شهد عالمنا أخيراً الكثير من التطورات التي تشي بانبعاث هويات، كان بعضُهم راهنَ على أنها توارت، ومنها إعلان إقليميْ كردستان في العراق وكاتالونيا في إسبانيا رغبتيهما في الانفصال وتبني خيار الاستقلال التام. ولكل من تلك التطورات جذوره العميقة في البلدان التي شهدتها، فالحدث الكردي مثلاً، يعود في محطات سابقة له إلى تفاعلات وترتيبات ما قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها وما بعدها، بما في ذلك الأجواء المحيطة بمعاهدة «سيفر» الشهيرة، ومن بعد ذلك بعقود يرتبط أيضاً بتداعيات حرب تحرير الكويت في شباط (فبراير) 1991 وما تلاها من ترتيبات. أما الحدث الكاتالوني فله بدوره جذوره التي كمنت، ضمن جذور أخرى، في تفاعلات ومن ثم نتائج الحرب الأهلية الإسبانية في النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين، ثم في تفاهمات إعادة ترتيب البيت الإسباني من الداخل في الفترة التالية لوفاة الجنرال فرانشيسكو فرانكو عام 1975. وليست هذه المرة الأولى التي تحدث فيها تطورات مثل تلك، فقد مرت علينا مشاهد مماثلة أو على الأقل مشابهة في محطات كثيرة منذ ما بات يعرف بالتاريخ الحديث للعالم والذي يؤرخ له باندلاع الثورة الفرنسية، أم الثورات في عصرنا، عام 1789، فقد تكرر غير مرة من قبل، كما أنه مرشح للتكرار في المستقبل. حدث هذا في سياق السنوات، بل العقود الأخيرة للإمبراطورية العثمانية منذ بدأت تلقب ب «رجل أوروبا المريض» في القرن التاسع عشر، وصارت الأراضي الواقعة تحت سيطرتها في قارات العالم القديم إما واقعة تحت احتلال القوى الأوروبية أو باتت تنزع نحو الاستقلال بعد أن انبعثت فيها جذوة الهويات الوطنية والقومية واللغوية والعرقية، التي لها بدورها جذورها التاريخية في المخيلة الشعبية والثقافية للكثير من الشعوب. وكانت المحصلة الأولى التي نتجت عما سبق هي حالة مستمرة ومتوهجة من الحركات الفكرية والفاعلة على الأرض للمطالبة بالاستقلال الوطني والانفصال عن الإمبراطورية العثمانية وإيجاد المسوغ العقائدي والأيديولوجي اللازم لإسباغ المشروعية على هذه النزعات الاستقلالية. وإن كانت الحقائق تغيَّرت في البلقان وأوروبا أسرع منها في الجزء الخاص بأراضي الأقاليم العربية والإسلامية الواقعة مباشرة تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، فإن الحالة نفسها سرعان ما انتقلت إلى تلك الأراضي في السنوات الأولى من القرن العشرين، على المستويات الفكرية والتنظيمية والحركية، ثم ما لبثت تفاعلات الحرب العالمية الأولى وما شهدته من تفاهمات سرية وما أعقبها من ترتيبات إعادة رسم الخرائط الجديدة للعالم، خاصة تلك المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط، أن تولت أمر ما تبقى من أملاك الإمبراطورية العثمانية في العالم القديم بأسره، بما في ذلك في المنطقة العربية. إلا أن من الثابت أن هذه الترتيبات، سواء على الصعيد العالمي أو على المستويات الإقليمية، كانت غير قابلة للاستمرار ولا تملك المقومات الذاتية للبقاء، وهو الأمر الذي بدا ظاهراً بوضوح بعد أقل من عقدين من الزمان متمثلاً في تحرك العالم نحو حرب عالمية ثانية أكثر تدميراً للإنسانية. وكان أحد معاني ذلك الاندلاع أن ترتيبات الواقع لم تلبّ احتياجات يمليها التاريخ ومتطلباته من وجهة نظر شعوب كثيرة من جهة، كما أن هذه الترتيبات كانت عاجزة عن تحقيق الاستدامة لعدم تلبية معاييرها، ومن ضمنها العدالة والإنصاف مع التوازن والقدرة على التماسك والبقاء. ولكن بين الحربين الأولى والثانية شهد العالم تسويات، تمت سلمياً أو قسرياً، على بعض الأصعدة الوطنية، ومنها مثلاً نتائج الحرب الأهلية الإسبانية وهزيمة القوى الجمهورية وانتصار الجنرال فرانكو، الذي كان قريباً من الناحية العقائدية من إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية، ولكنه كان مديناً في انتصاره أيضاً للدول الرأسمالية الغربية في أوروبا والعالم. وبالتالي حرص فرانكو على التقارب السياسي مع الأخيرة، لاعباً على أوتار مخاوف التحالف الغربي من انتشار الشيوعية وتغلغلها في أوروبا منذ ما بعد انتصار الثورة البلشفية في 1917، من خلال إبراز دوره شخصياً في السعي لاستئصال الشيوعية، بل وحتى الاشتراكية، من إسبانيا خلال تلك الحقبة. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعلى أعتاب الحرب الباردة وخلال بداياتها ومراحلها الأولى، شهد عالمنا اتجاهاً معاكساً تمثَّل في التوحيد والتجميع وليس التفتيت والتقسيم للكيانات القائمة. ففي تلك المرحلة شهدنا تضاعف حجم الاتحاد السوفياتي السابق وتشكيل معالم جمهورية يوغوسلافيا الفيدرالية الاشتراكية السابقة، وشاهدنا تضاعف الترتيبات الجامعة للدول، سواء كانت إقليمية وذات طابع اقتصادي مثل الإرهاصات الأولى للاتحاد الأوروبي من خلال معاهدة روما للعام 1957 وما تلاها من خطوات توحيدية في نطاق دول غرب أوروبا، أو كانت على أسس أيديولوجية وذات توجه استراتيجي وعسكري وأمني مثل حالتي حلف شمال الأطلسي للتحالف الغربي بقيادة الولاياتالمتحدة الأميركية وحلف وارسو للتحالف الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق. كذلك شاهدنا تجمعات اقتصادية ذات طابع أممي، ومرة أخرى على أسس أيديولوجية، مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وهي ذات توجه نحو اقتصاد السوق الحر في مقابل منظمة «الكوميكون» وهي ذات توجه نحو اقتصاد التخطيط المركزي طبقاً للرؤية السوفياتية السائدة آنذاك. إلا أن انتهاء الحرب الباردة وما نتج عن ذلك من انتفاء فكرة «العدو الآني» بين المعسكرين الغربي والشرقي على صعيد صراع الوجود والعقيدة الأممية والخريطة الكونية، أدى إلى حالة استرخاء عام على الصعيد المعنوي وإلى حالة فراغ نسبي على صعيد التعبئة والحشد، وبالتالي كان من الطبيعي والمنطقي أن ينتقل الاهتمام إلى مسائل أخرى بعيداً مِن المواجهة العقائدية والسياسية والعسكرية بين المعسكرين الشرقي والغربي، سواء كانت تلك المسائل الحديث عن مواجهات حضارية وصدامات ثقافية، خاصة بين العالم الإسلامي والغرب، أو كانت مسائل حياتية ومعيشية لها جذور ترتبط بانعدام أو نقص العدالة الاقتصادية والاجتماعية وتراجع مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون، أو كانت متجهة نحو العودة إلى الجذور التاريخية للبحث عن هويات قابعة في الأعماق منذ قرون، أو حتى منذ عقود، سواء كانت هويات عرقية أو وطنية أو قومية أو طائفية أو عرقية أو لغوية أو ثقافية، ربما لتكون بديلة عن هويات أعم وأشمل لم تحقق لبعض الشعوب والجماعات البشرية الآمال المنشودة التي تاقت إلى نيلها والتطلعات التي رأتها مشروعة والأحلام التي طالما طمحت لترجمتها إلى واقع معاش. وارتبطت بذلك نزعة لدى الدول للخروج من التجمعات الكبرى والانسحاب إلى الذات، والتمحور حولها، بل وأحياناً التقوقع داخلها، محتمية بهويات رأتها تلك الشعوب «أصلية وعميقة». وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن حدث بالطبع عكس ما حدث بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تماماً، أي الاتجاه مجدداً للتقسيم والتفتت، في وضع مشابه، وإن لم يكن مماثلاً، لما حدث في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فالوتيرة كانت قد بدت أكثر بطئاً وأقل حدة في بعض الأحيان، مثل تفتت الاتحاد السوفياتي وانقسام تشيكوسلوفاكيا، من دون أن ينفي ذلك احتداماً ودرجات متقدمة من العنف والدموية في حالات أخرى، مثل حالة جمهوريات يوغوسلافيا السابقة، خاصة حرب البوسنة والهرسك. كما أنه كان وضعاً مشابهاً لما استمر، بدرجة أو بأخرى، قبيل وخلال وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وربما لم ينج من إحياء تلك النزعات في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، حتى الآن على الأقل، سوى الدول الكبرى بمقومات قوتها، سواء العسكرية أو الاقتصادية أو غيرها من مقومات «القوة الناعمة»، بينما عانت تجمعات بحجم الاتحاد الأوروبي من خروج دولة أساسية مثل المملكة المتحدة وتلويح قوى مؤثرة في بلدان أوروبية أخرى بتبني المسلك ذاته ربما في المستقبل القريب، بل واتجاه بلدان مكونة لدول إلى المطالبة بالاستقلال مثل حالة إسكتلندا في الماضي القريب. ويؤكد ما تقدم أنه لا يمكن لنا أن نتحدث بجدية عن مستقبل العالم ومحاولة السعي للتنبؤ بالاتجاه الذي تسير فيه الأحداث والتطورات والتفاعلات العالمية من دون العودة إلى الغوص في التاريخ، بتفسيراته المتباينة، بل وأحياناً المتناقضة والمتضاربة، والعمل من أجل تحليل مكوناته والتعرف إلى اتجاهات حركة المجتمعات والعالم بأسره في سياقه. فالحقيقة التي لا مجال لإنكارها هي أن الكثير والكثير مما نعيشه الآن أو سوف نعيشه في المستقبل هو شديد الارتباط بالماضي وناتج عنه بصورة أو بأخرى، شئنا أم أبينا، فالتاريخ لا يموت بل يبقى حياً مع البشر، أفراداً أو جماعات أو شعوباً أو أمماً. نقلا عن صحيفة الحياة