السيد رشاد كرداسة.. هذه القرية المصرية الفريدة التى انتصرت على إيران فى معركة الجوبلان وغزت تركيا فى عقر دارها، وانفردت بصدارة العالم فى مجال «النسيج المرسم»، وكانت عباءتها السياحية واحدة من مفاخر مصر وهدايا مؤسسة الرئاسة المصرية للضيوف الكبار من الوزراء والأمراء والملوك والرؤساء. هذه القرية التى تزين منسوجاتها قصور الخليج وأوروبا على السواء، وتوافد على أنوالها الساحرة، الوفود العربية من ليبيا وتونس والسودان والمغرب والكويت والسعودية والإمارات وسلطنة عمانوالبحرين وغيرها من دولنا العربية.. فقط ليشاهدوا التصميمات الجديدة من إبداعاتها، التى غزلتها أنامل حرفييها الذهبية التى تعزف على الأنوال تارة، وفوق الأقمشة الحريرية والقطنية أخرى غرزة غرزة، وخيطا خيطا، غازلة مكانتها الشهيرة عربيا وعالميا بخيوط من ذهب الإتقان والجودة والتميز. كرداسة التى أثارت عباءتها عاصفة من الإعجاب إلى حد الانبهار فى أسواق أوروبا، إلى حد أن وفود السائحين كانوا يقلبون مطار القاهرة رأسا على عقب بحثا عن من يدلهم على «القرية السياحية» التى لم تعرف طوال تاريخها معنى كلمة «بطالة»، وأسهمت مشغولاتها من الجوبلان والكليم فى ثلث فاتورة السلاح المصرى فى حقبتى الستينيات والسبعينيات والذى انتصر به جيشنا الباسل فى معركة السادس من أكتوبر 73، معركة الكرامة والانتصار، لكن كرداسة هزمتها فى السنوات الخمس الأخيرة تداعيات الركود السياحى والاقتصادى الذى ضرب مشغولاتها الفريدة فى مقتل، وأفقد مصر موردا هائلا من العملات الصعبة، وشرد آلاف الفنانين الحرفيين، وأغلق عشرات الورش، لتذوق كرداسة لأول مرة منذ تأسيسها قبل عدة قرون مرارة العوز، وتعانى محنة البطالة، وقد تفاقمت الأزمة مع تلك الصورة الذهنية الخاطئة التى رسمتها بعض أجهزة الإعلام لكرداسة بأنها «المدينة الإرهابية» بعد أن كانت «الجنة السياحية» التى يحلم السائحون بدخولها، واقتناء بعض مشغولاتها الساحرة، وهو الاتهام الذى يرفضه أهل كرداسة المبدعون جملة وتفصيلا، والذين يؤكدون أن الحرفى المبدع والتاجر لا يعرف الإرهاب، وأن على الدولة أن تطهر كرداسة من القلة الإرهابية، وتعيد إليها رونقها السياحى والتراثى لتعود من جديد مدينة الجمال والعزف على الأنوال، وتسهم فى ضخ الملايين من العملات الصعبة، التى من الممكن أن تنقل الاقتصاد المصرى نقلة نوعية فارقة، وتعيد صياغة سلامة الاجتماعى، وبهذا تتم مقاومة الإرهاب واجتثاثه من جذوره، هنا محاولة لنقترب من كرداسة التى لا يعرفها الكثيرون، فى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولنبدأ بحقائق التاريخ التى تقول إن كرداسة هى الاسم الأشهر فى قرى الجيزة، والأقدم والأعرق فى قرى مصر كلها، حققت شهرتها الواسعة عربيا ودوليا من تخصصها فى صناعة الجلباب والعباءة الحريمى المطرزة يدويا، حيث حفرت مع الخيوط الذهبية والفضية والحريرية اسمها فى الأسواق العربية والأوروبية، فأصبحت مقصدا لأصحاب الذوق الرفيع فى عالم الأزياء، فضلا عن شهرتها المدوية فى السجاد اليدوى والنسيج المرسم، وفن الجوبلان «السجاد الحائطى»، وغيرها من المشغولات النسيجية حتى أطلق عليها «قرية العزف على الأنوال»، تلك الأنوال التى بدأت بعشرة أفراد فقط كانوا يمثلون وقتها نصف سكان القرية الأصليين، وأصبحوا الآن رءوس عائلات شهيرة، وتطلب منتجاتها بالاسم محليا وعربيا وعالميا، منهم بيت: عيسى ومكاوى وحجازى، وياه والشيخ والسيد ومحمود والطيار والدوح وغيرهم. على أيدى هؤلاء بدأت فنون صناعة الجلباب والمشغولات النسيجية والسجاد والجوبلان منذ عهود قديمة، لكن تم تنظيفها وتطويرها على يد النائب البرلمانى محمود باشا المكاوى ابن القرية الذى قام بتأسيس الجمعية التعاونية لصناعة النسيج عام 1943، بهدف تطوير تصميمات المنسوجات وتوفير الخامات وتسويق المنتج، والأهم وضع منظومة للتوسع الأفقى لهذه الصناعة الفنية فى أرجاء القرية. وعقب ثورة يوليو 1952 أقام أبناء القرية بجهودهم الخاصة خمسة مصانع كبرى كان أحدها مخصصا لصناعة الشاش الطبى، والآخر للقطن الطبى، أما الثالث وهو أكبرها فخصص لمستلزمات الفنادق السياحية من المفروشات القطنية، واستوعبت المصانع الثلاثة ثلثى العمالة فى هذا القطاع، بينما توزع الثلث الباقى على مصنعين صغيرين للنسيج والجوبلان «النسيج الحائطى المرسم»، وكذلك على مجموعة من الورش والمشاغل اليدوية لصناعة الجلباب الكرداسى الشهير، ترافق هذا مع إنشاء مصنع للمشغولات الجلدية، وآخر لإنتاج الثلج، مما جعل قرية كرداسة تتميز عن القرى التى حولها بأنها القاطرة الحضارية والإنتاجية لهذه القرى، وعملت المصانع والمشاغل بكامل طاقتها على مدار عشر سنوات كاملة، أحدثت انتعاشة اقتصادية هائلة فى القرية والقرى التى حولها، خصوصا بعدما غزت منتجاتها اليدوية أسواق أوروبا. فى السياق ذاته أنشأ المهندس المعمارى الشهير رمسيس ويصا واصف مجموعة ورش للسجاد اليدوى الذى حقق بدوره شهرة عالمية مع الجوبلان والجلباب والمشغولات اليدوية، وقد بلغت شهرة كرداسة حد أنها أصبحت مزارا مهما لزوجات الرؤساء والوزراء الذين يزورون مصر، خصوصا فى حقبة السبعينيات، حيث كانت السيدة جيهان السادات قرينة الرئيس وقتها، تصطحب قرينات الرؤساء والوزراء للتجوال فى القرية وشراء العباءات والجلباب ومشغولات الجوبلان فائقة الجمال، شديدة الدقة والمهارة. وفى أواخر السبعينيات شهدت الصناعات اليدوية فى كرداسة نقلة نوعية بإنشاء الشارع السياحى فى مدخل القرية ليستوعب الأعداد الهائلة من السائحين، مع إنشاء الشارع السياحى ظهرت أيضا مجموعة من المولات الفخمة المخصصة بالكامل للمنتجات اليدوية. أوائل العالم فى البداية يروى لنا الفنان طلبة عبدالغنى، مؤسس مدرسة كرداسة الحديثة لفن النسيج الحائطى المرسم، الجوبلان، وصاحب إحدى الورش العريقة فى هذا الفن: كيف حققت مشغولات كرداسة شهرة عالمية، أدت إلى توافد مئات السائحين خصيصا إلى مصر لزيارتها ومشاهدة مشغولاتها، إلى حد أن فوجا سياحيا ضخما نحو مائتى سائح أثاروا أزمة فى مطار القاهرة، لأنهم حينما سألوا عن كيفية الوصول إلى كدراسة فى السبعينيات لم يجدوا من يرشدهم، واستدعى الأمر تحركا عاجلا من وزارة السياحة وقتها لحل الأزمة، وتم توفير سيارات وحراسة أمنية لنقل السائحين إلى القرية التى يعرفها العالم كله، ويتجاهلها وطنها، قرية كرداسة التى أصبحت مدينة الآن، لكنها لا تزال بسمات وقيم القرية. ويذكر الفنان طلبة عبدالغنى بأن كليم وجوبلان كرداسة أسهما فى تسديد ثلث فاتورة السلاح المصرى لروسيا ودول المعسكر الشرقى، وهو السلاح الذى حارب به جيشنا العظيم معركة النصر فى أكتوبر 1973، لأن الروس كانوا يقومون بفرش الأرضيات بكليم كرداسة المسمى بالكليم الدبل الذى كان يعزل الصقيع عن المنزل ويحافظ على دفء غرفه، كما كانوا يقومون بتبطين الحوائط والأرضيات بالجوبلان للغرض نفسه، وبهدف الاستمتاع بزخارفه وجمال تصميماته. ويوضح الفنان طلبة عبدالغنى أن كرداسة تتميز بنوعية عالمية من النسيج هو النسيج «القمشة» و«القمشة» نوع من القماش ينفذ يدويا بأيدى الحرفيين فى كرداسة أنفسهم، ويتم تصنيع نوعية القماش على حسب الزى المطلوب تصنيعه، وأيضا طبقا للأقلام والأنماط الزخرفية المنفذة بها، أو العريجات الزجزاجية التى تتميز بها نوعة الزى، فجلباب كرداسة صاحب الشهرة العالمية، يحتاج إلى نوعية معينة من الأقطان المصرية الخالصة التى تتميز بنعومتها الشديدة، ومتانتها، ويتم تقطيع هذه المنسوجات بعد نزولها من على النول حسب المقاسات المطلوب تفصيلها وحياكتها وتطريزها يدويا حسب النمط الكرداسى المتميز، والذى لم يتغير منذ العهد الفاطمى من حيث الأسلوب، وإن تطورت تصميماته. وعن أشهر أنماط عباءات كرداسة يضيف الفنان طلبة عبدالغنى: تعتبر عباءة العروس هى الأشهر والأغلى، حيث تحتاج إلى زخرفة خاصة، حيث تتعدد استخدامات جلباب العروس سواء الذى سترتديه فى احتفالية «الحناء» أو «ليلة الزفاف» أو «الصباحية»، حيث لكل مناسبة زيها الخاص، وله ألوان مختلفة منها الأبيض والتركواز والموف. ويضيف: حظيت كرداسة الشهرة واسعة بعدما تفننت فى تصنيع الزى الوطنى الخاص ببعض الدول العربية مثل ليبيا وتونس والكويت والسعودية والمغرب والسودان، حيث أقبل الأشقاء فى هذه البلدان وغيرها على زيارة كرداسة سنويا، لتفقد الجديد فى هذا الشأن، والاتفاق على تصنيع الكميات المطلوبة لكل دولة. العباءة ليست المنتج الوحيد الذى تشتهر به كرداسة، فهناك «الفركة» و«الشال» الكرداسى الشهير اللذين يقول عنهما طلبة عبدالغنى: «الفركة» هى زى يشبه العباءة، لكن دون حياكة ، وتتكون من جزءين يتم لفهما بطريقة معينة على الجسد، أما الشال فهو زى من جزء واحد تتم حياكته من جميع الأطراف، ويلقى على الرأس والكتفين، ويصنع كل منهما من الأقطان المصرية والحريري. وعن تأسيس لمدرسة كرداسة فى النسيج المرسم الجويلان، يقول الفنان طلبة عبدالغنى: اشتهرت كرداسة فى مرحلة لاحقة بتصنيع الكليم والنسيج المرسم، مما جعلها تجذب الحرفيين المهرة فى هذا المجال من كل أنحاء الجمهورية، نتيجة لحالة الرواج الكبيرة التى كانت تعيشها هذه الحرف، واستوطنوا كرداسة، وأصبحوا جزءا من منظومة كرداسة الحرفية، وفى هذا السياق شرفت بتأسيس مدرسة كرداسة الحديثة فى فن النسيج، التى حظيت بشهرة عالمية، وفزت من خلالها بجوائز عديدة منها جائزة المركز الأول عالميا عدة مرات، بدأت بالحصول على أول العالم فى فن النسيج المرسم فى مهرجان باكستان الدولى للحرف التقليدية عام 1997، متفوقا على 42 دولة فى مقدمتها إيران معقل هذا الفن، وكذلك فزنا بالمركز الأول عالميا على تركيا فى عقر دارها فى المهرجان ذاته الذى أقيم فى تركيا عام 1999، كذلك حصدنا المركز الأول فى العالم فى لشبونة 2001، كذلك حصلنا على المركز الثانى عالميا فى مهرجان مسقط الدولى بسلطنة عمان عام 2012، وقد ظللنا نحتكر المركز الأول عالميا. وفى هذه المدرسة ابتكرت أسلوبا جديدا فى النسيج الحائطى، حيث أضفنا لوحات وأعمال الفنانين التشكيليين المصريين من العرب والعاملين فى هذا الفن، وتمت ترجمة هذه الأعمال التشكيلية على قطع من الجوبلان، مما جعل مشغولات مدرسة كرداسة طبيعة، خصوصا أنها جمعت ما بين الفن التشكيلى والتراث الحرفى، ومن أبرز أعمالى الشخصية فى هذا المجال رباعية جاذبية سرى التى تزين مدخل المسرح الكبير بدار الأوبرا، إضافة إلى لوحات مجسدة بالنسيج المرسم ثم اقتناؤها لتزيين جدران القصر الجمهورى بتونس، وكذلك فى وزارات وسفارات دول عديدة مثل البحرين وسلطنة عمان والإمارات، إضافة إلى وجود لوحات من مشغولات جوبلان كرداسة فى السفارات المصرية بالخارج. ويواصل الفنان طلبة عبدالغنى بأسى، برغم كل هذه الشهرة، فإن فنون وحرف نسيج كرداسة تتدهور بصورة مفزعة، حيث تقلص عدد الأنوال اليدوية من نحو عشرين ألف نول إلى أقل من مائة نول فقط فى السنوات الخمس الأخيرة، إضافة إلى كارثة تسرب الحرفيين الذين فضل معظمهم العمل فى مجال الأمن والحراسة أو شراء «توك توك» والعمل عليه، ليستطيع إطعام أسرته، بعد أن ساد الكساد مجال الحرف، وتفاقمت المشكلة مع إهمال الدولة لرعاية الحرفيين صحيا واجتماعيا وماليا، واحتكار الخامات، وإغراق المنتج الصينى الرخيص للأسواق المصرية بلا ضابط وبكميات ضخمة وخامات رديئة، مما أصاب مشغولات كرداسة بالكساد فى الأسواق المحلية، إضافة إلى تراجع السياحة العربية والأوروبية، وحتى ورش وزارة الثقافة لحماية هذه الحرف التراثية هى مجرد ورش وهمية تستوفى الشكل دون المضمون، ولا يستفيد منها أحد سوى القائمين عليها. ويشدد طلبة عبدالغنى على سرعة فتح ملف حرف كرداسة، التى من الممكن أن تحدث نقلة نوعية فى الاقتصاد المصرى، وتضخ فيه كميات هائلة من العملات الصعبة، تسهم فى حل أزمة الدولار، وتقدم للعالم الهوية الثقافية المصرية، وتوفر آلافا من فرص العمل الحقيقية، ويكفى أن مولات كاملة فى دبى وغيرها من العواصم الخليجية كانت تخصص أدوارا كاملة لعباءة وجوبلان كرداسة، ذلك الكنز التراثى التى لو فرطنا فيها، وتركناها نهبا للضياع فلن تسامحنا الأجيال المقبلة. تصميمات نادرة ويوضح الأسطى حجازى محمد، أحد صناع النسيج اليدوى فى كرداسة: إن كرداسة هى معقل السجاد الحائطى والعالم العربى كله يستمد تصميماته المميزة من تصميات فنانى كرداسة، لهذا يتهافت على منتجاتنا مئات السائحين العرب والأجانب، و يأتون لاقتنائها خصيصا. ويضيف حجازى: حتى السجاد الصينى الرخيص لم يستطع هزيمتنا، لأن العميل يأتى إلينا بحثا عن المنتج المتميز، خصوصا أن السجاد اليدوى الحائطى (الجوبلان) يتميز على الصينى المصنوع على المكن، بأنه متنوع التصميمات، بمصانع السجاد تستطيع تنفيذ أى تصميم يطلبه العميل بدقة فائقة، ولو كان صورة شخصية أو أسرية، أو مشهد طبيعى وغيره، وهو ما تعجز عن تنفيذه الآلة التى لا تستطيع تنفيذ التصميمات المعقدة، مشيرا إلى أن معظم تصميمات سجاد كرداسة من وحى التراث المصرى سواء الفرعونى أم الإسلامى أم القبطى، إضافة إلى المشاهد الطبيعية والريفية، والأهرامات وغيرها. وعن أشهر تصميم لسجادة أضاف حجازى، أشهر سجادة تم تصميمها فى كرداسة فى الآونة الأخيرة سجادة حجمها ستون مترا، تم تصنيعها خصيصا لقصر أمير فى إحدى دول الخليج، وصنعت فى ورش بيت عيسى واستغرق العمل بها 7 سنوات كاملة، وتم تسجيلها فى موسوعة جينيس كأكبر سجادة يدوية فى العالم. أما محمد صلاح، أحد فنانى فن الجوبلان بكرداسة، فيوضح لنا أن مراحل تصنيع السجادة تبدأ تجهيز النول نفسه ليستوعب حجم وثقل السجادة، ثم تجهيز الخامات من القطن وغزلها يدويا، ثم تعقيمها حتى لا تتآكل أو تفسدها الآفات، ثم يتم صبغها بالألوان المطلوبة، موضحا أن كرداسة تشتهر باستخدام ألوان طبيعية من النباتات وأوراق الشجر وأجنحة الفراشات وكلها صديقة للبييئة، وآمنة صحيا، بعكس القماش والسجاد المصبوغين كيميائيا، ولهما مخاطر صحية عديدة، مما يجعل السجادة اليدوية استثمارا مضمونا، حيث تزداد قيمتها مع الزمن مثل أية قطعة تراثية، بعكس السجاد الصناعى، وعلى الرغم من كل هذه المزايا، فإن سجاد كرداسة يتعرض لركود اقتصادى شديد سواء فى الأسواق المحلية أم العالمية. ويلفت الفنان سمير عويس، صاحب محل النظر، أن سوء الطرق والمرافق والتشويه الإعلامى لقرية كرداسة ووصمها بأنها معقل الإرهاب، إضافة إلى التراجع السياحى، مع ارتفاع أسعار الخامات واحتكار استيراد الكثير منها خصوصا الحرير، كلها عوامل أدت إلى تعرض كرداسة إلى خسائر فادحة تهدد بتشريد أكثر من ثمانين ألف حرفى وفنان وأسطى يعملون فى مصانع وورش الجوبلات والعباءات. ويضيف: أنا شخصيا لى محل فى السوق السياحى بالمشاركة مع أشقائى لعرض السجاد الذى نصنعه نضعه فى ورشنا، لكننا منذ أكثر من خمس سنوات لا نجد ما نسدد به إيجار المحل، فضلا عن اضطرارنا إلى تسريح أعداد كبيرة من العمال سواء فى الورش أم المعرض، لأننا لا نستطيع توفير يومياتهم. ويتساءل سمير: لماذا لم تبادر الدولة بوضع كرداسة على الخريطة السياحية حتى الآن، بينما العالم كله يعرف منتجاتهما، بل إن القصور الملكية والأميرية فى الخليج وأوروبا مثل مونت كارلو وبولندا وليخشنتاين وغيرها يطلبون منتجاتها بالاسم، ولمصلحة من انضمام هذه الآلاف إلى طوابير البطالة الطويلة التى لم تعرفها كرداسة طوال تاريخها، فحتى شباب كرداسة الجامعى كان يعمل فى ورش الجوبلات والعباءات، وأسهم فى تطوير تصميماتها، بل كنا نستقبل شباب المحافظات الأخرى ونوفر لهم فرص العمل، ونحن ما زلنا نقاوم هذا الركود. وينبه سمير إلى أن الخطورة ليست فقط فى الركود بل فى عزوف الأجيال الجديدة عن تعلم المهنة، بعد أن أصبحت غير مجدية ماديا، بعد أن كان الأطفال من سن أربع سنوات يبدأون فى دخول مجال التدريب على الأنوال، حيث يبدأ الطفل فى هذه السن تعلم «لضم الإبرة» أسفل وأعلى الخيوط، وفى أقل من عام يكون الطفل قد أتقن مهارة شد الرسومات على النول، وكان الإقبال على التدريب شديدا فالطفل يمكنه تحصيل مائة جنيه يوميا من العمل فى الورش، لكن الوضع الآن ينذر بكارثة اقتصادية واجتماعية. ويطالب سمير بسرعة إنشاء مدرسة مهنية لتدريب الصغار، وحماية هذه الحرفة العالمية من الاندثار. مهارات وعن التصميمات الفنية للسجاد المرسم يقول د. سامر سعيد، الأستاذ بقسم النسيج بكلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان، يتم تصميم قطعة «الجوبلان» أولا على الورق، على أن يشمل التصميم كل العناصر والتفاصيل الرئيسية والدقيقة للسجادة الحائطية التى تشتهر بها كرداسة، وعقب انتهاء التصميم يبدأ العمل من خلال صنارة معقوفة الرأس، وشفرة عريضة لتقطيع الخيوط، ويستخدم الخيط الحريرى الأبيض فى إنشاء الخيوط الرئيسية أو ما يعرف بأساس السجادة ويتجاوز معه خيط من الصوف لبناء الأساس، وعادة ما يستغرق مد الخيوط الأساسية من ثلاثة أيام إلى سبعة حسب حجم السجادة، وعقب الانتهاء من مد الخيطان يتم إدخال خيط من الصوف لمنح الخيط الحريرى المتانة المطلوبة وذلك بحسب الألوان المطلوبة طبقا للتصميم. ويضيف د. سامر سعيد: وأشهر أنواع الصوف المستخدم فى كرداسة هو الصوف المسمى بالكورك، والذى يصنع من خيوط الأغنام الصغيرة، وهو أجود أنواع الصوف على الإطلاق، ويعد إلى جانب دقة الصنعة ومهارة الغرزة من أكثر أسباب شهرة سجاد كرداسة الحائطى «الجوبلان» عربيا ودوليا. ويشير أن السجادة الصغيرة يتطلب تصنيعها ما بين 4و5 أشهر، وتستهلك ما بين 30 إلى 50 كجم من الحرير الأكثر نعومة، استغرقت وقتا أطول فى عملية التصنيع، ويطالب د. سامر سعيد الدولة ممثلة فى وزارة الصناعة والتجارة بالاهتمام بهذه الصناعة التراثية ذات الشهرة العالمية. الإعلام والعباءة الوضع فى ورش العباءات والجلباب لم يكن أحسن حالا، فالركود أدى إلى إغلاق العديد من الورش، والاستغناء عن عمالها، بل إن مصانع كبرى لا تنتج أكثر من 10 عباءات يوميا، هذا ما يؤكده محمد عبد الحميد عيسى، صاحب مصنع عباءات وأحد أفراد عائلة «عيش» العريقة فى هذا الفن: إذا استمر الوضع الحالى، فإن هذه المهنة التراثية ستصبح أثرا بعد عين، خصوصا بعد رحيل شيوخ المهنة الكبار، وعزوف الشباب عن تعلمها بعد حالة الركود التى ضربتها فى مقتل. ويكشف لنا محمد عيسى عن أنه قرر منح الحرفيين مصنعه نصف الأجر الذين كانوا يتقاضونه فى الأيام العادية، برغم توقفهم عن العمل لعدم وجود تصدير أو رواج محلى نتيجة للركود السياحى المستمر منذ خمس سنوات، موضحا أنه يفعل ذلك على أمل أن يتم حل الأزمة، ولكى يحتفظ بالفنانين المهرة فى ورشته الذين لا يمكن تعويضهم. ويحمل محمد عبد الحميد عيسى أجهزة الإعلام جانبا من مسئولية ركود كرداسة، حيث رسم صورة ذهنية سيئة عن كرداسة باعتبارها «قرية إرهابية» بينما هى فى حقيقتها «قرية سياحية» تعانى الإرهاب والإهمال والركود، ويجب انتشالها من أزمتها لتصبح قيمة مضافة للاقتصاد المصرى ومصدرا مهما للعملة الصعبة. العباءة الإبرة وتروى لنا د. مريم زكريا، بقسم التصميمات بكلية الفنون التطبيقية ومن عشاق عباءة كرداسة، أن خامات وتصميمات جلباب وعباءة كرداسة لا نظير لها فى العالم، وأنها سفير فوق العادة للأزياء المصرية التراثية إلى حد أن مصر كانت إحدى هداياها الرسمية لضيوفها الكبار هى عباءة كرداسة اليدوية. وتوضح د. مريم أن صانعى كرداسة يعرفون أذواق ومتطلبات كل قطر عربى، ويقسمون أنفسهم طبقا لهذه التخصصات، فمنهم من يتخصص فى العباءة الليبية أو التونسية أو الخليجية، خصوصا السعودية والكويتية، وفى كل الحالات يختلف سعر العباءة من جنيهات قليلة التى لا تزيد على عشرين جنيها لعباءة الاستخدام المنزلى البسيطة، إلى العباءات الفخمة التى قد يصل سعرها إلى ستين ألف جنيه، ولا يطلبها سوى الملوك والأمراء، ويتحدد هذا السعر وفقا لعدة معايير هى طريقة الصنع سواء يدوية أم آلية وأسلوب الزخرفة والتطريز وكذلك الخامة المصنوعة منها العباءة، وفيما يخص الخامة فأكثر الخامات شيوعا هى قماش «الداكرون» الذى يستخدم فى صنع الخامات الرخيصة ومتوسطة القيمة، أما أكثرها فخامة فهى خامات الحرير الطبيعى «الساتانية» التى تستخدم فى صناعة العباءات الراقية التى تتميز بها كرداسة وفيما يتعلق بطريقة الصنع فالعباءة المصنوعة يدويا هى الأغلى ثمنا، ويطلق عليها «العباءة الإبرة»، حيث يعكف الصانع على تنفيذها خيطا خيطا، وغرزة غرزة، مما يجعلها تستغرق وقتا طويلا، وتتطلب دقة ومهارة فائقتين للغاية، تليها فى دقة الصنعة «العباءة الخيامية» وهى عباءة يتم تنفيذ جزء كبير منها بالطريقة اليدوية، وتأتى فى المرتبة الثانية من حيث الجودة، العباءة نصف الآلية التى تصنع يدويا، لكن يتم الانتهاء منها بشكل آلى، وفى المرتبة الأخيرة العباءة الآلية التى تتميز برخص أسعارها وغزارة إنتاجها اليومى، حيث تنتح الورشة الصغيرة نحو مائة عباءة يوميا. وترى د. مريم أن إنقاذ عباءة كرداسة يجب أن يكون مهمة وطنية. ويبقى التأكيد على أن اندثار فنون كرداسة التراثية من الجوبلان والعباءة، ليس فقط خسارة مصرية أو عربية، لكنها خسارة للتراث الإنسانى كله، وأن الاقتصاد المصرى فى أشد الحاجة لإعادة فتح ورش كرداسة المغلقة، وإعادة العمالة الفنية الماهرة التى لا يمكن تعويضها على مدار عقود مقبلة، وإعادة هذه «القرية العالمية» إلى شهرتها باعتبارها قبلة للسائحين العرب والأجانب، وذلك بسرعة وضع القرية على الخريطة السياحية المحلية والدولية، وتوفير مظلة للتأمين الصحى والاجتماعى للحرفيين، ومنظومة محترفة للتسويق الداخلى والخارجى، وإعادة تأهيل البنية الأساسية، خصوصا الطرق والمرافق لاستقبال الوفود السياحية الزائرة، وإعادة مقومات الحياة لهذه السفير المصرى فوق العادة لفن النسيج المصرى فى العالم كله.