حوار أجرته غادة ماهر: تصوير: أحمد حمدى الزواج مشكلة حياتى.. كلهم رفضوا لأنى يتيم نفسى فى عربية بالتقسيط أكافح بها الفقر وضربات الزمن لم أنضم لقائمة العاطلين وعملت حاملاً لأسلاك الفيديو فى الأفراح للمرة الأولي فى بلاط صاحبة الجلالة من عشرين عاماً أستغنى عن قلمي أو المسجل أثناء لقاءاتي الصحفية، بشعور لا إرادي دون -عمد أو قصد - تركت العنان لعقلي يتلقي الكلام ويدونه ويحفظه عن ظهر قلب. فى شهر أبريل من كل عام يحتفل العالم بيوم اليتيم، و تقتصر كل الاحتفالات سواء المقروءة او المسموعة والمرئية علي تسليط الضوء علي الطفل اليتيم داخل دور الأيتام فترة إقامته بها فقط.. ولم يفكر أحد فى شأن هذا الطفل عندما يكبر و يصبح شاباً يافعاً. ويأتى ميعاد خروجه من الدار شاء ام آبي، كيف سيواجه الحياة؟ وأين يسكن؟ ومع من؟ وهل سيجد وظيفة أم سينضم لقائمة العاطلين؟ هل سيبحث عن أهله؟ وكيف سيتعامل مع الناس.. بسلاسة أم بعقد خارجة عن إرادته.. سيخبر من حوله بحقيقة أمره.. أم سيواري تاريخه تحت الثرى.. سيفكر فى الزواج أم لا.. وبمن سيتزوج.. بيتيمة مثله أم بأخرى.. وإذا كانت فتاة من أسرة هل يوافق الأهل علي تلك الزيجة.. أسئلة كثيرة دارت فى ذهنى عندما قررت ان التقى» بخالد « الشاب اليتيم الذى تربي وترعرع داخل أحد دور الأيتام فى مصر، وخرج من الدار للدنيا دون أن يعرف «جنس مخلوق» عدا أصحابه ومسؤولي الدار. صراحة.. كنت متوقعة إجابات أسئلتى قبل أن أطرحها عليه وأعتقد أن كل قارئ متوقع ومتخيل حياة الشباب خريجى دور الأيتام مثلي تماماً، لكن حدثت مفاجآت لم أتوقعها ولن يتوقعها أحد.. عن طريق وسيط تعرفت علي «خالد «تليفونيا قبل ان التقى به.. وعلمت منه أنه يقطن مع 4 من زملائه فى شقة ايجار بأحد الشوارع الجانبية بمنطقة فيصل، نبرة صوته قبل ان أراه أوحت لي بأنه شاب خلوق، وصدق إحساسى عندما قابلته. اتصلت به قبل الموعد بساعتين لتأكيد الميعاد..فأبلغنى أنه خرج ليدلي بصوته فى الانتخابات ودى كانت المفاجأة الأولي .. الساعة الواحدة ظهرا التقينا وجها لوجه..شاب نحيف..خمرى اللون..متوسط الطول..ذو ملامح مصرية أصيلة يعلوها حياء نادرا ما تجده فى شباب اليوم.. الطبيعى ان أبدا بسؤالي.. وإذ به يكون صاحب المبادرة.. ويلجمنى بسؤال رهيب» ما الذى سيعود علىَّ من هذا الحوار؟ أجبته عادة تحتفل الدولة بمؤسساتها بالأيتام فى شهر أبريل من كل عام.. ويقتصر الاحتفال علي الأطفال فقط، دون أن تلتفت لذات الأطفال عندما يكبرون ويصبحون شبابا وفتيات صح؟ فيجيبنى خالد: فعلاً.. هذه المرة قررنا أن نسلط الضوء علي فئة شباب الأيتام ومشاكلهم واحتياجاتهم..وقبل ان أنهى كلامى قاطعنى بجدية قائلاً: «أنا حضرتك كان نفسي أشترى عربية بالتقسيط بس مش لاقى حد يضمنى.. أعرف واحد صاحبي والده ضمنه.. لكن انا مش لاقى حد.. ابتسمت فى وجهه وقلت : مهلك عليا يا عم خالد.. نبدأ من الأول وبعدين حسمع واستجيب واسطر كل طلباتك.. ..ابتسم فى خجل وحياء وقال حاضر.. اتفضلي شعور غريب لا يعلمه إلا الله، قلمي بعد استعداده للكتابة، وجدته سقط من راحتي دون قصد.. وتحجرت الدموع فى عيني، وتخيلت أننى أمام ابنى الذي يدخر كثيرا من الأحلام الذى تراود هذه السن داخل كل بيت مصرى.. بدأت ألملم نفسي وأتحكم فى مشاعرى. واستأنفت: نبدأ من الأول يا خالد..اسمك بالكامل ؟ خالد عبد الكريم محمود حمدى.. لأ آسف خالد عبد الكريم أحمد حمدى. فقلت: آخر كلام.. فابتسم وهو يهز رأسه بالإيجاب فراح زميلي المصور يمازحه قائلا: انا كده ابقى جدك يا خالد فقال الأخير..يا ريت عمرك كام سنة؟ اسمك الحقيقي ده.. لأ ده الاسم الذى منحته لي الدولة. عندك فكرة بميعاد التحاقك بالدار؟ الدار استلمتنى حتة لحمة حمرا.. كما يقولون من وزارة الشئون الاجتماعية. وما هى الدار التى كنت بها؟ دار ايتام بالدقي «رفض ذكر اسمها» سأمنح ذاكرتك الفرصة لتقص لى فترة إقامتك بالدار حتى خروجك منها؟ يجيب خالد: فتحت عنيا لقيت نفسي فى الدار تعلمت فى المدارس حتى حصلت علي دبلوم سياحة و فنادق من مدرسة الأورمان، لا أعرف أحدا فى الدنيا سوى إخوتى فى الدار وصاحب الدار وكانت هناك سيدة زى حضرتك الوحيدة إللى كنت بقول لها يا ماما رشيدة ، «الله يمسيها بالخير « لأنها كانت دائمة السؤال علي وتترك لي أموالا تدخرها الدار لحين خروجي منها.. صمت قليلا وراح يعيد قصة أمنيته فى شراء سيارة جديدة.. فابتسمت وقلت له..وقت «العربية «لسه مجاش بادلنى الابتسامة على استحياء. وماذا بعد حصولك علي الدبلوم؟ قال وكأنه يسرد شريط ذكريات : دخلت الجيش وكان فى السلوم وكنت أنزل اجازة كل 60 يومًا، وكانت الدار بتعطينى فلوس بالعافية. كام؟ 200 او 300 جنيه كل أجازة، فبدأت أبحث عن فرصة عمل، من أجل مزيد من الدخل فبدأت بحمل «أسلاك» اجهزة الفيديو فى الأفراح ثم تعلمت تصوير الفيديو ولم أستمر بها طويلا نظرا لظروف الخدمة العسكرية. فترة الجيش كان لك أصحاب؟ مش كتير. هل أخبرتهم بحقيقتك؟ لا لم أستطع ..عدا واحد فقط كان من أسوان أحببته كثيرا وفتحت له قلبي وأخبرته بكل شيء وكان بالنسبة لى أكتر من أخ. وبعدين..؟ انتهت فترة الجيش وفترة إقامتي بالدار معا، وخرجت للحياة بعد ان منحتني الدار 26ألف جنيه من أموال التبرعات..ادخرتها بالبنك وبدأت أسحب ما أحتاجه من تكاليف المعيشة.. هل وجدت عملا؟ فى البداية عملت بالدار التى عشت بها ولكن الراتب ضئيل للغاية لا يتعدى ال 500جنيه، تركتها وبدأت أبحث بنفسي عن مكان آخر حتى وفقني الله لمكان أعمل به حتى الآن..فى أحد السوبر ماركت الكبيرة و الشهيرة وأصحابك فى العمل يعرفون حقيقتك..؟ لأ.. طبعاً.. صعب أخبرهم بها.عشان نفسيتى وصورتى أمامهم..واحساسي عند معرفة أحد بالحقيقة سيتم العطف والإحسان علي وهذا أمر لا يتحمله بشر سبق ان سألوك؟ كتير.. بس كنت أحول الكلام واقول ليا أخت واخ وبابا وماما وبعيش الدور. ؟ خالد..ايه أكتر مشكلة قابلتك فى الدار؟ فوجئت برده..الذى لم يتوقعه أحد.. دى كانت أجمل أيام حياتى هناك..كفاية الرحلات الكثيرة والفسح..يمكن الحاجة الوحيدة إللى كانت مزعجة ضرب بعض مدرسي الدار لنا.. بس بهدف تعليمنا فقط، لاإيذاءنا. غريبة..كنت أعتقد أنك ستسرد هموم وآلام وأوجاع سنوات الدار..لحد علمي أن الحياة فى دور الأيتام كلها بنظام وجدول مواعيد؟!! أنا فتحت عنى لقيت نفسي بها اعتدت على نظامها والحياة بها ولم أجد خيارا ثانيًا لأشعر بالفرق والمقارنات. فكرت تدور علي أهلك..باغته بسؤالي؟ نعم ..كانت المرة الأولي والأخيرة فى حياتى عندما اخترت سائق اتوبيس الرحلات الخاص بالدار ليخبرنى بالحقيقة وكنت فى الصف الأول الثانوي.. وماذا قال..ولماذا سائق الاتوبيس تحديدا وليس إدارة الدار مثلا او صاحبها؟ الإدارة.. لأ صعب تتحدث معنا فى هذا الأمر، واخترت سائق الاتوبيس لأنه معنا منذ الصغر..وعندما سألته قال : أمك وأبوك ماتوا فى الزلزال وانهار البيت وانت اللي عشت.. لم أصدق كلام السائق..وعاهدت نفسي ألا أسأل هذا السؤال مرة ثانية. وقبل أن أطرح سؤالا جديدا قاطعنى قائلا :علي فكرة يا مدام غادة انا عمرى ما هسأل عنهم تأتى لأن أكيد أبويا تاجر مخدرات أو محكوم عليه بالسجن وأمي كذلك، فلم يشرفنى معرفتهما. يعني لو عرفت ان والدتك عايشة ألا تتمني ان تراها؟ أجاب وملامح اليأس تكسو وجهه.. يفيد بآيه بعد 24سنة لا أعرف عنها شيئاً. طيب..لو أخبرتك أنها معى وستاتى إلى هنا وتجلس على هذا المقعد الذى أمامك، ماذا ستفعل وما هى اول كلمة تنطق بها؟ نظر إلى المقعد ،وشرد ثانية واحدة ثم قال فى جفاء وألم..»الله يسامحك علي اللي عملتيه معى. ثم أضاف وهو يحبس دموعه.. انا اللي اعرفه من خلال أصحابى والتليفزيون ان الام اهم مخلوق فى حياة اى كائن حي..هى الحنان والعطف..هى الملاذ الأمن والوحيد فى حياه وليدها..فهل من فعلت بي هذا تعد فى قائمة الأمهات؟ لم أجد إجابة عن سؤاله..فالصمت كان اختياري. سألته هل فكرت فى الزواج؟ «طأطأ» رأسه وقال..هى دى بقى مشكلة حياتى وعقدتى الوحيدة لماذا؟ كل ما أتذكر تزيد رغبتي فى البكاء..يضيق صدرى بما سمعته، وواجهته وحدى فى الحياة.. ثم راح فى صمت يتبعه انهيار داخلي.. فحاولت أن أهدئ من روعه..خالد استهدى بالله و فضفض معنا لعل الله يمنحك الفرج من عنده استجاب لي مسرعا.. وقال : أربع مرات حضرتك أتقدم ويتم رفضى عشان يتيم.. المرة الأولي تقدمت لفتاة رأيتها. وأعجبت بها ودخلت البيت من بابه. كان معاك حد..قاطعته بسؤالي؟ لأ أنا لوحدى وكنت واخد معايا شوكولاته، وبعد ان قدمت نفسي بصراحة وصدق، والدها قال لي :انا عايز بنتى معززة مكرمة مش كل يوم فى مكان شكل. وماذا كان يقصد والدها؟ ان اشترى شقة تمليك وليس ايجارا جديدا أو حتى قديم! وهل معك أموال لشراء شقة؟ باقى مستحقاتي لدى الدار لم احصل عليها بعد، احصل عليها عند شراء شقة.. كيف؟ مثلاً تقول لي أختار الشقة ثم تقوم بدفع جزء منها طبقًا للمبلغ المخصص لكل من أبنائها علي حده، وطبعا سعر الشقة يجب ان يكون فى حدود إمكانيات الدار وانا . وبعدين؟.. ثانى مشروع خطوبة أيضا ذهبت بمفردى حاملا طبق شوكولاته فاخر انتهى اللقاء بانتظار الرد خلال أسبوعين.. وفات الميعاد ولا الهوى.. والمرة الثالثة طلب والد العروسة رقم البيت الذى انهار فى الزلزال وكأنه تعمد إهانتى» بصنعة لطافة. المرة الرابعة والأخيرة طرح والد العروسة سؤالا..يا ترى لو حصلت لاقدر الله بينكم مشاكل نرجع لمين عندك لكى يتدخل؟! وكانت هذى هى اللحظة الوحيدة التى سقطت فيها دموعي و عجزت عن حجبها. تنفس خالد طويلا ثم قال..بالله عليكى انا شاب و الحمد لله باصلي وعارف ربنا ونفسي وأمنية حياتى ان اتزوج، اعمل ايه؟ !ولماذا لم تتزوج من فتيات الدار؟ كلهن علي نغمة واحدة.. احنا زى الأخوات.. إذا تزوجت كيف ستربى أبناءك وما هو حلم حياتك معهم؟ مش هخليهم عاوزين حاجة، التربية علي الصراط المستقيم، والتعليم..احسن تعليم..نفسي اعمل اسرة وعيلة.. ستخبرهم بقصتك الحقيقية؟ طبعاً.. اليتيم مش عار..الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتيما. قلت له» قبل ان انهى حوارى معك..أود أن اعرفك.. انك دمرت أى انطباع سيءلدي أغلب الناس عن خريجى دور الأيتام فالبعض للأسف.. يعتبرونهم شديد الكراهية للمجتمع والحياه والوطن، بمجرد خروجهم من دور الرعاية الخاص بهم، يدمرون ويقتلون ويتشردون..وظننت أيضا انه بمجرد انتهاء مدة إقامة اليتيم بالدار تنتهى كل علاقته بها.. ويقاطعنى خالد: حضرتك لم تخطئ..ولكن الفرق يكمن فى التربية والتعليم من دار لدار..أليس هناك أسر ناجحة تنجب أطفالا وشبابا يفتخر بهم، وكذلك أسر فاشلة لم تنجب الا أطفالا وشبابا يدمرون الوطن ، التربية فى اى مكان وزمان هى الفيصل الوحيد.. أعرف زملاء لي ايتام كما كنت تتوقعين..لانهم خريجو دار تربوا فيها علي الكبت والغل والحرمان والتشرد. كما ان الإعلام له دور كبير فى تشويه سمعتنا. فى أسئلة تانية ولا خلاص عاوز أحكى عن حلم حياتى؟ اتفضل يا خالد.. قال وكأنه طفل «شابط» فى لعبة أو موبايل جديد.. نفسي فى عربية جديدة بالتقسيط بس الدار رافضة الفكرة نهائيًا و مشددة علي أن تكون المساعدة فى شراء الشقة لأنها الأهم.. مع أن هناك دور أيتام كثيرة تساعد أبناءها فى مشاريع. وخرجت من حوارى مع خالد بحقيقة تؤكد أنه ليس كل شاب تخرج في دار أيتام يكون معقداً أو بلطجياً. فهناك شباب نشأوا فى أسر كريمة ولم يمنحهم القدر فى شراء شقة او عربية..او حتى الزواج..إنها أقدار من صنع الله تعالي، لا تتغير باختلاف الظروف، ولكن بالصبر والحكمة قد ينال المرء خيرا كثيرا.