على بعد عدة كيلو مترات من شارع الهرم تقع قرية «كرداسة»، أحد أشهر أماكن صناعة العبايات والجلابيب الحريمى التى كان يتم تصديرها إلى مختلف الدول العربية، كما كانت يوميًا مزارًا سياحيًا للكثيرين من الأجانب، كما كانت السيدة جيهان السادات تصطحب زوجات الرؤساء من ضيوف مصر لزيارة القرية، وتهديهم بعض مصنوعاتها. بدأت كرداسة حفر طريقها فى صناعة المنسوجات، مع جنود الاحتلال البريطانى لمصر مقابل دخل محدود نظير هذه المهمة، حيث كان الجنود يحرصون على اصطحاب أبنائهم وزوجاتهم لزيارة القرية والاتفاق مع النساجين على التصاميم المختلفة، وخلال فترة الخمسينيات أنشأ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ثلاثة مصانع للنسيج بالمنطقة، لتخرج منها ملابس الأطباء والممرضات، لكن تدريجيا وبسبب تغير سياسات الدولة فى السبعينيات، أغلقت هذه المصانع بعد تراكم الديون عليها. ولكن توجه العمال للتصنيع اليدوي فى ورش صغيرة، لتبدأ أكبر رحلة لها وشهرة عالمية لكرداسة بصناعة العباءات المطرزة يدويًا، حتى انهالت عليهم العروض من السائحين من مختلف الدول لاصطحابهم لبلاد أخري لتعليمهم صناعة النسيج اليدوي. وخلال فترة التسعينيات صارت كرداسة مقصدًا للسياحة فى مصر، وتحولت من قرية عادية يقبع سكانها في غلال الفقر إلى عروس الخريطة السياحية المصرية، إلا أن الحلم لم يستمر كثيرًا، فبعد ثورة يناير عانت من تدهور حالة السياحة بها، حتى اختفت تمامًا بعد أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة، وحرق قسم كرداسة، فتحولت إلى منزل مهجور يخشي الجيران الاقتراب منه. عند دخولك منطقة كرداسة، وبالتحديد بجوار لافتة «مركز كرداسة يرحب بكم»، لن تسقط عيناك إلا على أكوام القمامة، ولن تسمع أذنك إلا ضجيج «التوك توك» والسيارات الأجرة، أما منازلها فيبدو عليها العشوائية، وبالمرور أكثر ستجد مبني من طابقين متفحمًا تمامًا يلقي بداخله القمامة من قبل الأهالي، يبدو لك من الوهلة الأولى انه مكان مهجور منذ سنوات، ولكن عند التحديق به ستكتشف لافتة أكلتها الأتربة وعشش عليها العنكبوت، مكتوب عليها: «قسم شرطة كرداسة». بالمرور أكثر داخل المنطقة، ستجد شارعا يختلف عن غيره، أرضيته لن تكون مليئة بالحفر كمثل باقي الشوارع، بل مكون من «بلاط الأرصفة»، يبدأ بالقسم المحترق من قبل الجماعات الإرهابية، وينتهي عند الترعة الممتدة من منطقة المريوطية بشارع فيصل، ويتفرع منه حواري ضيقة، يعلو بها أصوات ماكينات الخياطة، وعلى جانبيه تتراكم أكوام من الملابس النسائية، مصاحبة قصاقيص القماش المتبعثرة من المصانع.. إنه شارع عبدالمجيد عيسى السياحي بكرداسة. «تعالي يا هانم.. عندنا أفضل الأشكال.. خدي فكرة».. هذه الجمل التى لم يتوقف مروجو البضائع على باب المتاجر عن ترديدها، يخطفون الزبائن من بعضهم البعض، بعد أن افتقر الشارع، وأصبح من النادر أن يمر عليهم زبون، وافترش البائعون أمام محالهم أملاً فى ان يأتيهم السياح مرة أخري. الحاج «جمال مكي» أحد أصحاب المتاجر، فى العقد الخامس من عمره.. جلس على كرسي قرب الطاولة، وهو لا يزال يتحسس يده بعد الانتهاء من تطريز عباءة خليجي صنعت فى مصر، كانت الموسيقى التى تنبعث من التلفاز قد توقفت، وحل محلها صوت جاف لأحد برامج «التوك شو»، فى حديثهم عن عودة السياحة إلى مصر، أغلق التلفاز وجلس على أعتاب محله.. ليبدأ شريط حديثه: «نسبة الإنتاجية انخفضت داخل جميع المصانع بنسبة تزيد علي 50%، وذلك بسبب توقف إقامة المعارض فى الدول العربية، أما الآن إحنا بنشتغل كلنا على إنتاج الملابس الشعبية الرخيصة فالسوق الآن لا تستوعب الجلابيب الغالية». وتابع مكي، حديثه قائلاً: «الإعلام هو من مصنع لكرداسة منطقة أشباح، ونشر الرعب فى نفوس المصريين، ومنعهم من الذهاب إلينا، إزاى هنقدر نطالب ان تعود السياحة كما كانت فى المنطقة؟!!». يرتدي جلبابا أبيض، وعلى كرسي خشبي يتمركز أمام «فاترينة» متجره، «إحنا ملناش ذنب فى اللى حصل فى كرداسة».. هكذا بدأ عم مبروك الصعيدي حديثه، قائلاً: «احنا اتخرب بيتنا بسبب الإرهاب.. أنا بعت كل ذهب زوجتى علشان أقدر أصرف على البيت، ومعرفتش أجيب مستلزمات جديدة لبنتى فى المدرسة، الواحد منا يبيع حتة واحدة كل أسبوعين.. أنا بدعي ربنا أني أموت علشان مش قادر ألبي طلبات بنتى وعائلتي.. ارحمونا يرحمكم الله». وأردف الصعيدي حديثه: «الزبون بيخاف ييجى كرداسة علشان مفيش فيها قسم شرطة، وبيسمع كل يوم فى الإعلام أننا إرهابيين، أنا وكل أصحاب المحلات مستعدين نرمم القسم مرة أخري على نفقتنا من أجل طمأنة السياح بأن المنطقة آمنة».