قليلون هم من لا يزالون يذكرونها ويقصدونها طلبا لمنتجاتها المميزة من المنسوجات خاصة العباءات والجلاليب النسائية، ولكن هذه المنتجات تسافر لتلقى رواجا كبيرا فى الدول العربية والعالم. قبل أيام من بداية رمضان، كانت ريهام بصحبة عدد من أقاربها يتجولون بين هذا المحل وذاك فى قرية كرداسة، تجد دائما بغيتها ويزعجها أحيانا المبالغة الأسعار، لكنها تشترى دائما، فقد جاءت خصيصا لذلك من مدينة جدة: «أصدقائى فى السعودية أخبرونى بهذه القرية، وشهرتها بالعبايات والجلاليب، ولم يكن الطريق صعبا إلى هنا». قطعت ريهام الطريق العكسى، فقليلون هم من يتجهون إلى كرداسة طلبا لمنتجاتها المختلفة، لكن إذا زرت بلدا عربيا أو أجنبيا، وصادفت معرضا للمنتجات الوطنية، فستجد بالتأكيد عددا من المصريين يبعون «عبايات كرداسة» التى باتت «موديل» مستقلا من الأزياء، يقبل عليه العرب المهتمون بالخامة الجيدة والمظهر المبدع. والغرب مفتون بالتراث الشرقى لهذه العباءات، والتطريزات اليدوية عليها. كل ذلك يخرج من قرية فى محافظة 6 أكتوبر، قد لا يعرفها البعض، ولكنها كانت يوما مزارا سياحيا تصطحب إليه السيدة جيهان السادات زوجات الرؤساء، وتهديهم بعض مصنوعاتها. بدأت كرداسة طريقها للتميز بصناعة المنسوجات منذ الخمسينيات، عندما أنشأ نظام الرئيس جمال عبدالناصر ثلاثة من مصانع النسيج بالمنطقة، وعمل بها أهل القرية، لتخرج منها ملابس الأطباء والممرضات لكن تدريجيا وبسبب تغير سياسات الدولة فى السبعينيات، أغلقت هذه المصانع بعد تراكم الديون عليها. ورب ضارة نافعة! فقد توجه العمّال السابقون للتصميم اليدوى فى ورش صغيرة، وحتى السيدات العاملات اتجهن إلى العمل اليدوى فى المنازل، لتبدأ شهرة كرداسة بالعباءات المطرزة يدويا. كانت عائلة عيسى صاحبة الفضل الأكبر فى تعليم النسيج اليدوى لأهل كرداسة، وأسس عبدالحميد عيسى مصنعا صغيرا أقرب إلى كونه مدرسة، يتعلم فيها الناس المهنة وينتجون مشغولات تبهر السائحين. الذين كان لهم وجود كبير فى السابق وبعد وفاته تولى ابن عمه أحمد سعيد عيسى متابعة ذلك وحتى الآن لا يزال هذا المصنع الصغير قائما، ويعتمد على التصدير للخارج. فعلى أحد الأنوال اليدوية تجد عم على يصنع شالا حريريا لأهل ليبيا وعلى النول الآخر تجد شالا جديدا سيتم بيعه فى الجزائر. وكثيرا من الأحزمة والشيلان والمنسوجات لدول عربية، الغريب أن ملابس العروس فى سيوة، يتم تصنيعها فى هذه المدرسة! ويذكر العاملون فيها أن كثيرا ما يعرض عليهم السائحون العرب أو الأجانب اصطحابهم لبلاد أخرى لتعليم الناس النسيج اليدوى. منذ التسعينيات صارت كرداسة مقصدا للعاملين بالسياحة، خاصة من أهل خان الخليلى، سواء من العاملين فى المنسوجات أو حتى النحاس والفضة والأرابيسك ومن بينهم عماد حمدى، الذى نقل ورشة أرابيسك ومعرضين إلى كرداسة، بعد ركود شهده الخان لكنه يرى أن الركود بدأ يتسرب أيضا إلى هذه القرية، فيقول «لم يعد عدد السائحين كما كان. عاما وراء الآخر يقل الأجانب، حتى اختفوا تماما، فلا يأتى أجنبى إلا المقيم فى مصر» ويعتمد حمدى على السائحين العرب فى تسويق منتجات الأرابيسك فى معرضه الواسع، وحتى المصريين لأن «بعض المصريين بدأ ينتبه إلى قيمة هذه المشغولات الفنية ويشترى منها»، مع ذلك يظل تقييمه العام للسوق أنه «لم يعد كما كان». لم يعد شيئا كما كان، بمرورك فى الشارع السياحى، ترى «كرداسة مول» بواجهة فخمة وسلالم كهربائية وتكييف، تنسى معهم أنك فى قرية، لكن فور دخولك المول تذكر أنك فى كرداسة، فكل المحال تقريبا تبيع العبايات والجلابيب وبدل الرقص، فيما عدا بازار واحد فى المول، أما المحال الأخرى فأغلبها يحمل أسماء عرببة ذات طابع خليجى. مثل: «مليحة» و«اليشمك» وهو بالمناسبة اسم لسلسلة محلات تجارية شهيرة بالسعودية و«واحة الجلابية»، و«زهرة الخليج» وعدد من هذه المحال يمتلك بالفعل فروعا فى دول عربية، فضلا عن بازارات فى شرم الشيخ والغردقة وعدد من المدن السياحية. وينافس عبايات كرداسة العبايات الهندى والسورى. لرخص أسعارها وجودة خاماتها، مع ذلك لا تزال العباية الكرداسية صاحبة الأجنحة الكبرى فى معارض العالم فيقول سامح أحد العاملين فى تصنيع وبيع العبايات إن إنتاجه سافر إلى معارض فى جميع أنحاء السعودية وإلى الكويت وكل دول الخليج وحتى فى السودان وإريتريا والسويد والدانمارك وجنوب أفريقيا». وأغلب السيدات اللائى تجدهن فى محال وبازارات كرداسة لسن من أهلها، إنما من قرى مجاورة جئن للعمل بالسياحة، أما المرأة الكرداسية، فتعمل من المنزل، من جهة لطبيعة كرداسة المحافظة ومن أخرى لأن التطريز والنسيج هما مجالها، ويمكن القيام بهما من المنزل. ولا تكاد توجد فتاة فى كرداسة لا تتقن التطريز وتصنيع العبايات، حتى لو لم تعمل بهذا المجال. فى فترة التسعينيات، كان الرواج يسمح لسيدات القرى المجاورة العمل فى المجال نفسه، فتأتى السيدة كل أسبوع تستلم عددا من العبايات مرسوما عليها، وتعود لمنزلها تطرز الرسمة، وفى آخر الأسبوع تسلم العبايات ويحاسبها صاحب العمل عن كل عباءة، وكان الأجر يتراوح بين 3 و5 جنيهات أما الآن فالماكينات الصينى هى سيدة الموقف، لكونها الأسرع والأقل تكلفة. ويخشى النساجون على مهنتهم من الاختفاء، يقول عم على «من يموت فى هذه المهنة لا يظهر غيره»، ويتمنى الجميع أن تلتفت إليهم الدولة، ففى حين ينبهر بهم السائحون، لا يجدون جهة تتبنى تعليم النسيج، ولو على سبيل الهواية، حتى لا ينقرض هذا الفن. ولعل التسعينيات هى الفترة التى كانت فيها كرداسة أكثر اجتذابا للعاملين بقطاع السياحة، ووصل سعر المحل فيها إلى مليون جنيه لكن بعض القادمين إلى كرداسة، للعمل أو الإقامة، يشعرون أن أهلها غير مرحبين بهم تماما، إما لكونهم «يزاحمونهم فى الرزق» أو لأنهم أكثر انفتاحا منهم ويذكر أحد أصحاب محال العبايات أن صناعة «بدل الرقص» هى واحدة مما أدخله هؤلاء الغرباء على كرداسة، ويرفض الرجل عرض مثل هذه البضائع فى محله. ويتحدى أن يكون هناك كرداسى أصلى يعمل فى تصنيع بدل الرقص لكن عماد صاحب أحد البارزات ومن القادمين من خان الخليلى يؤكد عكس ذلك، قائلا «الكل يعمل فى بدل الرقص وغيرها، أى شخص يعمل فيما يعود إليه بالمال» وينعكس هذا التعارض فى أحاديث الفريقين على واجهات المحال التى ترى فى إحداها «مانيكان» ترتدى العباية الكرداسية وفى المحل المقابل بدلة رقص لامعة. هناك محال السجاد لكن بضاعتها أقل حظا من العبايات رغم تميز خامتها التى تأتى من سيناء (وبر الجمل) أو تكون من الصوف الخالص. وأرباب هذه الصناعة هم أيضا من المهاجرين إلى كرداسة. يقول مجدى الملاح، صاحب خان سجاد يدوى» والدى أصلا من فوّه فى كفر الشيخ، صنايعى سجاد، جاء هنا من 30 سنة مع عدد من أصدقائه من العاملين فى السجاد أيضا. وفتحوا دكاكين صغيرة» ويشكو الملاح أيضا الركود الذى أصاب المهنة، التى يراها باتت على وشك الانقراض «من سنين كان فى الشارع السياحى حوالى 20 خان سجاد، اليوم هناك اثنان فقط»، ويرجع ذلك إلى قلة أعداد العمالة وعدم توريثهم المهنة لأبنائهم، فضلا عن ضعف تسويق المنتجات، فضلا عن دخول صنّاع الخيامية سوق المنافسة المعروف أن إنتاج السجادة الواحدة قد يستغرق 6 أو 9 أشهر أو سنة، وتباع بالسنتيمتر. تعتمد محال السجاد القليلة الموجودة فى كرداسة على زبائن السينما الذين يحتاجون منتجاتهم فى الديكور والاستديوهات، وأصحاب المقاهى السياحية، ممن يسعون لإضفاء لمسة شرقية يستمتع بها زبائنهم، كما أدخل صناع الكليم اليدوى مفروشات السيارات والكنب، لتباع بأسعار رخيصة تضمن زبونا محليا مستمرا. كرداسة المساحة: 10 آلاف كيلومتر. عدد السكان: 120 ألف نسمة. أهم شوارعها: السياحى، سعد زغلول، السوق، باتا، جمال عبدالناصر، المجارى. أصل التسمية: يقال إن كرداسة أخذت اسمها من المعسكر الذى نصبه عمرو بن العاص هناك، حيث «كردس» المكان، أى نصب فيه المعدات الحربية. وهى الرواية الأقوى ويتردد أيضا أن نابليون بونابرت عسكر هناك خلال حملته على مصر، ويقال إن اسم كرداسة جاء من دير «داسة» الذى كان هناك. ويقال أيضا إن بها مقابر لبعض الصحابة. أهم البضائع: العباءة الحريمى، الشال، الملابس الداخلية، بدل الرقص، الكبدة الجملى الطازجة. أهم الموالد: الجندى الهاشمى الحاكم أبوعميرة، لكن اختفت هذه الموالد بعد وفاة المتكفلين بتنظيمها.