بطاركة الكنيسة القبطية 118 بطريركًا تعاقبوا على كرسى مار مرقس منذ بداية النصف الثانى من القرن الأول الميلادى، وهو تاريخ دخول المسيحية مصر وحتى الآن، بداية من القديس مرقس الرسول إلى قداسة البابا تواضروس الثانى الذى يحمل الرقم 118، وخلال 20 قرنًا تقريبًا ارتبط هؤلاء البطاركة بالدولة والمجتمع المصرى، عبروا عنه وحملوا همومه. فى هذه السلسلة نقدم نبذة سريعة عن بطاركة الكنيسة القبطية للتعريف بهم وبدورهم ورسالة كل منهم.
حلقة هذا العدد من حلقات « الكنيسة والدولة» هى حلقة استثنائية وخاصة جدًا، وذلك لأن البابا الذى سنتحدث عنه فى هذا العدد هو بطريرك استثنائى لما شهده وعاشه طوال فترة جلوسه على كرسى مارمرقس من اضطهاد ونفى ومضايقات كثيرة، إلا أنه صمد أمامها شامخًا كالجبال، لم يخشَ شيئًا حتى إنهم قالوا له «العالم كله ضدك»، فكان رده الأشهَر فى تاريخ الكنيسة المصرية عندما قال: «وأنا ضد العالم».
ليس فقط هذا هو السبب الذى يجعل من حلقتنا استثنائية؛ وإنما لأن الكنيسة القبطية تقيم الشهر المقبل مؤتمرًا عالميًا يستمر على مدار ثلاثة أسابيع بمناسبة مرور 17 قرنًا على مجمع نيقية، وهو المجمع الذى واجه فيه هذا البطريرك مَن أرادوا شَق الكنيسة بشجاعة ووقف ضدهم إلى أن أقر المجمع بحرمانهم، وهو لم يكن اعتلى الكرسى المرقسى آنذاك. إنه البابا أثناسيوس الرسولى البطريرك ال20 من بطاركة كنيسة الإسكندرية، ولأنه بطريرك استثنائى قام المجمع المقدس للكنيسة القبطية برفع توصية صادرة عن لجنة الطقوس، وذلك فى ضوء احتفالات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمرور 17 قرنًا على مجمع نيقية. والسؤال الآن.. مَن هو البابا أثناسيوس الذى لقب ب«الرسولى» وب«حامى الإيمان»؟ هو شاب مصرى، البعض يقول إنه وُلد فى الصعيد ثم جاء إلى الإسكندرية، والبعض يقول إنه من مواليد الإسكندرية، إلا أن طريقه بدأ عندما رآه البابا ألكسندروس (19) وهو مُطِل من شرفة البطريركية يقوم بدور عِماد أصدقاء له على شاطئ البحر، فاستدعاه وحاوَره فأحبّه وقبله تلميذًا له وسكرتيرًا خاصًا؛ حيث ركز بالأكثر على الدراسة العلمية والفلسفية والأدبية والقانونية، وأعطى اهتمامات للدارسات الإنجيلية اللاهوتية على أساس آبائى. أمّا بالنسبة للجانب النسكى فقد تتلمذ فترة لدى الأنبا أنطونيوس مؤسِّس الرهبنة فى العالم والذى زرع فيه زهد العالم وحبه للعبادة والتأمل مهابة الموت. يظهر نضوجه المبكر من كتاباته وأشهَرهم «ضد الوثنيين»، الذى وضعه قبل عام 319م؛ حيث دعا فيه الوثنيين إلى ترك الوثنية. لمع نجم أثناسيوس عندما واجَه أريوس فى مجمع نيقية وكان لا يزال الشماس الخاص بالبابا ألكسندروس، إلا أنه استطاع أن يفند ادعاءات أريوس فانتهى بحرمانه ووضع قانون الإيمان النيقاوى والذى لا يزال يُصلَّى به حتى الآن. بعد رحيل البابا ألكسندروس حاول أثناسيوس الهروب حين وجد رجال الإكليروس مع الشعب يلحون على سيامته أسقفًا للإسكندرية (عام 328م)، ما عدا قلة من الأريوسيين والميليتيين (أتباع ميليتس أسقف أسيوط الذى أنكر الإيمان أثناء الاضطهاد ثم عاد فحرّض الأساقفة على الانشقاق، وحاول اغتصاب الكرسى الباباوى حينما كان القديس بطرس خاتم الشهداء مسجونًا). إلا أنه تمَّت رسامته أسقفًا على الإسكندرية وبابا للكرازة وهو شاب (نحو الثلاثين من عمره)، وقد بقى سبع سنوات فى جَوّ من الهدوء، قام فيها برسامة فرمنتيوس أسقفًا على أكسوم بأثيوبيا (الأنبا سلامة)، وكان ذلك بداية تأسيس كنيسة أثيوبيا، نحو سنة 330م.. وفى هذه الفترة قام بزيارة رعوية لصعيد مصر، فيها التقى بالقديس باخوميوس الذى هرب من لقائه حتى اطمأن أنه لن يرسِّمَه كاهنًا. ظل الأريوسيون مع الميليتيين يعملون على تحطيم البابا أثناسيوس لمدة 40 عامًا كاملة؛ حيث ظلوا على اتصال بيوسابيوس أسقف نيقوميديا يدبرون الخطط لتحطيمه، فقد بقى نحو أربعين عامًا لا يعرف طعم الراحة؛ حيث تم نفيه 5 مرات.. حيث ادعوا مرة بأن البابا أثناسيوس هدد بمنع إرسال القمح من الإسكندرية إلى القسطنطينية، فهاج المَلك ونفاه إلى تريف، وكان ذلك فى فبراير 336 م. فى جرأة قال البابا للإمبراطور: « الرب يحكم بينى وبينك». وفى مرة أخرى قام الأريوسيون بأعمال شغب وتخريب وقتل لإثارة الإمبراطور بأن وجود البابا ينزع السلام عن الإسكندرية، كما وجّهوا ضده اتهامات كاستيلائه على القمح الخاص بالفقراء، وإعلانهم أن عودته غير كنسية لأنها من دون قرار مجمعى، وقد نزل القديس أنبا أنطونيوس يساند البابا المتألم. ولم يقف ما عاناه البابا أثناسيوس عند ذلك فقط؛ ففى نهاية 338م قام الإمبراطور بعقد مجمع فى إنطاكية، صدر فيه قرار بعزل البابا أثناسيوس، صدر الأمر وانطلق الرعاع إلى كنيسة ثيؤناس لقتله، فهرب البابا. تعرّض الكهنة والرهبان مع الشعب حتى النساء إلى موجة مرة من العذابات بل وذُبح البعض وسُجن آخرون، وبعد أربعة أيام دخل غريغوريوس الكبادوكى كأسقف للمدينة يضطهد المؤمنين. لم يقف الرهبان مكتوفى الأيدى؛ فقد أرسل القديس أنبا أنطونيوس عدة رسائل منها إلى الأسقف الدخيل وبعض الضباط يؤنبهم عن تصرفاتهم، كما بعث القديس باخوميوس أفضل راهبَيْن عنده هما زكاوس وتادرس ليسندا المؤمنين بالإسكندرية فى غيبة البابا. فى هذه الفترة سافر البابا أثناسيوس إلى روما ليحصل على قرارات ضد عزله وكان ذهابه إلى روما بداية لانتشار الرهبنة فى الغرب وتشبّع الفكر اللاتينى بلاهوتيات أثناسيوس. ظل البابا أثناسيوس ما بين هروب ونفى، إلا أنه كان هروبه ليس خوفًا من البطش به؛ بل لا يستطيع مواجهة الأريوسية والبدع التى انتشرت فى وقته فترك للكنيسة إرثًا فى اللاهوتيات لا يعوّض ولا يقدَّر بثمن؛ حيث ظل فى منفاه الاختيارى يتنقل من دير إلى دير ومن موضع إلى آخر، يرعى أولاده خلال كتاباته العميقة؛ حيث كتب سيرة الأنبا أنطونيوس، ودفاعه عن هروبه، وأرسل خطابات إلى أساقفة مصر وليبيا ولوسيفر أسقف كالاريس وإلى الرهبان المصريين، وأربع مقالات ضد الأريوسيين، وخمس رسائل عقائدية لسيرابيون أسقف تمى، وخطابات عن الروح القدس، وكتاب المجامع. ظلت فترة حبرية البابا أثناسيوس مضطربة إلاّ أنه وفى النهاية وتحت ضغط الشعب رجع أثناسيوس إلى كرسيه. وعاد البابا من نفيه الخامس وقد بلغ نحو السبعين من عمره ليمارس رعايته لشعبه؛ خصوصًا فى تطهير البلد من كل فكر أريوسى. فى عام 369م عقد مجمعًا بالإسكندرية من 90 أسقفًا للاهتمام بالفكر الإيمانى المستقيم، وبقى عاملًا حتى بلغ الخامسة والسبعين من عمره ليُسَلم للأجيال وديعة الإيمان المستقيم بلا انحراف. وهكذا أصبح البابا أثناسيوس الرسولى أيقونة مهمة وكبيرة من أيقونات الكنيسة المصرية ويصبح منارة للعديد من الكراسى الموجودة فى بقاع العالم وليست فى مصر فقط.. ويظل أثناسيوس الرسولى حتى يومنا هذا مثالاً للمقاومة فى الحق فيكون قدوة للكثيرين حول العالم كله. 1