لم يكن بالمدير العادى لوكالة الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد). كان استثنائيا – كما وصفه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو – فأثناء فترة توليه الموساد من 2016 وحتى تقاعده فى يونيو 2021 قاد يوسى كوهين وأشرف على أخطر العمليات الاستخباراتية ومنها عملية سرقة الأرشيف النووى الإيرانى السرى فى طهران وتهريبه خارج البلاد، وعملية اغتيال خبير الطائرات المسيّرة فى حماس، محمد زوارى، فى تونس، وخبير الصواريخ فى حماس، فادى محمد البطش، فى ماليزيا، ورئيس البرنامج النووى الإيرانى، محسن فخرى زاده، فى إيران. وعملية اغتيال عماد مغنية، الذى كان رئيساً لأركان العمليات فى "حزب الله". رغم تقاعده منذ أكثر من 4 سنوات يعود يوسى كوهين المدير السابق الى الأضواء مرة أخرى عقب صدور كتابه والذى يحمل عنوان "بالأحابيل تصنع لك حرباً" بنسخته الصادرة باللغة العبرية، بينما يحمل الكتاب عنواناً مختلفاً باللغة الإنجليزية هو "سيف الحرية: إسرائيل الموساد والحرب السرية"، فى نهاية سبتمبر الماضي.
الكتاب ليس مذكرات شخصية وإنما مذكرات فى التجسس وإدارة الأزمات. فالكتاب وثيقة سياسية صاغها كوهين لقراءة الشرق الأوسط من منظور أمنى لرجل تنقل بسهولة بين العمليات السرية والغرف السياسية رفيعة المستوى بصورة مذهلة وأشرف على عمليات نوعية جعلته مقربا من نتنياهو ومرشحا لخلافته.
كوهين شغل أيضا منصب المسؤول الإسرائيلى الأول عن إدارة علاقات إسرائيل السرية إلى حد كبير مع مختلف الدول العربية. وقد التقى مراراً بممثلين عن مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر، وساعد فى التفاوض على زيارة نتنياهو إلى عُمان عام 2018. وترددت معلومات عن لقائه رئيس المخابرات السودانية، إلا أن المخابرات السودانية نفت ذلك. وكان كبير المفاوضين الإسرائيليين فى إبرام اتفاقية السلام مع عدد من الدول العربية.
تفاصيل كثيرة ومعلومات مثيرة يكشف عنها يوسى كوهين فى كتابه عن العمليات التى أشرف عليها، وعن رؤيته لموازين القوى بين إسرائيل وبلدان الشرق منطقة الأوسط من منظور رئيس الموساد السابق..!
الأهم بالنسبة لنا فى هذا الكتاب سيف الحرية هو كيف قرأ كوهين العلاقة مع مصر، وكيف ينظر إليها واحد من أقوى وأخطر أجهزة الاستخبارات فى العالم أو فى منطقة الشرق الأوسط على أقل تقدير وهو الموساد الإسرائيلي.
ما جاء فى كتاب يوسى كوهين عن مصر شهادة "شاهد من أهلها" وشهادة "عدو" لقيمة وثقل مصر فى المنطقة، فمصر – كما جاء فى الكتاب- تحتل مكانةً غير مألوفة بين الأطراف الإقليمية التى يناقشها كوهين. فهى "لا تظهر كثيرًا، ولكن عندما تظهر، يُغيّر وجودها مسار السرد".
ويعترف مدير الموساد السابق فى كتابه تعليقا على تعامله مع الرئيس عبد الفتاح السيسى على وجه الخصوص بأن "قرارات مصر يمكن أن تحدد حدود طموحات إسرائيل، فتغيير موازين القوى مع بلدان منطقة الشرق الأوسط يتوقف دائما عند حدود القاهرة. وهو اعتراف نادرا ما يتم البوح والتصريح به فى الكتابات الاستراتيجية الإسرائيلية.
يكشف كوهين عن تفاصيل مهمة عن بدايات حرب غزة وخطة التهجير للفلسطينيين إلى سيناء وهى المبادرة التى قادها بنفسه بدعم من رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، ففى مواجهة احتمال التعرض لانتقادات دولية بسبب الخسائر البشرية الكبيرة بين المدنيين، صاغ كوهين مقترحًا لإنشاء ممر إنسانى واسع من غزة إلى سيناء.
الخطة، التى أصرّ على أنها مؤقتة، تطلبت التنسيق مع القوى الكبرى. يروى كوهين استعداده للسفر إلى واشنطن ولندن وطوكيو وبكين ونيودلهى للحصول على ضمانات مكتوبة. ولكنه يعترف بأن كل هذه الجهود كانت تتوقف على قرار واحد، كما كتب فى الجملة الأكثر أهمية فى الكتاب: فى نهاية المطاف، رفض الرئيس السيسى المبادرة.
يعرض كوهين فى كتابه، الرفض المصرى بوضوح، دون أى تجميل. إلا أن تداعياته واضحة. كان بإمكان إسرائيل الحصول على دعم الولاياتالمتحدة وعدة قوى عالمية أخرى، لكن الخطة باءت بالفشل لحظة رفض القاهرة. يقول كوهين فى كتابه: "لا يتم التعامل مع موقف مصر باعتباره عقبة يجب التفاوض بشأنها، بل هو قرار سيادى يحمل فى طياته النهاية. ويوضح أن المسؤولين المصريين فهموا المنطق وراء اقتراحه، ولكنهم خشوا من أن ما وصفه بالنزوح المؤقت قد يتحول بسرعة إلى نزوح دائم.
لا يُجادل فى هذا التقييم، ولا يُشير إلى أنه كان بإمكان إسرائيل تقديم ضمانات أقوى. بل يصف الرفض ببساطة، بالإقرار ب "الثقل الاستراتيجى لمصر الكامن وراءه - أى وراء رفض خطة التهجير- يشعر القارئ للكتاب بأن نقطة التحول بالنسبة لكوهين لم تكن الفشل الاستخباراتى المحيط ب عملية 7 أكتوبر 2023 فحسب، بل أيضاً الحقيقة الدبلوماسية المتمثلة فى أن إسرائيل لا تستطيع تنفيذ استراتيجيتها المفضلة من دون موافقة مصر.
ف"الشرق الأوسط الجديد" الذى يسعى كوهين إلى وصفه، والذى بنى حول التحالفات المتغيرة، والتعاون التكنولوجى، وإعادة ترتيب التحالفات فى الخليج، يلتقى بالحدود فى اللحظة التى يصل فيها إلى الحدود الغربية لمصر.
بالنسبة لى فإن قيمة كتاب "سيف الحرية" لا تكمن فى إعادة سرد الأزمات الإقليمية المألوفة، بل فى النظرة الخاطفة التى يقدمها إلى كيفية تفسير المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لخيارات القاهرة. فمصر التى يخرج بها يوسى كوهين ليست مجرد لاعب سلبى يستجيب للضغوط الخارجية، بل هى دولة تحدد حدود ما يمكن للآخرين أن يحاولوا القيام به.
يعدد كوهين عدة قوى يعتقد أنها ستُشكل المنطقة فى السنوات القادمة، القيادة الخليجية، والسياسة الأمريكية، والطموحات النووية الإيرانية. ومع ذلك، فإن التدخل الأكثر حسمًا فى روايته هو سطر قصير يُقر فيه برفض مصر التعاون مع خطة اعتبرها أساسية. ولا يصور الكتاب هذا الأمر على أنه فشل دبلوماسى أو سوء فهم لمصر، بل يقدمه كواقع إقليمي.
وبنظرة واقعية فإن كتاب "سيف الحرية" يتيح نافذة نادرة على حدود القوة الإسرائيلية كما يراها الكثيرون من داخل النظام الذى غالبًا ما يتخيل نفسه بلا قيود. كما يؤكد على أمر أدركه المصريون منذ زمن طويل، وهو أن بلادهم تلعب دورا محوريا وثابتا فى المنطقة، ليس من خلال الخطابات أو الطموحات، بل بفضل قرارات ملموسة متجذرة فى السيادة والاستراتيجية.
يروى كوهين قصتين فى آنٍ واحد. إحداهما قصة صمود إسرائيل، وخبرتها الاستخباراتية، ووضوحها الاستراتيجي. أما القصة الأخرى، التى تلوح باستمرار بين السطور، فهى قصة نظام إقليمى لا تزال مصر طرفًا حاسمًا فيه. وهذه القصة الثانية هى التى تعطى الكتاب أهميته الدائمة.
يتوهج عقل يوسى كوهين ويشع بتفاخر عندما يسرد تفاصيل العمليات فى إيران أو عمليات الاغتيال التى أشرف عليها، والعلاقات مع دول الخليج أو ما يوصف باتفاقيات إبراهيم، وتشكل هذه النظرة للعالم نظرته إلى الدول العربية. فكثير منها، فى روايته، ساحات نفوذ أو شركاء مؤقتين، حيث يمكن للدبلوماسية والاستخبارات الإسرائيلية أن تُغيّر موازين القوى.
لكن عندما يتطرق إلى القاهرة، تتغير نبرته. "فمصر ليست دولة تُجرّ إلى هندسة إقليمية، بل هى دولة تُحدد قراراتها إمكانية تحقيق هذه الهندسة "بالتالى لا ينطبق هذا النمط على القاهرة".
ويبدو كوهين مستعدا للكتابة مطولا عن شخصيات إقليمية أخرى، ولكنه يتعامل مع القيادة المصرية بدرجة من المسافة، مما يوحى، ربما عن غير قصد، بأنها تقع خارج دائرة الجهات الفاعلة التى تعتقد إسرائيل أنها قادرة على تشكيلها.
كتاب يوسى كوهين مدير الموساد الأسبق، والمرشح لخلافة نتنياهو، شهادة واضحة على قيمة مصر ودورها مواقفها الواضحة والثابتة وثقلها الاستراتيجى فى المنطقة.