يتوافدون تباعاً.. يقفون كما لو كانوا مدربين على الاصطفاف فى انتظار اللاشىء.. حرارة الشمس لم تثنهم عن غايتهم، بل زادت لهيب حماستهم. الصفوف المحتشدة أمام قصر عابدين حيث ديوان المظالم، تحمل ثقة وتوجساً واهتماماً ولامبالاة.. مشاعر متضاربة يبثها صمتهم الذى يكسره بعض الاعلاميين الراغبين فى كشف أحلام البسطاء الذين ينتظرون تحقيق حلمهم. على الرصيف المجاور للصفوف المنتظرة جلس متكئاً على عكازه الذى تآكلت أطرافه.. البياض الذى غزا شعره مع خطوط العجز الزاحفة على ملامحه يدلان على زمن تآكلت أطرافه تماما كعكازه. النظرة الآخذة فى البعد تؤكد أن مجيئه إلى ديوان المظالم ما هو إلا خطوة سبقها عشرات المحاولات والخطوات لحل مشكلته.. لكن سرعان ما تتكشف حقيقة فقدان بصره فتتلاشى النظرة ويبقى البعد. من منطقة الحرفيين شرق القاهرة جاء محمد عبد العال عبد الراضى 62سنة يتحسس بعصاه إلى ديوان المظالم بقصر عابدين، ليحمل معاناته إلى رئيس الجمهورية. «عبدالراضى» فقد بصره قبل ستة أعوام بسبب المياه الزرقاء التى تراكمت على عينيه فأثرت سلبا على العصب البصرى.. لا يملك العجوز مالا ليجرى به جراحة لاستعادة بصره، حتى مسكنه باعه ليغطى تكاليف زواج بناته الثلاث. مأساة العجوز لا تقتصر على حد الحاجة المادية فزوجته التى أصابها «ألزهايمر» لتنسى به ألمها، خرجت قبل أربعة أعوام لتستخرج بطاقة تموين لابنتها ولم تعد بسبب مرضها، يتذكر الكفيف: «يومها صحيت من النوم وجدتها غير موجودة بالشقة ونسيت أن لديها ألزهايمر ولم تعد حتى الآن». «عبدالراضى» مازال يرى فى جسده قدرة على العودة لعمله كسائق ولكن فقط عجز بصره. عايز حقي القصاص هو غايته من ديوان المظالم، فلا نوم هنيء طالما قاتل والده لم يأخذ جزاءه.. محمد سيد عبد الله توفى والده فى حادث تصادم سيارة قبل سنتين وحكم على الجانى ب6 أشهر لكنه استطاع الهرب من تنفيذ الحكم. عبد الله تتلخص حياته فى البحث عن قاتل والده فيقول: «عايز حق أبويا لازم الرئيس يجيب حق ابويا ويقيم العدل اللى وعد به». شقة يارب! لحيته وجلبابه القصير لا يعبران عن تشدد دينى بقدر هروب من واقع مؤلم فأشرف محمد محمد جاء من محافظة البحيرة ليقدم شكواه إلى ديوان المظالم.. لديه ستة أولاد وفتاة تعانى من ضمور بالساق وهو يعانى من مرض القلب. خمس سنوات لم ييأس فيها «أشرف» الذى يعمل بالزراعة، فظل يحاول مقابلة المحافظ لعله ينقذه من تلك الحجرة الضيقة التى تجمعه بزوجته وأبنائه السبعة بقرية الزرقا التابعة لمركز كوم حمادة. المحافظة أصرت على سداد 5 آلاف جنيه ليتسنى له التقديم للحصول على شقة.. ولا مجال للحديث عن صعوبة توفير المبلغ، ما يزيد الحزن فى نفس الأب هو المحسوبية والفساد فيقول: «معظم الوحدات السكنية بالمركز ذهبت لمن لا يحتاجونها فأغلبهم تجار اغنياء وسيحولون تلك الوحدات لمخازن». حلم الوظيفة سبع سنوات قضاها فى السجن كمعتقل سياسى «خدونى فى الهوجة بتاعة التسعينيات أيام ما كانت عربية الامن المركزى تقف تلك كل اللى ماشى» هكذا برر خالد فايز اعتقاله. «فايز» الذى جاء من مركز الفشن ببنى سويف اعتقل فى الفترة من 1996حتى 2003 وعندما تم الافراج عنه كانت قد ضاعت عليه مسابقات الدولة التى يسمح له مؤهله المتوسط بالالتحاق بها. عمل «فايز» فى مستشفى مغاغة العام التابعة لمحافظة المنيا فى الاعمال الكتابية وظل كذلك طوال ثلاث سنوات بعقد مؤقت لكنه مع حلول 2005 صدر قرار بفصله لانه ليس من أبناء المحافظة، ليبقى عاطلا من وقتها. المعتقل السياسى الذى لا يعلم حتى الآن لماذا اعتقل؟!.. جاء لديوان المظالم بطلب للحصول على وظيفة. الترقية سيد عبدالجواد عبدالفتاح يعمل بقطاع الحسابات والمديرات المالية بوزارة المالية، يتظلم من تأخر ترقيته رغم رفعه عدداً من الدعاوى القضائية بمجلس الدولة وحصوله على أحكام تؤيد حقه فى الترقى . «عبدالفتاح» الذى يعمل منذ 14عاماً بوزارة المالية، يؤكد رفض جهة عمله تنفيذ أحكام القضاء ويقول: «المسئولون برروا عدم تنفيذ الحكم بأن أحكام مجلس الدولة ولجان التوفيق والمنازعات صدرت بعد اتمام حركة الترقيات». المثلث يبحث عن منقذ أهالى مثلث ماسبيرو ببولاق أبو العلا أرهقتهم الشكاوى إلى محافظة القاهرة والبحث عن حل.. لم يجدوا سوى قصر عابدين للوقوف أمامه لتوصيل شكاواهم إلى الرئيس. محمود شعبان عيسى مدرس وأحد سكان مثلث ماسبيرو يوضح مأساة منطقته قائلاً: «منذ سنوات ورجال الاعمال يحاولون طردنا من المنطقة التى يعتبرونها مميزة لانشاء مشروعات استثمارية بها ولكننا أمام مصير التشرد قاومنا محاولاتهم، وتدخلت محافظة القاهرة للضغط علينا لصالح رجال الاعمال». ويشير «عيسى» إلى لقاء جمعهم بمحافظ القاهرة ورئيس هيئة التخطيط العمرانى ، موضحا انتهاء اللقاء بالاتفاق على حصول الاهالى على مساحة أربعة أفدنة ونصف يقام عليها 64 عقاراً ليجمع 3166 أسرة من مثلث ماسبيرو. لا شىء حدث من ذلك اللقاء الذى عقد قبل سبعة أشهر، لذا جاء ممثلون عن الاهالى ومن بينهم «عيسى» للمطالبة بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه مع المحافظ ووضع جدول زمنى له خاصة مع امكانية تعرض بيوت المثلث للانهيار بسبب قدمها. أنقذوني من الموت! خمسة عشر عاماً قضتها بين المستشفيات لاجراء عمليات جراحية فشلت جميعها فى شفائها.. مرض بالمثانة أرهقها طوال السنوات الماضية وتزداد المعاناة مع زيادة الفقر. التنقل بين المستشفيات والعمليات الجراحية أودى فى النهاية بصبرة عبد الحليم عبد القوى التى تبلغ من العمر 32 سنة إلى الاصابة بفيروس الكبد الوبائى. كل ما تحلم به تلك السيدة هو اجراء عملية تنقذها من مرضها لتستطيع البحث عن وظيفة بمؤهلها المتوسط لتساعد بها زوجها في الانفاق علي أولادها الخمسة. سامى سالم وعبد الحميد شعبان رغم فارق السن واختلاف المهنة وحتى منطقة العيش إلا أن معاناتهما واحدة، فكلهما وجد نفسه فجأة عاطلاً عن العمل بسبب التعسف الوظيفى. ف«سالم» الذى كان يعمل بشركة للكابلات تم فصله تعسفيا بسبب اضطهاد المدير الادارى كما يؤكد، أما شعبان فظل يعمل مدرسا بنظام الحصة فى ادارة رشيد بالبحيرة حتى تم الاستغناء عنه منذ عامين. تزداد مأساة سالم عن شعبان فى أن زوجته انفصلت عنه لكون زوجها أصبح عاطلاً. كلاهما يبحثان عن رفع الظلم عنهما فى ديوان المظالم.. وما أكثر الظلم في هذا الزمان!.