ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على شقة سكنية شمال غزة إلى 3 شهداء    في لقاء أخوي، السيسي يلتقي ولي العهد السعودي في مشعر منى    مدرج اليورو.. إطلالة قوية لجماهير الدنمارك.. حضور هولندي كبير.. ومساندة إنجليزية غير مسبوقة    لجنة الحكام تُعلن عن طاقم تحكيم مباراة الزمالك والمصري البورسعيدي    تشكيل منتخب النمسا المتوقع أمام فرنسا في أمم أوروبا 2024    حقيقة عودة كهربا إلى الدوري السعودي    "لبس العيد شياكة وأناقة".. بيراميدز يعلق على إطلالة لاعبيه    يورو 2024 - دي بروين: بلجيكا جاهزة لتحقيق شيء جيد.. وهذه حالتي بعد الإصابة    انخفاض درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حال. الطقس خلال أيام العيد    جثة مذبوحة وسط الطريق تثير ذعر أهالي البدرشين    وفاة مواطن من الفيوم أثناء تأدية مناسك الحج بالأراضي المقدسة    أثناء رمى الجمرات، وفاة رئيس محكمة استئناف القاهرة خلال أداء مناسك الحج    بالطيارة وبشكل عاجل، لحظة نقل حاج مصري أصيب بأزمة قلبية لإجراء عملية جراحية (فيديو)    خايفة عليها، عبير صبرى تكشف سر منع شقيقتها من التمثيل، وأختها تكشف مفاجأة عنها (فيديو)    الصحة تُوجه نصائح مهمة للعائدين من الحج.. ماذا قالت؟    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن فى ثانى أيام العيد الإثنين 17 يونيو 2024    مشاهد توثق اللحظات الأولى لزلزال بقوة 6.3 ضرب بيرو    فوائد إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية فوق أسطح المباني.. تقلل انبعاثات الكربون    إدمان المخدرات بين الهدف والوسيلة    في ثاني أيام العيد.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الإثنين 17 يونيو 2024    صفارات الإنذار تدوى فى كيبوتس نيريم بغلاف قطاع غزة    محافظ جنوب سيناء يشهد احتفال أول أيام عيد الأضحى بالممشى السياحى بشرم الشيخ    حظك اليوم برج الجوزاء الاثنين 17-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    هل تتمتع الحيوانات بالوعي؟ كيف تغير الأبحاث الجديدة المفاهيم    عيد الأضحى: لماذا يُضحى بالحيوانات في الدين؟    «إيمي» تطلب الطلاق بعد 10 أيام لسبب غريب.. ماذا كتبت في دعوى الخلع؟    الكنيسة الكاثوليكية تختتم اليوم الأول من المؤتمر التكويني الإيبارشي الخامس.. صور    أجهزة مراقبة نسبة السكر في الدم الجديدة.. ماذا نعرف عنها؟    كيف يمكن التعامل مع موجات الحر المتكررة؟    القافلة الطبية «راعي مصر» تصل القنطرة شرق بالإسماعيلية    لم يتحمل فراق زوجته.. مدير الأبنية التعليمية بالشيخ زايد ينهي حياته (تفاصيل)    بيلينجهام رجل مباراة إنجلترا وصربيا في يورو 2024    العيد تحول لمأتم، مصرع أب ونجله صعقا بالكهرباء ببنى سويف    فقدان شخصين جراء انقلاب قارب في ماليزيا    موعد مباراة إنجلترا والدنمارك في يورو 2024.. والقنوات الناقلة    من التجهيز إلى التفجير.. مشاهد لكمين أعدّته المقاومة بمدينة غزة    وزير الداخلية السعودي يقف على سير العمل بمستشفى قوى الأمن بمكة ويزور عدداً من المرضى    عاجل.. موعد اجتماع لجنة تسعير المواد البترولية لتحديد أسعار البنزين والسولار    الأنبا ماركوس يدشن كنيسة ويطيب رفات الشهيد أبسخيرون بدمياط    ممثل مصري يشارك في مسلسل إسرائيلي.. ونقابة الممثلين تعلق    وفاة خامس حالة من حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    هل يجوز بيع لحوم الأضحية.. الإفتاء توضح    المحامين تزف بشرى سارة لأعضائها بمناسبة عيد الأضحى    إيلون ماسك يبدي إعجابه بسيارة شرطة دبي الكهربائية الجديدة    خفر السواحل التركي يضبط 139 مهاجرا غير نظامي غربي البلاد    وفاة الحاج الثالث من بورسعيد خلال فريضة الحج    زيلينسكي يدعو لعقد قمة ثانية حول السلام في أوكرانيا    متى آخر يوم للذبح في عيد الأضحى؟    بعد كسر ماسورة، الدفع ب9 سيارات كسح لشفط المياه بمنطقة فريال بأسيوط    أجواء رائعة على الممشى السياحى بكورنيش بنى سويف فى أول أيام العيد.. فيديو    ماذا يحدث في أيام التشريق ثاني أيام العيد وما هو التكبير المقيّد؟    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    فلسطينيون يحتفلون بعيد الأضحى في شمال سيناء    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    منافذ التموين تواصل صرف سلع المقررات في أول أيام عيد الأضحى    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حامدة حسين السيد: «عبدالناصر» أجبره على إشهار إفلاسه
«أبى.. الذى لا يعرفه أحد»
نشر في الوفد يوم 10 - 05 - 2017

مات وهو يكتب أغنية.. وبجواره «بغبغان» يردد.. «الله.. الله»
عندما كان يتشاجر مع «أمى».. يحول «الخناقة» إلى «هزار»
«عبدالوهاب» سبب ابتعاده عن «أم كلثوم»
ناصر.. كلنا بنحبك
ناصر.. وهنفضل جنبك
ناصر.. وتعيش ونقولك
ناصر.. يا حبيب الكل.. يا ناصر
***
هذه الكلمات كتبها الشاعر الراحل حسين السيد، ضمن مئات الأغانى التى كتبت عن قناعة لتثبيت نظام يوليو وأركانه، على الأقل من ناحية الشحن المعنوى، وتعبئة الجماهير العربية من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، كتبها رغم أن عبدالناصر نفسه ضرب هذا الشاعر المرهف المشاعر فى مقتل - ربما دون قصد - وجعله بقرار اتخذه فى دقائق لا يملك قوت يومه.
سنة 1959 استدعى عبدالناصر قائد الجيش وقتها المشير عبدالحكيم عامر.. وقال له: من المتعهد الذى يورد للجيش المواد الغذائية؟ رد المشير: حسين السيد يا أفندم، قال عبدالناصر: حسين السيد الذى يكتب الأغانى؟ رد: تمام يا ريس، قال عبدالناصر: إذن إلغ هذا التعاقد فوراً! سُئل عامر عن السبب، قال عبدالناصر: لأنه لم تتم لذلك مناقصة عامة، رد عامر: لكن هذا هو المتبع منذ سنوات، وهو تعاقد معنا بالفعل هذا العام، ووضع كل أمواله وأموال عائلته فى الصفقة، وأنا أقترح أن نؤجل فسخ التعاقد للعام القادم، وأنت تعلم يا ريس أن حسين ورث هذا العمل، وتلك التجارة عن أبيه، وإلغاء التعاقد معه لهذا العام باختصار.. «هيخرب بيته وبيت أهله»! رد ناصر: لا شأن لنا بذلك.. «يتخرب»! ونفذ المشير تعليمات الرئيس، لتضيع أموال أسرة حسين السيد في هذه الصفقة، وتنهار تجارة والده التى عمل بها سنوات طويلة.
بعد عدة أسابيع قرر «الشاعر» الذى تعاطف معه «المشير»، أن يواجه «الرئيس» وقتها، فقرر إقامة دعوى قضائية يطلب فيها تعويضاً عما أصابه من أضرار أفقدته كل أمواله، لدرجة جعلته يشهر إفلاسه، وعلى مدار ما يقرب من 24 عاماً ظلت القضية فى دواليب المحاكم، ولم تخرج للتداول أمام العدالة، وسقطت بوفاة المدعى بالحق حسين السيد عام 1983، المدهش فى الأمر أنه - كشاعر - كتب بعد رفع القضية بشهور وربما أسابيع يمجد ويُعظم فى عبدالناصر، ونسى قضيته «كتاجر» دمر الزعيم تجارته.. فكتب يقول:
- ناصر.. وأنت اللى هديتنا
- ناصر.. وبنيت وحدتنا
- ناصر.. وجمعت صورتنا
- ناصر.. يا حبيب الكل.. يا ناصر!
كم كنت محظوظ يا ناصر!
***
وإن كان الحظ قد تخلى عن حسين «كتاجر» فى هذه الفترة، إلا أنه ابتسم له «كشاعر» قبل ذلك بسنوات، عندما أعلنت شركة محمد عبدالوهاب عام 1938 عن إجراء مسابقة لاختيار وجوه جديدة تشاركه فيلم «يوم سعيد»، تقدم إلى لجنة التحكيم التى ضمت العمالقة «عبدالوارث عسر ومحمد كريم وسليمان بك نجيب ومحمد عبدالوهاب».
وقف حسين أمام اللجنة، وقدم عدة مشاهد يُظهر من خلالها قدرته كممثل، بعد دقائق استمع بالصدفة لحور ساخن دار ما بين عبدالوهاب ومخرج الفيلم محمد كريم، يصر فى الحوار عبدالوهاب على استبعاد مشهد من الفيلم أو تغيير كلمات الأغنية المصاحبة للمشهد، لأنها دون المستوى. هنا تحرك الشاعر بداخل حسين السيد، وطلب منهما أخذ فرصة كتابة أغنية للمشهد، كان الفنان عبدالوارث عسر يتابع الحوار وتدخل قائلاً: «أنت ممثل أم شاعر؟» رد: أنا أكتب الشعر من الصغر، وألقى عليهم بعد الأشعار! حسم الأمر عبدالوهاب قائلاً: إذن اذهب واكتب ودعنا نرى ما لديك؟ وبعد 24 ساعة كان يقف على باب مكتب عبدالوهاب طالب المقابلة، وبعد دقائق كان أمامه يقرأ ما كتبه وسهر عليه ليلة أمس، عبدالوهاب أمامه وجهه يبتسم، وشفايفه تتمتم معه، ويده تتحرك صعوداً وهبوطاً، وهو يردد وراءه كلمات الأغنية قائلاً:
- إجرى.. إجرى.. إجري
- ودينى قوام.. وصلنى
- وصلنى.. قوام وصلنى
- دا حبيب الروح مستنى
ومنذ ذلك اليوم عرف حسين السيد أنه لم يخلق تاجراً، ولا ممثلاً ولكنه خلق شاعراً، أبدع فى فن الأغنية، وضع لها مجداً وعمقاً، وبهجة، عاشت - وما زالت - فى وجدان المتلقى حتى اليوم.
***
- انتى مسافرة.. انتى مسافرة
- الدموع دى وصيتك
- خلهالى فى غربتك
- الدموع دى عندى غالية
- عايز أشوفها فى ابتسامة
- عايز أشوفها مرة تانية
- وانتى راجعة بالسلامة
كانت هذه الكلمات الجميلة تطارد ذهنى وأنا فى طريقى إلى الدكتورة «حامدة حسين السيد» ابنته، حيث اتفقت معها على هذا اللقاء فى سلسلة حوارات «أبى الذى لا يعرفه أحد»، وهذه الأبيات كان قد كتبها عام 1951 لحبيبته وزوجته وأم أولاده، بعد ما شاءت الأقدار أن تتركه وتسافر إلى لندن لاستكمال دراستها الجامعية، بعد أيام من عقد زواجهما، يومها كتب ليخفف عن نفسه لوعة فراقها، ويخفف عنها عبء الغربة، عندما وصلت إلى منزل الدكتورة «حامدة» وجدت تلك الكلمات مكتوبة بجوار صورتها، وبالقرب منها صورة له مع الموسيقار محمد عبدالوهاب.
استقبلتنى الدكتورة بترحاب وقبل أن أجلس قلت لها: هل بالفعل كتب والدك تلك الكلمات لوالدتك وهى تغادر مصر على ظهر باخرة أبحرت بها إلى مدينة الضباب «لندن»، وتركته هو هنا يعانى فراقها، ابتسمت بعدما أشارت لى بالجلوس ثم قالت: نعم.. كتبها لها يومها، وكانت بينهما قصة حب جميلة، حيث كانت «والدتى» صديقة لأخته، وتسكن بجواره، قلت لها: وهل كتب لها أو عنها كلمات الأغنية الشهيرة للفنانة نجاة «ساكن قصادى» قالت: نعم.. هذه الكلمات كتبها لها أيضاً، وهنا دعنى أتوقف أمام موقفه من سفر زوجته التى لم يمر على زوجهما إلا أيام، وكيف أنه وافق على سفرها حتى تحقق طموحها فى الحصول على الدكتوراه، وأن تعيش بمفردها فى الغربة، وهذا يدل على ثقافته، ومرونة تفكيره، وحبه لزوجته.. والحب هنا هو حب التعاون وليس حب الامتلاك، وهذه النوعية من الأحاسيس نفتقدها بيننا اليوم.
***
ولد الشاعر حسين السيد فى 15 مارس 1916 ورحل فى 27 مارس 1983 من أب مصرى وأم تركية، جاء مع أمه من تركيا إلى مصر، وعمره عامان، وأقامت الأسرة عند خاله فى مدينة طنطا بمحافظة الغربية، وكان خاله شيخاً لأحد «التكايا» التى يتجمع فيها الدراويش. واستمع الطفل حسين كثيراً لهم، فبدأ إحساسه بالشعر والموسيقى مبكراً.
بعد الدراسة الابتدائية جاء للقاهرة، حيث كان يعمل والده تاجراً كبيراً، دخل مدرسة «الفرير» الفرنسية بوسط القاهرة، وحصل على شهادة «البكالوريا» - شهادة الثانوية العامة اليوم - عام 1937 وكان متفوقاً فى اللغة العربية، وحلمه الالتحاق بكلية الآداب، لكن وفاة والده جعلته يحل محله فى مزاولة نشاطه التجارى، حيث كان أبوه مسئولاً عن توريد الأغذية للجيش والمستشفيات الحكومية، وكان ولداً وحيداً لشقيقتين، وكان يتمتع بقدر من الوسامة ونضارة الشباب، وكانت أمنية حياته أن يصبح نجماً سينمائياً، لكن الموسيقار عبدالوهاب اكتشف فيه موهبة كتابة الأغانى، فطلب منه أن يصرف النظر عن التمثيل، وأن يركز فى تأليف الأغانى، وهذا ما حدث فأصبح مؤلفاً لمعظم ألحان عبدالوهاب الذى فتح له أبواب النجومية فى كتابة الأغنية، ليكتب مئات الأغانى التى شدا بها ألمع المطربين، وكان رائداً لأغانى الأطفال. حصل على وسام العلوم والفنون فى عيد العلم عام 1960 من الرئىس عبدالناصر وكرَّمه الرئيس السادات عام 1976 فى عيد الفن، تزوج من الدكتورة نعيمة عيد، أستاذ التربية بجامعة عين شمس، وله من الأبناء ثلاثة، حسام (طبيب أسنان)، وحاكم (طبيب أسنان)، وحامدة (طبيبة بشرى).
***
عدت للدكتورة حامدة وسألتها عن اسمها الذى يبدو مختلفاً بعض الشىء ومن الذى اختاره؟ قالت: أبى.. كان نفسه يكون عنده ابنة، وعندما جئت له حمد ربه كثيراً، وكان قبلى قد رزقه الله بأخى الأكبر حسام ثم بأخى الثانى «حاكم» ثم أنا.. ولأنه كان يريد أن تكون أسماؤنا كلها فى حرف ال«ح» جاء اسمى «حامدة»!
قلت هو كأب فى البيت كيف كان يتعامل معكم؟ قالت: حتى تتعرف على الشخصية أكثر تعالى أحكى لك طريقته فى «الخناقة» مع «أمى». قلت: وهل فنان مثله يفعل ما يفعله الأزواج من «خناق» أسري؟ تضحك وهى تقول: بالطبع كان يحدث ذلك.. لكن كان أبى يحول «الخناقة» بينه وبين والدتى إلى لحظات من الضحك وينتهى الموقف سريعاً، فمثلاً حدث ذات يوم مشادة زوجية بينهما.. وأثناء اشتداد النقاش، والحدة فى الكلام.. قالت والدتى «لأ يا حسين.. لأ مش أنا اللى تقولى كده»! هنا انتبه أبى لكلامها.. وقال: لحظة واحدة «لأ مش إيه؟» قالت: «لأ مش أنا» قال: «هذه جملة جميلة يا نعيمة»، ثم واصل كلامه.. ممكن استأذن نأجل «الخناقة» دقائق حتى أعود، ودخل مسرعاً إلى مكتبه ثم خرج يقرأ عليها:
لأ مش أنا اللى أبكى.. ولا أنا اللى أشكي
لو جار علىَّ هواك.. ومش أنا اللى أجري
وأقول علشان خاطرى.. ولا ليا حق معاك
قلت لها.. هل ولد فى تركيا ثم انتقلت الأسرة للقاهرة كما هو شائع ومعروف عنه؟ قالت: أبى ولد فى القاهرة وليس فى اسطنبول كما هو شائع.. كانت جدتى تركية وجدى مصرى وبعدما تزوج عاش فى القاهرة قبل انتقاله إلى طنطا، والتحق أبى بكلية التجارة - رغم أنه كان يريد الآداب - وبعد السنة الثانية، توفى أبوه، فترك الدراسة حتى يستطيع تلبية مطالب الأسرة بعدما ترك له أختين هما أمينة الكبرى وهدى الصغرى، قلت بمناسبة تجارة أبيه إللى فقدها عندما استبعد الرئيس عبدالناصر وجوده كمورد لأغذية القوات المسلحة فى ذلك العصر.. سؤالى هنا هو: كيف استطاع تجاوز غضبه الطبيعى والمنطقى من عبدالناصر، بل وكتب الأغانى له؟ قالت: ليس هذا فقط الذى فعله.. بل بكى أبى بشدة يوم إعلان عبدالناصر التنحى بعد نكسة 67، وأنا أعتقد أن حب هذا الجيل لعبدالناصر لم يكن حباً لشخص أو لمنصب أو لسلطة.. ولكن هذا الحب للوطن، كان عبدالناصر بالنسبة لهم الرمز والقوة والخطوة التى ستأخذ الوطن للأمام، ومن هنا أنا لا أستغرب من تلك الحالة، نعم عبدالناصر تسبب فى إشهار إفلاسه وقضى تماماً على تجارته، ولكن فى نفس الوقت كرَّمه وكأنه كان يريد أن يعتذر له، هذا الجيل عاش حلم القومية العربية، والمد الثورى والتحرر الوطنى وأبى كتب داعماً لذلك كلمات رائعة فى أغنية «دقت ساعة العمل» التى قال فيها:
- لما نادى الشعب لبطله
بطل الثورة جمال
- لما مشينا نغنى ناصر
- وسبقنا الأجيال
- كنا بنحمى مبادئ ستة
- عارفينها مشاويرها طوال
- واليوم وإحنا فى وسط السكة
- بنجدد عهدك يا جمال لبقية المشوار
قلت لها: من الذى اكتشف موهبة كتابة الشعر فى صباه؟ قالت: كان يعشق اللغة العربية وكتب الشعر بالفطرة، ولعب أستاذ مادة اللغة العربية فى مدرسة «الفرير» الثانوية الدور الأكبر فى حبه للغة، وذات يوم حضر إلى المدرسة «زكى بك مبارك» المشرف فى ذلك الوقت على المدارس الأجنبية فى مصر، وكان أبى فى الصف الثالث من البكالوريا، وطلب منهم الكتابة فى موضوع «كل إناء بما فيه ينضح» ثم طلب من التلامذة قلماً أحمر، ولم يجدوا إلا مع أبى، فقال زكى بك مبارك موجهاً كلامه له «هذا يسمى أقل القليل» - يبدو أن القلم كان صغيراً فى الحجم - فضحك التلامذة واعتبر أبى أن هذا إهانة له، وحصل أبى على أعلى درجة فى تصحيح موضوع التعبير، وأثناء الفسحة لم يخرج أبى مع التلامذة فى فناء المدرسة، وظل فى الفصل وقتها كتب أبيات شعر معترضاً فيها على طريقة «زكى بك مبارك»، بعد الفسحة عاد الجميع للفصل، وعندما شاهدها زكى بك، سأل من كتب هذا؟ رد: مدرس اللغة العربية مرجان أفندى، حسين يا أفندم، قال له: هل تكتب الشعر يا حسين؟ رد: نعم، فنظر إلى مدرس الفصل طالباً منه الاهتمام به، لأنه سيكون أحد أهم الشعراء فى المستقبل.
قلت لها: اسمه حسين بهاء الدين السيد، قالت: نعم، قلت: من الذى اقترح عليه أن يكون «حسين السيد» فقط؟ قالت: الموسيقار محمد عبدالوهاب، وكان ذلك بعد أول تعاون بينهما فى فيلم «يوم سعيد» يومها وهو يعرف نفسه لعبدالوهاب قال له: اسمك طويل، إما يكون حسين بهاء الدين أو حسين السيد.. فكان الاسم الأخير، وعند تركيبة الاسم فنياً طلبت منى أن تتوقف قليلاً حتى تستطيع أن تقدم لى واجب الضيافة طلبت فنجان قهوة زيادة، وبعد دقائق عادت حاملة لى القهوة وهى تقول: كان أبى رجلاً كريماً وسمرفاً جداً، وكانت والدتى كثيراً ما تحذره من شدة الإسراف، فكان يقول لها.. دعينا نحيا الحياة كما يليق بها ويليق بنا أن نحياها.
***
قلت لها هل كان له أسلوب حياة خاص به فى البيت؟ قالت: الهدوء هو عنوان حياته، برنامجه اليومى كان يبدأ الساعة الثانية عشرة ظهراً، عندما ينزل من البيت متوجاً إلى مكتبه فى وسط القاهرة، وهناك كان يكتب أو يقرأ أو يجرى فيه مقابلاته، وفى تمام الساعة السابعة بعد الظهر يعود للبيت للغداء أو العشاء سميها ما شئت، على هذه الوجبة كانت تجتمع الأسرة كلها، وبعد الطعام كان يجلس معنا ويحرضنا - بهزار - على عدم المذاكرة حتى نجلس معه، وكانت أمى تصرخ فينا حتى ننتهى من تلك الجلسة ونتوجه إلى المذاكرة، وكان فى الصيف يحب السفر إلى الإسكندرية، وهناك له طقوسه الخاصة بداية من المقهى الذى يجلس عليه، ووصولاً إلى الشوارع الشعبية التى كان يحب المشى فيها بمفرده.
وكان يكتب وهو واقفاً يتمشى فى طرقات البيت، فلم يكن يحب الكتابة وهو جالس على مكتبه، قلت لها: بمناسبة الكتابة.. لماذا لم يحدث تعاون بينه وبين أم كلثوم؟ قالت: أظن أن السبب فى هذا هو الموسيقار محمد عبدالوهاب، قلت: ولماذا؟ قالت: لأنه جعله يخاف من أم كلثوم، ومن طريقتها فى التعامل مع الشعراء والكلمات.
***
قلت لها: أيامه الأخيرة.. كيف كانت؟ ردت وهى تنظر إلى صورة له معلقة بالقرب منا قائلة: لم يشتكِ من أى أمراض خطيرة، باستثناء ألم محدود فى بطنه بسبب «المرارة» فهو كان يهتم بصحته جيداً، ويأكل بصورة صحية سليمة، ويوم رحيله أو بالدقة يوم بداية رحلته مع الموت، نزل من البيت فى موعده تماماً.
وكانت أنا وزوجى على اتفاق معه للمرور عليه فى مكتبه بميدان الأوبرا بوسط القاهرة، حتى نذهب معه للطبيب بسبب شكوته من ألم «المرارة»، وفى الساعة السابعة مساء وصلنا إلى العمارة، وصعدنا إلى مكتبه فى الدور الرابع، وجدنا نور المكتب مضاء ولا حركة باستثناء صوت «البغبغان» الذى كان يحتفظ به فى مكتبه، ضغطنا على «جرس الباب» مرة واثنتين وثلاثاً، بدأ التوتر يتملكنى والخوف يتسرب إلى قلبى والوساوس من أن يكون أصابه أى مكروه يهاجم عقلى.
حاول زوجى د. يسرى أن يهدئ من اضطرابى وخوفى وارتباكى وحاولت قدر استطاعتى، وبعد محاولات كثيرة قررنا «كسر» زجاج الباب وفتح الباب من الداخل، وبعد عدة محاولات نجحنا ودخلت مسرعة إلى غرفة مكتبه فوجدته ملقى على مكتبه فاقداً للوعى.. و«البغبغان» بجواره يردد: الله.. الله.. الله فبكيت بشدة وانهرت.. وتماسك زوجى حتى وصلنا إلى أقرب مستشفى، وما هى إلا ساعات حتى فارق الحياة بعدما أصيب بسكتة دماغية قاتلة عن عمر يناهز ال 67 عاماً، لملمت أوراقى.. وتركت ابنته مع الذكريات والحكايات وعدت من حيث أتيت.
***
.. ورحل الشاعر الغنائى حسين السيد بعد رحلة عطاء صنع فيها أو ساهم فيها فى صناعة فن الأغنية، بعدما كتب مئات الأغانى لأشهر نجوم الطرب العربى.. وكتب القصة الغنائية لأول مرة، والأغانى الوطنية، وأغانى الأطفال والفوازير الرمضانية.
.. ومثلما أمسك القلم قبل سنوات بعيدة ليكتب أول أغانيه لعبدالوهاب، وختم حياته وهو يحاول كتابة أغنية جديدة - وربما أخيرة - لعبدالوهاب بمناسبة عيد ميلاده، غير أن هذه المرة لم يستطع، فلقد مال رأسه على الورق، ولم يستطع رفعه مرة أخرى، وسقط من يده القلم، فلم يعد بمقدوره الكتابة مرة أخرى للأبد، حسين السيد مات، وكأنه كان يعلم قبل رحيله بسنوات فكتب رائعة لحنها رياض السنباطى التى غناها أيضاً والتى كتب فيها:
- إله الكون سامحنى.. أنا حيران
- جلال الخوف يقربنى من الغفران
- وسحر الكون يشاور لى على الحرمان
- وأنا إنسان يا ربي
- أنا إنسان.
دنيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.