أيتها الحقيرة.. سوف أقتلك. صرخت بها «هند» وهى تدفعها بكلتا يديها حتى سقطت منكفئة على وجهها بين المواشى التى أصدرت أصواتا خافتة وأعينها ترقب المشهد فى توجس. انتفضت «أمل» من سقطتها واقفة وسددت نظرة حادة نحو «هند» هاتفة: - - -ماذا تقولين.. اتقتليننى أنا؟! ازدادت ثورة «هند» واندفعت نحو فأس ترتكن إلى الحائط فى إهمال، ورفعتها إلى أعلى باتجاه «أمل» مرددة فى بطء وقد سكنت عينيها نظرة حقد دفين: قلت سأقتلك.. وسأفعل. اتسعت عينا «أمل» فى غير تصديق واقتربت منها فى بطء لا يحمل حذرا قدر ما يحمل تساؤلا حائرا وأشارت نحو صدرها قائلة: أنا... تقتلين أختك شقيقتك يا «هند»؟! -لا تقتربى نحوى وإلا هشمت رأسك بالفأس. قالتها وقد تصلبت يداها على ذراع الفأس فى إصرار مغيب.. بينما لم تلتفت أختها لتحذيرها واستمرت فى اقترابها منها وقد ترقرقت دمعات مهزومة فى مقلتيها.. و... - قلت سأقتل. ولم تكمل فقد سبقتها ذراعاها لتنزلا بالفأس بكل قوة على رأس أختها فينفلق نصفين وقد صدرت عنها صرخة ألم لم يلبث الموت أن قطعها وسؤال مصدوم قد تحجر فى عينيها. ارتفعت أصوات المواشى فى هياج وكأنها تعترض على الجريمة الشنعاء وقد صارت هى الشاهد الوحيد عليها. على صوت المواشى أفاقت «هند» من تحديقها فى المشهد وكأنها لا تصدق ما فعلت. افلتت يدها الفأس الملوثة بدماء شقيقتها وأجزاء من جمجمتها، ثم جثت على ركبتيها منهارة أمام الجسد الغارق فى الغدر، التقطت الرأس المفلوق بين يديها، نظرت إلى تلك العينين اللتين طالما بكتا شوقا وحناناً عليها، مازالت تلك النظرة المصدومة تسكنهما وكأن حياة لم تغادر مقلتيهما، مدت أصابع مرتجفة تمسح دموعا لم تجف عن عينىّ أختها، وانهارت فوق جسدها منتحبة: اختى... قطع نشيجها عودة المواشى حولها للهياج وقد أغرقت الدماء المنسالة من رأس أختها أرض الحظيرة. أزاحت الرأس بعيداً عن يديها فى حذر وكأنها تضع مولوداً نائماً فى فراشه، وانتفضت واقفة.. ماذا أفعل؟ كيف أخبر أمى وأبى وأخوتى بأننى قتلت أختى.. ولو فعلت فماذا هم فاعلون بى.. وأى عار سيلحق بى... بل أى مصير ؟ثم انطلقت تلطم وجهها فى ثورة عارمة وكأنها تلطم معه تلك اللحظة الشؤم التى تمر بها. وفجأة كفت عن اللطم.. نظرت إلى كفيها الملطخين بالدماء وهالها أنها دماء أختها. أسرعت نحو باب الحظيرة تغلقه بإحكام ثم جالت بنظرها فى المكان بجنون: ماذا افعل بتلك الجثة.. اين أخفيها؟ يزداد هياج المواشى من جديد.. تدور حول نفسها فى هياج أكثر منه.. تدق إحدى الأبقار الارض بقدميها بعنف حتى يتطاير التراب من حولها وينفرج ثقب أسفلها من عنف الدق.... وفجأة تتحجر عينا «هند» فوق ذلك الثقب.. تكف عن الدوران.. وتلمع عيناها على نحو مخيف وقد وجدت مخرجا لجريمتها. أسرعت تلتقط الفأس التى شربت من دماء أختها واتجهت نحو ركن بالحظيرة وبدأت تحفر الارض بالفأس. * * * انفرجت أساريرها على نحو ملحوظ وتراقصت فى عينيها فرحة ملهوفة وقد أبصرت «احمد» ابن عمها دالفا إلى بيتهم.. فاطلقت لقدميها الرياح وتقافزت كطفلة فى ليلة عيد حتى استقبلته بابتسامة عريضة مشرقة وهمست فى رقة: «أحمد» أنت هنا... أهلاً بك. قالتها ومدت إليه كفا متعطشاً للقاء، فابتسم فى هدوء واستقبل كفها فى سلام سريع لم يرو عطشها. -اين عمى؟وكأنها لم تسمعه فقد أمسكت بذراعه فى جرأة وهمست فى دلال: -«أحمد» لقد أوحشتنى. أزاح ذراعها فى بساطة وكأنه اعتاد ذلك منها وعاد ليسأل: أو ليس عمى بالبيت؟ نظرت إلى ذراعها وقد أغرقها الخجل واغتصبت ابتسامة متصنعة: عمك بالداخل. تجاوزها سائرا نحو الداخل، إلا أنها عادت لتمسك بذراعه فى اصرار هذه المرة: «احمد» لماذا لا تشعر بى؟ لم يجبها فاستطردت فى هيام: أنا أحبك... أمسك هو بذراعها ولكن بعنف حتى كادت أن تصرخ من الألم ونظر إليها فى حدة قائلا: "هند" سبق وقد ألمحت لك اننى اعتبرك اختى الصغرى ولا شىء اكثر من ذلك.. ولن تكونى يوما بالنسبة لى أكثر من أخت.. أفهمت؟ نظرة قاسية تطل من عينيه جعلتها تبتلع محاولة أخرى كانت تفكر بها لإقناعه.. أنقذت ذراعها من بين أصابعه واندفعت تركض فوق الدرج صاعدة الى غرفتها وقد انهار حلم كانت تحيا يوما من أجله. قابلتها"امل" لدى الباب وقد لاحظت انهيارها فأمسكت بها وهتفت فى قلق: أختى.. ماذا بك؟ أشاحت بوجهها بعيدا عنها وهزت رأسها قائلة: لا شىء. -كيف ؟ انك تبكين فماذا يبكيك؟أجابت:لا شىء. سألتها فى حيرة: سمعت الباب يفتح.. فهل جاء أحد لزيارتنا؟ أومأت برأسها واجابت بغصة: «أحمد» ابن عمك. هتفت «أمل» فى فرحة لم تخف عن عينى أختها: حقاً؟ ثم انطلقت تهبط وقد نسيت حال أختها مما دفع الأخيرة لأن تغير وجهتها وتعود نحو الدرج ثم تهبط عدة درجات وتقف فى مكان يخفيها عن الأعين ترقب أختها التى استقبلت ابن عمها فى ترحاب باسم وقد التقط كفها بين يديه فى سلام طويل ثم طبع فوقه قبلة سريعة اعتصر لها قلب «هند». * * * لقد جاء ليخطبنى. صاحت بها «امل» والفرحة تتراقص حولها بينما أمسكت «هند» قلبها بقبضتها وكأنها تمنعه من السقوط من بين ضلوعها من هول الصدمة. لماذا؟ صرخت بها وأردفت وسط ذهول اختها: لماذا اختارك انت ورفضنى انا؟اتسعت عينا"امل" حتى كادتا ان تخرجا من محجريهما وألجمت الصدمة لسانها فاستطردت اختها: ماذا بك اكثر منى ليفضلك على... انا اجمل واصغر منك فلماذا اختارك انت؟سألتها "أمل" فى صوت مبحوح: أتحبينه يا «هند» ؟أجابت في إصرار:نعم أحبه منذ كنا صغاراً وحاولت كثيراً أن الفت نظره لى لكنه كان دوما يتفلت منى بلباقة حتى صارحته اليوم فصدمنى بكل وقاحة.. دفنت «امل» رأسها بين كفيها غير مصدقة بينما اردفت «هند» صائحة: انت السبب.. انت من خطفته منى.. -أنا؟! قاطعتها فى ذهول فاستطردت فى صراخ: نعم أنت.. فلولا محاولاتك معه لما انشغل عنى ولأحبنى انا. -لكنه يحبنى مثلما أحبه يا «هند». نزلت عبارتها على رأس «هند» كزلزال مدمر ليزداد هياجها وقد تحولت نظرتها وكأنها حيوان مفترس يهجم على فريسته: لا... انت تكذبين...... أنا أكرهك أكرهك. * * * -كيف تؤكدين رؤيتك لثلاثة ملثمين يتسللون إلى الحظيرة ويختطفون أختك ورغم ذلك فلم تبلغى أحدا بالواقعة الا بعد مرور ثلاثة أيام؟ أصابتها نظرات الضابط النافذة بارتباك فاطرقت ارضا، وقالت: لأن أمى مريضة وخفت عليها إن عرفت باختطاف أختى أن تموت... وظننت أنها عصابة قد تطلب فدية فى القريب مثلما اسمع عن العصابات، لكن عندما مرت ثلاثة أيام ولم يتصل أحد فلم أجد مفراً من إخبار أبى الذى أبلغ الشرطة. عاد الضابط لينظر إليها تلك النظرات الثاقبة وقد ازدادت ريبته وقال: لكننى لا أصدق حرفا مما تقولين.. فلماذا لم تصرخى لحظة وقوع الحادث؟ ولا تخبرينى بانك قد وجدت الفرصة لتفكرى فى أمك المريضة بينما اختك امامك تختطف؟ثم أردف صارخا: اين اختك؟ انهارت وقد ارتعدت كل خلية بجسدها وهى تستعيد مشهد قتلها لأختها وصرخت: قتلتها... قتلتها.