نشأت أجيالنا المتعاقبة على سماع جملة تكررت حتى أصبحت في حكم المسلّمة:العثمانيون هم سبب تخلفنا الحالي، فقد حكمونا أربعة قرون اتسمت بالجهل والركود والظلم، ورغم ما في هذا التعميم الواسع من مفارقة يرفضها البحث العلمي وهي استمرار دولة كبرى لمدة طويلة زادت عن ستة قرون دون أن يكون لديها مقومات ذلك الاستمرار، فلا بأس بفحص هذه “المسلّمة” وتفكيكها باختصار انطلاقاً من منطقها ثم محاولة الرد عليها لتفنيدها وإثبات عكسها ولكن أيضاً باختصار في مجموعة مقالات مختصرة ومتتالية لأن الرد المفصل قد يستغرق دراسات طويلة جداً ليس هذا هو محلها. تحتوي “مسلّمة” السبب العثماني في تخلفنا العربي على ظلمين: ظلم مكاني وظلم زماني. 1- الظلم المكاني هو في حصر “الركود والجهل والتخلف” في الدائرة العثمانية وحدها في الوقت الذي لم يكن فيه الحال أفضل في بقية العالم الإسلامي خارج النطاق العثماني بل في بقية العالم الثالث، وهذا يقودنا إلى اللغز الذي لم يجد جواباً جامعاً حتى اليوم وهو سبب تقدم الغرب الأوروبي عن بقية العالم، مع أن تفاوت المستويات الحضارية هو سنة التاريخ في جميع مراحله منذ بدء التدوين، فلم تمر فترة توحد فيها العالم كله على مستوى حضاري واحد ودائماً كان هناك المتقدم والمتخلف والمتوسط ولهذا فإن زمننا الذي تقدم فيه غرب أوروبا ليس استثناء من مسيرة التاريخ، وتخلف بقية العالم عن مسيرة الغرب اليوم هو أمر لا يتعلق بتخلف الدولة العثمانية وحدها عن الركب الغربي بل يتعلق بتقدم هذا الركب على العالم كله بما فيه العالم العثماني الذي ظل -على عكس صورة الضعف والهزيمة الشائعة- من المراكز النادرة لمجاراة الغرب تقنياً ومقاومته حتى وقت متأخر من العصر الحديث. 2- أما الظلم الزماني فهو يتضمن عدة نقاط: أ- فتاريخ الإسلام يثبت أن تراجع الحضارة الإسلامية بدأ قبل زمن العثمانيين بكثير على اختلاف بين الباحثين في تحديد بداية هذا التراجع ولكن لا أحد منهم يشير إلى أن الحضارة الإسلامية كانت مشعة حتى أطفأ العثمانيون أضواءها بلمسة يد، بل إن التاريخ يقول إن مجيء الدولة العثمانية أدى إلى “إضفاء الحيوية على العالم الإسلامي” كما تضاءلت أوروبا مقارنة بدولة العثمانيين التي كانت خصماً “قد يقزّم بحجمه وتنظيمه وثروته وقوته أي شيء قد يحتشد أمامه. ولربما ظن زعماء بلدان إسبانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والإمبراطورية الرومانية المقدسة بأنهم جبابرة، ولكن أمام العثمانيين لا يكاد يمكن عدّهم أقزاماً، كما لم تكد تتمكن الأساطيل الإيطالية وفرسان إسبانيا وفرنسا وجنود المشاة من المجر وبولونيا، والنمسا، وبروسيا من تجنب الهزيمة الكاملة. ولكن حتى في القرن الثامن عشر، كدّر ظِل ما وصفوه ب”الترك الغاشمين”، أكثر أيامهم إشراقاً على الإطلاق”. ب- والنقطة الثانية تقول إن الزمن العثماني شهد محاولات بعث ونهضة نبعت من داخله ولم تستسلم لواقع الضعف والتراجع، وقد سبقت المحاولات اليابانية الناجحة بل تفوقت عليها في البداية وكان من الممكن جداً أن تؤدي إلى إحياء المنطقة ونهوضها سواء في ظل الدولة العثمانية أو في ظل دولة منبثقة عنها، “ولعله …لو لم تتآمر الدول الغربية على الخلافة العثمانية ثم على محمد علي، لقامت الدولة الإسلامية المركزية بتمويل عملية تصنيع كبرى لا تتخلى بالضرورة عن القيم الدينية الإنسانية” كما يؤكد المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري في رأي تثبته الاتجاهات التصنيعية العثمانية حتى في ظل التراجع الشديد في القرن التاسع عشر (دراسة: الأثر الاقتصادي للتغريب الرأسمالي على المجتمع العثماني، بند: المقاومة الصناعية )، ويجمع عليه كثير من المؤرخين وبخاصة فيما يتعلق بنهضة مصر التي يؤكد حتى المتشكك بمآلاتها الصناعية أنه لو توفرت لمصر قيادة ذات عزم واستنارة ولم تقم ضدها القوى الغربية بقيادة بريطانيا بعد محمد علي باشا لكان باستطاعتها إنعاش إمبراطورية عربية تسيطر على وادي النيل والبحر الأحمر والمشرق مع احتمال أن تحل محل الدولة العثمانية بصفتها قوة إسلامية قيادية عالمية، وكانت هذه هي نقطة الاختلاف الحاسمة عن اليابان والتي أدت لفشل هذه المحاولات العثمانية في النهاية وهي أن العثمانيين تعرضوا لقُطّاع الطرق الحضارية من الغرب ووُجد من يتصدى لتجاربهم الفتية ويجهض كل محاولاتهم بما فيها تجربة محمد علي باشا في مصر خلافاً لليابان البعيدة عن الجغرافيا الأوروبية وذلك ما لم يفت بعض الباحثين المعاصرين الذين ما زالوا يؤكدون على أهمية ذلك، وكان السلطان عبد الحميد الثاني قد تنبه مبكراً (1902) إلى أثر هذا الاختلاف في الحال بين الواقعين العثماني والياباني، ولذلك فإن تحميل الجانب العثماني جريرة التخلف فيه تبرئة فاضحة لدور الغرب المعرقل الذي لاحظه كثير من دارسي هذه الحقبة، كما أن فيه إغفالاً واضحاً لإنجازات الدورة الاجتماعية الداخلية في الدولة العثمانية في محاولات الإحياء وهو ما سأشير إليه لاحقاً. ت- أما النقطة الزمنية الثالثة والأخيرة فهي أن العثمانيين غادرونا منذ قرن تقريباً وفي أثناء هذه المدة بدأت دولة كالاتحاد السوفييتي في البناء من نفس المستوى الذي كانت فيه الدولة العثمانية زمن الثورة البلشفية على القيصرية، وبينما انشغل السوفييت بالعمل والبناء رغم عوائق الغرب وتدخله الفظ في مسيرة الثورة، ظلت بلادنا رازحة تحت نير الاستعمار القديم ثم الجديد مشغولة بالخضوع لأوامر الغرب وحراسة مصالحه لأن تنميتها كانت مرهونة بتوافق مصالحها مع هذه المصالح الغربية في رأي كوكبة كبيرة من زعامات الاستقلال والتجزئة سواء التقليدية التي كانت لا ترى الخير إلا فيما تراه الحكومة “البهية القيصرية” الاستعمارية، أم القيادات التغريبية التي قادها اقتناعها بالديمقراطية الليبرالية الغربية إلى تصور نجاة بلادنا بها رغم القمع والأطماع، بل حتى القيادات الثورية أيضاً والتي نسقت مع دولة كبرى ضد أخرى، هذا مع إلقاء تبعة تردي بلادنا على العثمانيين الذين ذهبوا مع مزاياهم وعيوبهم بعدما قاموا بمحاولة يائسة للتصدي للغرب في الحرب الكبرى الأولى (1914-1918) والتي كلفتهم سيلاً من الدماء الغزيرة أثناء الدفاع عن بلادنا ومحاولة استرجاع ما احتل منها ولم يتنازلوا حتى الرمق الأخير عما احتله الغرب حتى عما بعُد من هذه البلاد وظلت الخرائط العثمانية تدرج جميع الأراضي العثمانية المحتلة ضمن أراضي الدولة ولا تعترف بالأوضاع التي أوجدها الاحتلال البريطاني أو الفرنسي أو الإيطالي في مصر والجزائر وتونس والصومال والسودان وأرتريا وعدن وإمارات الخليج إلى أن جاءت أنظمة التغريب فباعت البلاد والعباد بعدما أصرت دول الاستعمار على الحصول على تنازل تركي عن الأملاك العثمانية في معاهدة لوزان (1923)، وبينما وصل السوفييت، وإن بثمن بشري باهظ، إلى قمة العالم في مرحلة قياسية، ظلت بلادنا في قاعه تندب وتولول بسبب حظها العثماني غافلة عن ظرفها الحالي، مما جعلها تدفع أيضاً ثمناً بشرياً باهظاً ولكن ليس في سبيل التقدم بل ضريبة للتبعية والعمالة والاحتلال والاستبداد والتخلف.