سياسة الرئيس الأسبق أضعفت الطبقة الوسطى وحولت الفقراء إلى «برميل بارود» «السيسى» لجأ إلى صندوق النقد بعد تعذر الحصول على تمويل للمشروعات الجيش يتدخل بشكل مباشر لردع المحتكرين وتوفير السلع الأساسية للمواطنين غالبية المصريين لا تفكر فى الثورة حالياً خوفاً من مصير سوريا واليمن وليبيا دول الخليج تستخدم ثراءها النفطى للسيطرة على البلدان العربية الفقيرة الدكتور حازم قنديل غير معروف فى مصر على نطاق واسع، رغم أنه يحظى بشهرة دولية كبيرة فى أوساط الأكاديميين، خاصة أنه من أصحاب الرؤى العميقة للشأن الاقتصادى والسياسى فى مصر. يعمل الدكتور «قنديل» أستاذاً لعلم الاجتماع السياسى فى جامعة «كامبريدج» العريقة، ويهتم بتاريخ الدولة المصرية الحديثة منذ عام 1952، وله مؤلفات هامة فى هذا المجال. موقع «اليسار الجديد» البريطانى أجرى مقابلة مطولة ومهمة مع الدكتور حازم قنديل بعنوان «مصر السيسى» تناول فيها باستفاضة مجمل الأوضاع الراهنة فى السياسة والاقتصاد. «الوفد» تنشر فى هذا الحوار، الجزء الخاص بالاقتصاد، الذى يلقى الضوء على أسباب وملابسات الظروف المعيشية الصعبة التى يواجهها المصريون. فيما يتعلق بالجانب الاقتصادى، فى بداية حكم «السيسى» لم يكن هناك توجه جاد للاتجاه نحو «الليبرالية الجديدة» فى النظام الاقتصادى، والدليل على ذلك، قيام الرئيس بزيادة الإعانات العامة، ولكن الظروف تغيرت إلى حد كبير فى الفترة الأخيرة، بعد قرض صندوق النقد الدولى، حيث شمل حزمة من الإصلاحات الاقتصادية فيما يتعلق بقطاع الصناعات والحد من الدعم وتعويم العملة المحلية، فهل قبول «السيسى» لهذا البرنامج الاقتصادى يعتبر نوعاً من اليأس وعدم وجود بديل آخر خاصةً أن وضع الاقتصادى للبلاد متدهور للغاية؟ - مؤسسات النظام القديم تعلمت مختلف الدروس الاقتصادية من ثورة 25 يناير، ف«السيسى» ومعاونوه من التكنوقراط يعتقدون أن سبب سقوط «مبارك» وحزبه، هو إعادة الهيكلة الاقتصادية على طريقة «الليبرالية الجديدة» التى بدورها أضعفت الطبقة الوسطى فى البلاد كما حولت «الطبقة الدنيا» إلى برميل بارود قد ينفجر فى أى وقت. لذلك الطريقة المثلى عند البعض لمنع أى انتفاضة، هى التراجع عن الإصلاحات الهيكلية والعودة إلى وضع الدولة المسيطرة على كافة الجوانب الاقتصادية وعلى شبكة النظام القديم. وعلى الجانب الآخر، يرى بعض المعارضين أن ثورة 2011 عرقلت الجهود الناجحة وأربكت الوضع الاقتصادى بالبلاد علاوةً على أنها أجهضت الإصلاحات الاقتصادية التى نفذها «مبارك» على طريقة «الليبرالية الجديدة»، ومن المثير للدهشة أيضاً فى هذا الأمر، أن الكثير من أفراد الطبقة الوسطى: يعتقدون بأن الأوضاع كانت أفضل فى عهد مبارك عما عليه فى الوقت الراهن. ويعتبر التمويل المشكلة الأساسية التى تواجه السيسى حالياً لتنفيذ رؤيته الاقتصادية، التى تتفق إلى حد كبير مع تجربة «عبدالناصر» الاقتصادية التى نفذها فى خمسينات وستينات القرن الماضى، كما يكمن جوهر الاختلاف بين النظام الاقتصادى ل«عبدالناصر» والسيسى، وهو قدرة «عبدالناصر» فى تأميم العديد من أراضى الملاك والطبقة البرجوازية، فضلاً عن الأجانب، وذلك لأن العديد من ثرواتهم كانت أراضى زراعية، وأثناء الحرب الباردة، اعتمد على الاتحاد السوفيتى فى تمويل لعديد من المشروعات، ولكن السيسى لم يتخذ هذه القرارات، فالطبقة العليا فى مصر الآن عبارة عن مجموعة من رجال الأعمال يسيرون على نهج «الرأسمالية العالمية»، كما لا يوجد حرب باردة أو صراع بين قوتين عظميين (كما كان بين الاتحاد السوفيتى والولاياتالمتحدة فى القرن الماضى)، يسمح له باستغلاله هذا الوضع لتحقيق العديد من المكاسب لتمويل المشروعات التى يرغب فى تنفيذها. ومع ذلك، سافر السيسى إلى كل من روسياوالصين وحاول جذب استثمارات للبلاد، ولكن لم يأت بالكثير، لذلك سرعان ما أدرك أن الطريقة الوحيدة لجذب الاستثمارات الخارجية هى فتح المجال أمام القطاع الخاص، وبدا ذلك واضحاً، فى المحاولات التى قام بها الرئيس مع رجال الأعمال فى المؤتمر الاقتصادى بشرم الشيخ لتشجيعهم على الاستثمار فى البلاد بدافع الوطنية، وفى بعض الأحيان كان يلجأ لتهديدهم بإلغاء امتيازاتهم وحرمانهم من الحصول على العقود أو مناقصات حكومية. وحاول «السيسى» دعم المشروعات المتوسطة، كما شجع المواطنين ليدخروا أموالهم، من خلال تمويل «تفريعة قناة السويس الجديدة»، ولكن رغم هذه المجهودات، فإنه يحتاج إلى دعم مالى كبير، وبالتأكيد لا يستطيع الحصول عليه من داخل البلاد ولا من القوى العالمية مثل الصينوروسيا، فليس أمامه إلا دول الخليج وخاصةً السعودية، ولكن هذه الدول تعانى الآن من مشاكل اقتصادية، مثل انخفاض أسعار النفط العالمية وعجز الموازنة وارتفاع حجم المديونيات الخارجية، لذلك لجأت السعودية لحل أزمتها الاقتصادية برفع سعر تأشيرة الحج لمكة المكرمة. وبالنسبة لدول الخليج، فتريد استخدام «ثرائها النفطى» لتمويل بعض الدول الفقيرة من أجل بسط نفوذها وقوتها، لذلك لعبت السعودية دوراً عسكرياً بارزاً فى قيادة حرب اليمن فى عهد «عبدالناصر، حيث دعمت حرباً بالوكالة فى ذلك الوقت، وأنفقت المزيد من الأموال للحصول على أسلحة متطورة من الولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة المتحدة. وفى الوقت الحالى، تشارك كل من «السعودية» وقطر بضربات جوية فى الحرب الدائرة بسوريا وليبيا. إن المال اللازم لتمويل المشروعات العملاقة المصرية لا يزال فى أيدى نخبة رجال أعمال نظام «مبارك»، الذى كان يستعين بهم الرئيس الأسبق لضخ مزيد من الاسثمارات للبلاد. ففى الوقت الحالى، العديد من المستثمرين الأجانب غير متحمسين لقبول عرض السيسى بإبرام صفقات اقتصادية مع الحكومة، لأنهم يفضلون التعامل المباشر مع القطاع الخاص، لذلك فيبدو أنه وافق على الاقتراض من صندوق النقد الدولى بعد تعذر تأسيس دولة تهيمن على اقتصاد البلاد (على الطريقة الاشتراكية). يواجه النظام الحالى، أزمات اقتصادية مثل نقص بعض السلع الأساسية، من بينها الأرز والسكر، وارتفاع حجم التضخم، علاوةً على رفع الدعم عن عدد من المنتجات، كيف تم استقبال هذه الإجراءات من الشعب؟ يعتقد «أتباع نظام مبارك» أن «السيسى» لن يحاول هدم إصلاحات اقتصاد «الليبرالية الجديدة» التى قام بها «مبارك»، لذلك سيواصلون عملهم كالمعتاد. وإذا توقع السيسى أن قرض صندوق النقد الدولى سوف يحل المشاكل الاقتصادية التى تعانى منها البلاد فى أقرب وقت ممكن، بعد تدفق العملات الأجنبية للاقتصاد، تبقى الإشكالية الكبرى فى تدهور النظام الاجتماعى فى المجتمع، فماذا سيفعل حيال هذا المشكلة؟ إن البعض يعتقد أن السيسى سوف يلجأ للجيش من أجل إحكام السيطرة على الاقتصاد ومصادرة الممتلكات الخاصة والمدخرات فى البنوك، ولكن هناك العديد من الشواهد التى تثبت إمكانية تنفيذ هذا التصور، منها: تدخل الجيش بعد زيادة أسعار السكر واختفائه فى الأسواق المصرية، حيث داهم عدة مستودعات للسكر وصادر عدداً كبيراً من الأطنان بها، كما داهم عدة مصانع منها «إيديتا» الذى يعتبر واحداً من أكبر المصانع للمنتجات الغذائية فى البلاد، وصادر منه كميات كبيرة من السكر تكفى المصريين لمدة ثلاثة شهور قادمة، كما تدخل الجيش بشكل مباشر، بعد أزمة نقص ألبان الأطفال فى أواخر الصيف الماضى، وقام بتوفير كميات كبيرة من «الألبان المدعمة» للأمهات. تعرضت مصر خسائر فادحة نتيجة نقص إيرادات أسعار البترول، وضرب السياحة بعد ثورة 2011.. - صحيح، قديماً كان هناك ثلاثة مصادر أساسية للدخل الأجنبى فى مصر، وهى قناة السويس والمنتجات البترولية والسياحة، ولكن فى السنوات الأخيرة هذه المصادر اختفت تماماً. وكان لدى «مبارك» مشروع «سرى» لتحويل قناة السويس لمنطقة صناعية، حيث تأتى السفن محملة بالمنتجات «غير المصنعة» ثم يعاد تصنيعها فى المصانع المصرية ليتم تصديرها للخارج، وعندما اعتلى «مرسى» سدة الحكم فى البلاد عام 2012، كان يريد تنفيذ هذا المشروع لذلك طلب المساعدة من قطر، ولكن حدث وقتها ضجة فى البلاد بخصوص آثار هذا الاتفاق على سيادة القناة. فى عهد السيسى، تم توسيع قناة السويس لتسهيل حركة المرور أمام السفن بدلاً من الانتظار لساعات طويلة، ولكن يرى بعض «المعارضين» أن السفن ستضطر فى كافة الأحوال لدفع رسوم إضافية للمرور من القناة وتجنب الوقوف فى طوابير الانتظار. ورغم أن تكلفة المشروع باهظة للغاية وسحبت من الاحتياطى الأجنبى للبلاد، فإن السيسى يعتبر أنه مشروع قومى، كما تخيل عدد كبير من الأفراد بأن «حقبة عبدالناصر عادت من جديد»، وسيتم تحقيق العديد من الإنجازات على المستوى الاقتصادى، خاصةً أن «السيسى» أصر على أن يتم الانتهاء من القناة فى عام واحد، أى (أقل من الوقت الزمنى الذى كان محدداً لها وهو ثلاث سنوات). ولا يريد نظام «السيسى» السيطرة فقط على الاقتصاد، ولكن يريد استثارة عاطفة المصريين من أجل الحصول على تمويل للعديد من المشروعات، كما يريد تنفيذ مشروع «دلتا النيل» فى جنوب البلاد بالقرب من السودان، ويتم حالياً العمل فى «العاصمة الإدارية الجديدة» ليسكن بهما عدد كبير من المواطنين لتخفيف التكدس فى بعض المحافظات. هل تقصد أن طبقة رجال الأعمال ليست لديها رغبة فى المشاركة فى المشروعات التى ينفذها النظام الحاكم، وما موقف الطبقة الوسطى من هذه المشروعات؟ - عانت الطبقة الوسطى كثيراً فى حقبة «مبارك»، وذلك بعكس ما كان يروج له «أنصار مبارك» بأن نجاح الإصلاحات الاقتصادية على «طريقة الليبرالية الجديدة، سوف ينعكس على هذه الطبقة وستستعيد قوتها وترتفع إلى الطبقة العليا، بعدما تنتعش شركات القطاع الخاص. وهذا التصور الذى تبناه «أنصار النظام القديم» قد يكون صحيحاً لبعض الفئات التى صعدت سريعاً إلى الطبقة العليا، مثل المحامين والموظفين بالبنوك، ولكن هذا الأمر لم يحدث مع المدرسين والموظفين المدنيين فلم يحققوا أى مكاسب وظلوا عالقين بين الطبقتين (الوسطى والعليا). وبخصوص الطبقة الوسطى فى عهد «عبدالناصر»، فإن الدولة كانت تهتم بها للغاية سواء فى الجامعات أو المدارس والمؤسسات الحكومية، ولكن بعد انتهاء حقبة «عبدالناصر» بدأت هذه الطبقة تتدهور بفعل عدة عوامل منها ارتفاع الأسعار، ورغم محاولة الدولة التدخل للحفاظ على انخفاض أسعار بعض السلع الأساسية للمواطنين البسطاء، مثل الخبز والسكر والأرز، ولكن ظلت أسعار العديد من السلع المهمة فى الحياة اليومية غير خاضعة لسيطرة الحكومة مثل الأدوات المنزلية وأجرة وسائل النقل. وأود الإشارة إلى أنه عندما نسلط الضوء على تدهور الطبقة الوسطى، يكون بذلك هناك حالة من القلق إزاء استقرار المجتمع، خاصةً أن معظم الفئات التى تنتمى «الطبقة الدنيا» لديهم نظام اقتصادى بديل عن الدولة وهو ما يسمى «الاقتصاد السرى» وهو يكون عادة من مصادر أرباح بعض الأنشطة المشبوهة مثل تجارة المخدرات وغيرها، كما يحاولون حل محل الدولة فى السيطرة على بعض النزاعات الأهلية التى تندلع فى بعض الأحياء الشعبية، وتكون نتيجة ذلك ليس فقط انهيار الطبقة الوسطى ولكن الدولة ايضاً. ولكن ليس معنى هذا، أن الطبقة الوسطى ستقوم بثورة مرة أخرى، خاصةً أن معظم أبنائها يعتقدون أن قيامهم بثورة أخرى ورحيل الرئيس، سوف يقودهم إلى نفس مصير بعض الدول المنهارة، مثل سوريا وليبيا واليمن والعراق، وتحدث فوضى فى البلاد، ولكن لا أحد يعرف، هل سيظلون هكذا أم لا؟ وهل سيكتفون فقط بالعودة إلى منازلهم من عملهم فى أمان؟! حازم قنديل.. فى سطور محاضر فى علم الاجتماع السياسى بجامعة كامبريدج، وزميل كلية سانت كاثرين. يدرس علاقات القوة بالثورة والحرب بمنطقة الشرق الأوسط وأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. حصل على شهادة الماجستير عام 2004 فى العلاقات الدولية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة. حصل على درجة الماجستير عام 2005 فى النظرية السياسية من جامعة نيويورك. حصل على درجة الدكتوراه عام 2012، فى علم الاجتماع السياسى من جامعة كاليفورنيا وجامعة لوس انجلوس. له العديد من الكتب منها: «الجنود والجواسيس ورجال الدولة» «طريق مصر إلى الثورة «داخل الإخوان المسلمين» «السياسة وتغيير النظام»