من السنن الحاكمة لحركة الضغط الجوى أنه لو شهدت منطقة ما حالة من انخفاض الضغط الجوى ، جاورتها حالة عكسية يكون فيها هذا الضغط مرتفعا ، فلابد أن تهب الرياح من الأولى إلى الثانية .. ولو راقبت حركة مياه كبت على الأرض وسارت بضع خطوات ، فسوف تجدها تهبط إلى أى بقعة منخفضة ... شواهد أكثر من أن تعد وتحصى ، كلها تنبئ بأن من سنن الله فى كونه تتمثل فى توازن مفروض يرفض حالة الفراغ . شىء مثل هذا يحدث فى حركة المجتمعات البشرية ، مثلما نرى فى تدفق العناصر الحضارية دائما من المجتمعات التى تعيش نهضة وتقدما مما يترك بصمات واضحة على حركة التطور الحضارى ، إلى تلك البلدان التى تعانى من عكس هذه الحالة . بل إن هذا أيضا هو القانون الذى يحكم حركة البيع والشراء بين الناس والمجتمعات ، حيث لا يمكن أن أبيعك إلا ما أنت بحاجة إليه وينقصك بالفعل . فى ضوء هذا ، لابد أن نفهم هذه الصور المتتالية من الحضور التركى بقوة فى الحياة العربية ،وأن المسألة ليست مجرد تخطيط تركى لغزو العالم العربى ،ومحاولة تعزيز نفوذ كان قد توارى منذ عدة عقود طويلة ،ويحاول أن يستعيد ما كان له من قوة وشأن وقدرة على الفعالية فى تحريك الأمور . ومن ثم فإن ما ساعد على هذا الحضور التركى لابد أن يكمن فى أن تركيا أصبح لديها الكثير مما تقدمه لسد احتياجات الوطن العربى ، لا بالمعنى التجارى وإنما بالمعنى الذى يتضمن المصالح السياسية والاهتمامات الثقافية ، وفى الوقت نفسه ، أصبح الوطن العربى عاجزا عن أن ينتج ما هو بحاجة إليه ،وأن ما تقدمه تركيا يتوافق بشدة ما يحتاجه العرب ، أكثر مما يرونه فى أيد أخرى ، وخاصة على الشاطئ الغربى من العالم . كذلك فلابد من الوعى بأن الحضور التركى المعاصر ، إنما هو عودة الأمور إلى نصابها ، حيث ظل العرب قرونا أربعة تحت مظلة الدولة العثمانية يجمع الطرفين عقيدة الإسلام بكل ما فيها من شرائع وعبادات ومعاملات وثقافة ،وأربعة قرون من التشارك الثقافى ليس أمرا هينا فى حياة الشعوب ، دون أن أقصد من ذلك أن تعود تركيا للهيمنة على الوطن العربى . لقد ظلت العلاقة بين العرب والأتراك ملتبسة إلى حد كبير ، حيث لعبت الأيدى الغربية دورا مقصودا ، دون أن نخشى فى قول ذلك أن نُتهم بالارتكان إلى نظرية المؤامرة .. فمنذ أن ظهرت إلى الوجود الدولة الإسلامية بشكلها الامبراطورى ،والرابطة التى تربط أفرادها هى الرابطة الدينية ،ومن ثم فإن العرب عندما فتحوا مصر على يد عمرو بن العاص ، لم ننظر إليه على أنه " استعمار " وأن العرب احتلونا ،وهكذا الأمر فى عهود الدولة الأموية والعباسية وغيرهما من صور وأشكال الحكم فى العصور الإسلامية . بل وصل الأمر إلى أن مجموعات ممن كانوا يباعون ويشترون من الرقيق من بلدان قاصية وعرفوا باسم المماليك ، عندما استطاعوا أن يحكموا مصر وأجزاء أخرى من الوطن العربى ، لم ينظر أحد إلى هؤلاء على أنهم مستعمرون . لكن المدهش حقا ، هو أن الأمر اختلف بالنسبة للعثمانيين ، حيث نذكر أن جماهير غفيرة من المتعلمين فى مصر تعلموا فى كتب التاريخ التى كانت تدرس لهم عبر عقود طويلة أن العثمانيين كانوا يحتلون مصر ، فلماذا اختلف النهج هنا عما كان طوال التاريخ الإسلامى ؟! كانت الدولة العثمانية أكثر دولة إسلامية استطاعت أن توجع أصحاب المصالح فى أوربا ،وخاصة عندما استطاع محمد الفاتح أن يغزو عاصمة الامبراطورية الرومانية " القسطنطينية " ، لتصبح هى عاصمة الدولة العثمانية الإسلامية وتسمى " اسطامبول " ، أو " الأستانة " ، فضلا عن ضم بلدان أوربية متعددة إلى المظلة الإسلامية . ولقد استطاع الأوربيون ، تدريجيا أن يثيروا بعض الشعوب الأوربية على الدولة العثمانية ،وبقى أن يفككوا أوصالها ويمزقوها ويرثوا هم البلدان التى كانت تحكمها . والذى يقرأ الفصل الخاص الذى كتبه " شكيب أرسلان فى الكتاب المترجم بعنوان (حاضر العالم الإسلامى ) سوف يجد مائة مشروع لتمزيق أوصال الدولة العثمانية ،وضعها الأوربيون . وساعد الأوربيين على تنفيذ مخططهم جملة من الأخطاء التى وقعت فيها الدولة العثمانية نفسها ،ودون استطراد فى ذلك ، فلعل أبرزها ، أنها ، بعد ما يقرب من ثلاثة قرون ، كانت عوامل الوهن تتسرب إليها ، فتشيع مظاهر قهر واستبداد ، وآيات فساد كبير . كذلك فقد كانت الدولة العثمانية هى الدولة الإسلامية الوحيدة التى لم تعمد إلى " التعريب " ، ففى الوقت الذى كان اللسان الرسمى فى كل الدول الأموية والعباسية والطولونية والفاطمية والأيوبية والمماليكية وغيرها لسانا عربيا ، يصاغ به كل ما ينتحه العقل الإسلامى ، رسميا وثقافيا ، ظل هؤلاء على لسانهم التركى . وكانت فرنسا قد استطاعت أن تستأصل المغرب العربى من الجسم العثمانى ، وتفعل إيطاليا مثل ذلك بالنسبة لليبيا ،وبريطانيا بالنسبة للسودان ومصر ،وبقيت منطقة الشرق الأوسط التى تشمل الشام والعراق . ومع الأسف الشديد ، ارتكبت الدولة العثمانية أخطاء فادحة فى طريقة حكمها للمشرق العربى ، فبذرت بذور سخط ،وظهور نزعات عرقية تؤكد على العنصر العربى ،ردا على ما بدأ يتأكد فى الدولة العثمانية من نزعات عرقية تركية ، فكانت الرغبة فى التخلص من الحكم العثمانى . وعندما اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى ،واختارت الدولة العثمانية الوقوف ضد كل من فرنسا وبريطانيا ومتعاونة مع ألمانيا استغلت كل من هاتين الدولتين الفرصة لتلعب على أوتار الشوق العربى فى التخلص من الاستبداد التركى . هنا ارتكب العرب خطأ العمر ، عندما تكتلوا فى المشرق العربى ، تحت مظلة ما سمى الثورة العربية لمساندة الإنجليز والفرنسيين ضد العثمانيين ، أملا فى تحقيق وعد كاذب يحصلون بموجبه على الاستقلال ، دون تنبه إلى المثل المصرى الشائع ( الحداية ما تحدفش كتاكيت )!! وكان ما كان ، عندما سار كل فى طريق .. جاءت ثورة أتاتورك لتقضى على الدولة الإسلامية الموحدة ، وتستأثر الغربان الأوربية بالصيد الثمين : العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ،والتى على أرضها شهدت السرطان الصهيونى الذى نعيش ويلاته منذ أكثر من ستين عاما ،وما يزال العرض مستمرا !! كان ما فعله أتاتورك ، غير متسق مع حركة التاريخ التركى المسلم ، حيث " غُرّبت " تركيا فى كل شئ وبدا لنا أنها قد انتزعت بالفعل من الجسم الإسلامى . ثم إذا بنا منذ عام 1995 نشهد حركة عودة للوعى الإسلامى على المستوى العام تمثلت فى حكم " اربكان " الذى كان زعيما لحرب الرفاه ، لكن هذه الحركة انتكست ، لتبدو لنا تركيا وقد عادت بسرعة إلى صورتها التغريبية . لكن الزعامة التركية الجديدة ذات المرجعية الإسلامية ، بقيادة أردوغان تعود منذ عام 2003 بنهج غاية فى الحرص والوعى والذكاء ، فيوفر نهضة اقتصادية أولا فى البلاد ، ولا يغرق نفسه مثلما أغرق الإسلاميون فى مناطق أخرى أنفسهم فيه من شكليات وثانويات ، بل يكون التدرج والبطء ،وعدم الميل إلى تحقيق كل ما يريدون دفعة واحدة ، فتتسع دائرة الموالين والأنصار ،ولا تستنفر العداوات الخارجية ، مثلما رأينا الموقف من التجارب الأخرى التى رفعت راية المرجعية الإسلامية ، فإذا بها تقع فى سلسلة لا تنتهى من المتاعب والتعثر ،والمواجهات الخارجية . فى الفترة نفسها ، كان العكس يحدث على الأرض العربية ...استغراق واندفاع فى الوقوع فى التغريب عامة والأمركة خاصة ،ووقوع فى براثن التبعية السياسية ،وتصالح مع العدو الصهيونى ،وتراجع فى مظاهر القوة الثقافية ، وكانت مصر بصفة خاصة هى قائدة هذه المسيرة المحزنة ، منذ التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد . ولأن " عمود الخيمة " قد انكسر أو تسلل إليه السوس ، رأينا الخيمة العربية كلها تتضعضع ،ويصبح العرب على درجة من التخاذل والتفرق مما أفقدهم أن تكون لهم كلمة مسموعة وقة مشهودة ، حتى بالنسبة لقضاياهم . هنا كان الحضور التركى ملبيا لنواقص عربية كثيرة ، فالدولة العربية الكبرى الرائدة قد انسحبت من القضايا العربية والإفريقية الكبرى تحت أوهام زائفة ، بل وصل الأمر إلى حد مشاركة دولة العدو الصهيونى فى بعض الأمور المضادة للمصلحة العربية والفلسطينية ، وخاصة بالنسبة لغزة . لم تكن هذه هى وحدها الساحة التى وجدت تركيا لنفسها فرصة البروز والحضور ، حيث لم يكن الأمر أمر سياسة وحسب ، بل أدرك القادة الجدد أن النهضة لابد أن تكون شاملة ، فإذا بمسلسلات تركية تغزو شاشاتنا الفضية ،ولا ننسى كيف أصبح " مهند " أشهر شخصية فى الوطن العربى كله ،والمؤتمرات التى تعقد فى بلدان عربية وعلى رأسها مصر ،وسعى مستمر لتسهيل حركة التنقل من وإلى تركيا بإلغاء تأشيرات الدخول بينها وبين عدة دول مثل الأردن وسوريا ، وكذلك يكفى أن تنظر إلى إعلانات تكاليف السفر والإقامة فى تركيا وتقارنها بغيرها لتدرك أنها أرخص من السفر إلى شرم الشيخ !!ومؤتمرات قمة مع عدة دول تعقد فى تركيا ، ووساطات تركية لمواجهة بعض الأزمات والمشكلات الكبرى ،وقناة تركية عربية ...إلى غير هذا وذاك مما يصعب حصره من صور الحضور التركى الإيجابى الذى يصب فى المصلحة العربية والتركية معا. إنها عودة لسد فراغ تركته القوى الأساسية ،وهى عودة إلى " الساحة " الملائمة لحركة الدولة ،وبرهنة عملية للذين أوجعوا رؤوسنا فى مصر بهذه الشعارت الانهزامية " ما لنا والعرب ؟" فالسياسات الذكية تدرك أن الساحة المحيطة لها أهميتها الكبرى ، ربما بما لا يقل عن أهمية الساحة الداخلية ، وخاصة فى عالم اليوم الذى نردد ليل نهار بأنه قد اصبح قرية صغيرة .