تبدو ظاهرة انهيار المباني وكأنما تمضي بتوحش كاسر لا تواجهه قوانين توقف استشراء الظاهرة التي تحولت إلي جريمة تكاد أن تكون مجهولاً الذين وراءها عندما تتفرق دماء ضحاياها وممتلكاتهم الضائعة «بين القبائل»!، المستندات الخاصة بأي عقار ينهار تختفي شأن الملف كله!، ويتعذر تحديد المسئولية الضائعة في سلة تضم أصحاب الذمم الخربة، من مالك إلي مهندس إلي المحليات إلي مسئولي الأحياء كأنه خط قطار ليس لرحلته انتهاء!، ولما كانت ظاهرة انهيار العمارات علي سكانها تلفت الأنظار بتوالي أحداثها في الإسكندرية حتي تكاد أن تكون يومية، فقد دعت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية برئاسة المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة إلي اعتناق فلسفة فكرة «العدالة الانتقالية» في إدارة الحكم عقب الثورات علي ظاهرة «انهيار المباني» بالملاحقة الجنائية للمحافظين ورؤساء الأحياء والمهندسين المختصين منذ عام 1989 وحتي الآن، وأشارت المحكمة إلي أنه لإرساء قيم الحق والعدل تجد لزاما عليها ازاء ضياع أرواح المواطنين وممتلكاتهم عند انهيار المباني نتيجة لتقصير النظام السابق والحالي في احترام القواعد القانونية، وخرق أحكام القانون مما مكن من ظهور مافيا المباني، فتدعو رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب إلي تطبيق «العدالة الانتقالية»، وهي لا تحتاج إلي تشريع يقرها أو ينظمها باعتبارها لغة عالمية تطبقها الدول من تلقاء نفسها عقب الثورات والحروب. وعندي أن ظاهرة انهيار المباني قد تفاقمت إلي حد أنها قد أصبحت «جريمة منظمة» في مصر، والتاريخ الذي حددته المحكمة لتطبيق «العدالة الانتقالية» وهو عام 1989 هو تأريخ دقيق بالفعل، لأن سعار البناء قد اجتاح وقتذاك كل أنحاء مصر!، إذ بدأ بموجة عاتية من الهدم للعقارات القديمة متواضعة الارتفاع، ثم البناء علي أرضها الفضاء الأبراج الشاهقة التي لا يعبأ ملاكها بأي قاعدة قانونية تحرّم إنشاء هذه الأبنية الشاهقة من حيث عرض الشوارع، وسكان العقارات القديمة الذين وقفوا ضد رغبة ملاكها في هدمها واستمروا في إقامتهم بها رغم حاجتها إلي الترميم، قد عاتبهم هؤلاء الملاك بأن تركوا عقاراتهم دون الترميم المطلوب حتي تنهار بهم المباني علي رؤوسهم فيتقدم الملاك إلي بناء ما يريدونه بعد الخسائر الفادحة في الأرواح والإصابات والممتلكات!، أما رخصة الهدم فهي برشوة!، ورخصة البناء برشوة، والارتفاع غير القانوني برشوة، وعدم احترام قاعدة «عرض الشارع» برشوة، لتتعاظم الظاهرة التي فاقم تفشيها أن لا حساب ولا عقاب!، والأمر - كما أعرف ويعرف غيري - أن حركة البناء والهدم تنهض علي الرشوة، ومرجعها إلي كتائب من العاملين في الأحياء الذين اختصوا بكل صغيرة وكبيرة في هذا النشاط!. ويأخذ الناس علي القانون التلكؤ الواضح في إقرار الحق والعدل للفصل في قضايا مهزلة انهيار المباني علي الناس، والضمائر الخربة التي جعلت من الظاهرة «قاعدة» مستقرة!، وتصبح مقولة إن «العدالة بطيئة والظلم أسرع» مؤكدة في الحالة التي نحن بصددها!، أما «العدالة الانتقالية الناجزة» فقد يراها البعض مقدمة للتوسع في العدالة الانتقالية بما يخل بالسير القضائي الطبيعي، ولكنني - من هول ما توالي علينا من أحداث انهيار المباني، وضياع المسئولية وتفرقها بما يعني أن العدالة الانتقالية الناجزة هي القضاء المناسب ليس في حالة انهيارات المباني فقط، بل وفي فترات التغيرات العنيفة في المجتمع علي النحو الذي نشهده حتي الآن منذ قيام ثورة 25 يناير 2011، حيث تتوالي أحداث البلطجة والقتل واستباحة الممتلكات العامة والخاصة والسرقات تحت تهديد السلاح، وفي حالة الإجراءات المتبعة في مقاومة ذلك ووقفه تلزم إجراءات رادعة سريعة لا تتيح للمجرمين الإفلات بما ارتكبوا أو غنموا، وهذا الذي أراه هو ما يجعلني أقف مع ما ذهبت إليه محكمة القضاء الإداري السكندرية، فقد رأت ضرورة ملاحقة سلسلة المسئولين عن انهيارات المباني، وبدأت بالمحافظين الذين أصبحت مهمتهم فقط صرف الأغطية والتعويضات المواسية للضحايا وأسرهم!، ليبقي خراب الذمم صاحب العرض المستمر لهذه المآسي!