أخ البابا بطرس الثانى (21) وخليفته، ولد بالإسكندرية، وتعلم فى مدرستها اللاهوتية، حيث تتلمذ أيضاً على يدي القديس أثناسيوس الرسولى الذى رأى فيه إنسانًا تقيًا غيورًا ذا ثقافة عالية، فسامه كاهنًا ليخدم شعب الإسكندرية، ويكون بمثابة اليد اليمنى لمعلمه، إذ رافقه فى كثير من رحلاته، وذهب معه إلى مجمع صور سنة 335 م. حيث أثبت براءة معلمه عندما جاء الأريوسيون بامرأة زانية تتهم البابا أنه ارتكب معها الشر، فقام تلميذه يتحدث كأنه هو البابا، فصارت المرأة تصر أنه هو الذى صنع معها الشر، فانفضحت خديعتها. كان معينًا للبابا أثناسيوس فى مقاومة الأريوسية، وفى عهد البابا بطرس الثان ، بدأت البدعة الأريوسية تنتشر في القسطنطينية أرسل الإمبراطور يستغيث ببابا الإسكندرية الذى رشح القديس غريغوريوس النزينزي للعمل، كما أرسل جماعة من الكهنة برئاسة أخيه الكاهن تيموثاوس كانوا خير سند للقديس غريغوريوس. ولما رحل أخيه عن سدة الكرسى المرقسى وقع الاختيار عليه فى سنة 379 م. حضر المجمع المسكونى الثانى بالقسطنطينية عام 381 م. فواجه بدعة مقدونيوس ووضع باقى قانون الإيمان النيقوى، والذى لازال يستخدم كاملا فى الكنائس القبطية كجزء أساسى من صلوات القداس اليومى، إلا أن هذا المجمع شهد إنسحاب البابا تيموثاوس وأساقفته، ذلك بعدما جعل المجمع كرامة الإسكندرية بعد روما بكونها العاصمة، والقسطنطينية بكونها روما. وعاد البابا إلى الإسكندرية ليهتم بالعمل الرعوى وترميم الكنائس، وكذلك ظل يقاوم البدع الكثيرة التى ظهرت فى عهده من كل حدب وصوب. اهتم البابا تيموثاوس منذ عودته إلى الإسكندرية، بكتابة تاريخ لحياة كثيرين من القديسين، ووضع قوانين للكهنة، وفى أيامه بنيت عدة كنائس ورجع الكثيرون من اتباع آريوس إلى إيمانهم بالعقيدة الأرثوذكسية الفعلية. ويذكر التاريخ الكنسى أن من أهم أعماله الاهتمام ببناء كنائس جديدة وترميم الكنائس القديمة خاصة بالإسكندرية وحولها، حيث بنى العديد من الكنائس وجدد ورمم االكنائس التى كانت تحتاج لإصلاح، وقد تميز هذا البابا بأنه كان عالماً غزير المعلومات اللاهوتية ذا ثقافة وذا منطق، وهو الأمر الذى ساعده فى رد كثيرين من أتباع أريوس ومقدنيوس إلى الإيمان الأرثوذكسى. يذكر التاريخ أيضا بإنه قام بإصدار قوانين وقرارات كنسيُة جديدة، حيث أصدر مجموعة من التعليمات للأساقفة والقسوس بهدف الإصلاح، لكى يهتدون بها فى أدائهم لكافة أمور الخدمة، من أهمها أن يتحمل الكاهن على نفسه مسئولية إذ هو رفض إتمام عقد زواج يظنه غير قانونى. وعدم إجازة الصلاة على المنتحر، وغيرها من القوانين التنظيمية. وهكذا ظل البابا تيموثاوس على كرسى مرقس الرسول لمدة ست سنوات، سجل فيها العديد من الأحداث وشهدت الكنيسة نهضة فى العديد من النواحى على الرغم من ظهور العديد من البدع، كان دائما يقف أمامها معلما لشعبه ومنارة لهم، ثم جاء من بعده البابا ثاؤفيلوس الذى استمرت حبريته 27 سنة، وهو ما سنتحدث عنه الحلقة القادمة بإذن الله.