يهل علينا شهر رمضان كل عام بكل نفحاته وفضائله، وثمار الخير التى نجنى منها الثواب والأفضال، ولعل أهم ما يميز الشهر الكريم وهو الاعتكاف، وهو سنة مؤكدة عن النبى صلى الله عليه وسلم. والاعتكاف هو لزوم المسجد بنية مخصوصة، لطاعة الله تعالى، وهو مشروع مستحب باتفاق أهل العلم، وله فوائد عدة، أهمها تطهير القلب من كل ما يشوبه من مشاعر سلبية أو غير مستحبة، بالإضافة إلى التفرغ الكامل لطاعة الله، وإعادة العلاقة مع الخالق بعد لهو مشاغل الحياة. فكما أن الصيام درع للقلب يقيه مغبة الصوارف الشهوانية، من فضول الطعام والشراب والنكاح، كذلك الاعتكاف، ينطوى على سر عظيم، وهو حماية العبد من آثار فضول الصحبة، فإن الصحبة قد تزيد على حد الاعتدال. وفى الاعتكاف أيضًا حماية القلب من جرائر فضول الكلام، لأن المرء غالبًا يعتكف وحده، فيُقبل على الله تعالى بالقيام وقراءة القرآن والذكر والدعاء ونحو ذلك، وفيه أيضًا حماية من كثرة النوم، فإن العبد إنما اعتكف فى المسجد ليتفرغ للتقرب إلى الله، بأنواع من العبادات، ولم يلزم المسجد لينام. ويستحب الجمع بين الصيام والاعتكاف، حتى قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ولم ينقل عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرًا قط، بل قالت عائشة: «لا اعتكاف إلا بصوم»، ولم يذكر الله سبحانه وتعالى الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم". وكان ابن تيمية يرجح أن الصوم شرط فى الاعتكاف، واشتراط الصوم فى الاعتكاف نقل عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك والأوزاعى وأبو حنيفة، واختلف النقل فى ذلك عن أحمد والشافعى، بينما الأصح أن الصوم مستحب للمعتكف، وليس شرطًا لصحته. وكما هو المعروف، أن الاعتكاف يكون فى العشر الأواخر من رمضان، فعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجاور فى العشر التى وسط الشهر، فإذا كان من حين تمضى عشرون ليلة، ويستقبل إحدى وعشرين، يرجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، ثم إنه أقام فى شهر، جاور فيه تلك الليلة التى كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم بما شاء الله، ثم قال: «إنى كنت أجاور هذه العشر، ثم بدا لى أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معى فليبت فى معتكفه، وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها، فالتمسوها فى العشر الأواخر، فى كل وتر، وقد رأيتنى أسجد فى ماء وطين».