انتفضت «إيمان» على وقع صرخات ابنتها فهرعت نحو غرفتها مسرعة، مدت يدها مفزوعة ملهوفة نحو مقبض الباب فانصاع لفزعها وانفتح أمامها، لكنها ما لبثت أن وقفت مشدوهة وتجمدت لهفتها. فقد رأت ابنتها تقف في منتصف الغرفة ومع كل صرخة تطلقها كانت يداها تمزقان ملابسها في عنف محموم حتى لم يعد يسترها شيء تقريباً.. وقد انهالت بأظافرها تغرسها في كل مكان من جسدها حتى غطته الدماء. دارت عينا «إيمان» في محجريهما وهى تحدق فيما تفعله ابنتها بنفسها ثم لم تلبث أن نفضت عنها ذهولها وأسرعت نحوها تحاول أن تهدئ من روعها وتنقذ جسدها من هجمات أظافرها، إلا أنها صرخت منادية الخادمة عندما لم تستطع السيطرة على هياج ابنتها بينما لم تكف الأخيرة عن الصراخ وقول عبارات غير مفهومة وكأنها تنطق لغة لا تنتمى لكوكب الأرض. * * * - ملبوسة..بالتأكيد هي كذلك. قالتها الخادمة في إصرار وكأنها تقرر حقيقة واقعة بينما نظرت إليها «إيمان» في حدة هاتفة: - ماذا تقولين أيتها الجاهلة ؟ إياك أن ترددى مثل هذه الخزعبلات مرة أخرى. وكأنها لم تنهها فقد استطردت الخادمة قائلة: - نعم.. إن الست «سارة» ملبوسة.. فإن كل ما تفعله يؤكد هذا الأمر.. فقد تبدلت تصرفاتها فجأة فلم تعد تذهب إلى كليتها وهجرت كل أصدقائها وظلت تمكث اليوم بأكمله في حجرتها وتزهد الطعام ليومين.. ثم.. ثم ما حدث اليوم وما فعلته بنفسها لهو أكبر دليل على كونها ملبوسة. صاحت «إيمان» مجدداً: - قلت لكِ اخرسي.. وهيا.. هيا اذهبي من هنا. تمتمت الخادمة متذمرة واختفت عن وجه «إيمان» بينما شردت الأخيرة قليلاً ثم لم تلبث أن عادت أدراجها صوب غرفة ابنتها وكأن شكاً بدأ يتراقص في صدرها خلفته عبارات الخادمة . مترددة دلفت إلى حيث ترقد ابنتها الوحيدة، انكفأت عليها تقبل وجنتها و... فجأة اتسعت عينا «سارة» عن آخرهما حتى كادتا تخرجان من محجريهما في نظرة مرعبة جعلت «إيمان» تطلق صرخة مكتومة وتنتفض مبتعدة عن ابنتها حتى التصقت بالحائط في فزع. لثوانٍ ظلت تلك النظرة تسكن عينيها، وقد تعلقتا بسقف الغرفة بينما اختنقت أنفاس «إيمان» رعباً وهى تكاد تقسم بينها وبين نفسها أن تلك العينين شديدتى الحمرة ليستا عينى ابنتها. زفرت في ارتياح عندما أغلقت «سارة» عينيها فأشاحت أمها بوجهها بعيداً وكأنها تحاول نسيان ما رأت منذ ثوان لكنٍ نظرة عابرة إلى ذراع ابنتها جعلتها تعيد النظر إليها ثانية.. اقتربت في حذر.. ما هذا الذى تراه على ذراعها.. بحرص أزاحت الغطاء عن باقى ذراعها فانكشف صدرها وعنقها.. قطبت حاجبيها في تساؤل مذهول.. ما تلك الرموز الغريبة التى تغطى جسد ابنتها. وكأنها لغة من عالم آخر لا يدركها بشرى. مادت الأرض أمام عينيها وهى تقترب في يقين من تصديق عبارة خادمتها. حدَّقت أكثر في تلك الرموز وهمست: - ملبوسة.. «سارة» ملبوسة. * * * دفنت وجهها بين كفيها وأجهشت في بكاء منتحب: - شهران كاملان لم أترك فيهما شيخاً ولا دجالاً إلا أتيته وما زالت «سارة» كما هى بل إن حالتها تزداد سوءاً.. ماذا أفعل يا ربي.. إن ابنتى تموت أمام عينى وأنا الطبيبة ولا أملك لها شيئاً. ربتت صديقتها على كتفها في حنان وقالت: - اهدئي يا «إيمان» ولا تنسى أننى حذرتك من التعامل مع الدجالين.. إننى مذهولة منكِ وأنتِ الطبيبة المثقفة كيف تؤمنين بتلك التخاريف بل وتتركين ابنتك تحت تصرف مجموعة من النصابين وتدفعين لهم آلاف الجنيهات مقتنعة أن علاجها في أيديهم؟ رفعت إليها وجهاً أغرقته الدموع واتشح بنظرة عاجزة وقالت: - رغماً عنى، فلم يكن لدى حل آخر وأنا أرى ابنتى تحتضر أمام عينى إلا أن ألجأ لهؤلاء. ويا ليتهم فعلوا شيئاً. صوت ارتطام جسد بالأرض ينزعهما من حديثهما فتهرعان حيث غرفة سارة . -ابنتى. تصرخ بها «إيمان» وهى ترى جسد ابنتها مسجى على الأرض.. تفزع نحوه وتزفر حينما تطمئن إلى انتظام نبضها ثم تشير إلى صديقتها وخادمتها لتساعداها في حمل ابنتها لترقد أخيراً فوق سريرها وتسرع نحو حقيبة أدواتها تلتقط منها سماعة الطبيب. دقائق معدودات و«إيمان» تحاول أن تصل لسبب إغماء ابنتها وتحاول إفاقتها دون جدوى.. ثم ما لبثت أن أطلقت صرخة انتفض على إثرها كل من صديقتها وخادمتها متسائلتين لكنها ألقت بالسماعة على الأرض في عنف وهى تعاود صراخها: -مستحيل ..مستحيل. غادرت الحجرة في حدة فهرولت خلفها صديقتها مشيرة إلى الخادمة أن تظل إلى جوار «سارة». - حامل.. «سارة» حامل. قالتها في حسرة ودموعها تسبق حروف كلماتها وانهارت باكية بين ذراعى صديقتها ، ثم لم تلبث أن كفت عن البكاء فجأة ورفعت وجهها قائلة: -هل يمكن أن يكون ما قاله ذلك الشيخ قد تحقق؟ عقدت صديقتها حاجبيها في تساؤل فأردفت «إيمان» قائلة: - لقد قال إن واحداً من الجن يعشقها ويريد الزواج بها، وإنه سبب كل ما يحدث لها وربما كان يعاشرها معاشرة الأزواج و... قاطعتها صديقتها هاتفة: -كفاك جهلاً أيتها الطبيبة.. انظرى إلىّ.. هل تصدقين ما تقولين أم أنك تريدين أن تختلقى مبرراً لما فعلته ابنتك؟ أجابتها وثمة أمل يغزو عينيها: - لكن المس قد ورد ذكره في القرآن.. «إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا» و.. قاطعتها: - وما علاقة المس بالزواج ..إن المس هنا يعنى الوسوسة بالشر.. ثم إن للجن طبيعة خلق تختلف عن خلق الإنسان ولا يمكن علمياً أن يتزوج كائنان مختلفان بيولوجياً وينتجان نسلاً.. وإلا لأمكن أن يتزوج إنسان بحيوان.. فهل يمكن لامرأة أن تحمل من حيوان أيتها الطبيبة؟ «إيمان» أفيقي. قالتها وهي تهز كتفيها بعنف فصرخت «إيمان» عندما أدركت أن أملها قد تهاوى: - لا تقنعيني أن ابنتى قد أخطأت.. ولماذا تخطئ ..أتخطئ وتخون ثقتي بها أنا وأبوها ونحن نبذل أقصى ما لدينا لإسعادها.. ماذا فعل أبوها لترتكب في حقه تلك الجريمة وهو يحتمل الغربة والابتعاد عنا لسنين طويلة وأعمل أنا ليل نهار كى تعيش هى في تلك الفيلا بأرقى أحياء القاهرة ولتلتحق بجامعة مرموقة كجامعتها.. حتى السيارة التى تستقلها أبينا إلا أن يسوقها أحدهم بها حتى نظل مطمئنين عليها و... قاطعتها صديقتها في ألم: - ليتكم تركتموها تسوق سيارتها بنفسها ربما لو فعلتم لما حدث ما حدث. -ماذا تقصدين؟ أشاحت بوجهها عن عيني «إيمان» وأجابت: - لقد تحدثت مع «سارة» صباح اليوم وعرفت كل شيء. بلهفة مقهورة سألتها: - ماذا عرفت.. تكلمي. نظرت إليها وكأنها تحاول أن تعرف مدى قدرتها على تحمل ما ستقول لكنها لم تجد بداً من الاستطراد: - ابنتك لم تكن بحاجة للمال وتلك العيشة الرغدة بقدر احتياجها لحبكما أنت وزوجك.. لكنكما لم تدركا حجم ما تعانيه من حرمان فعوضها عنه أول شخص كان قريباً جداً منها وعرف نقطة ضعفها تلك وجعلها تهيم به.. صرخت «إيمان»: - تقصدين السائق؟ أومأت برأسها إيجاباً فانهارت «إيمان» على أقرب مقعد لها واستدركت صديقتها: - ولكن للأسف فقد كان حقيراً لدرجة تخليه عنها عندما عرف بحملها، ولأنها خشيت على نفسها من إجراء عملية إجهاض فقد توصل خيالها إلى اختلاق قصة الجن الذى تلبسها فكانت تتصرف بغرابة وانعزلت عن الدنيا حتى تقنع الجميع.. وإمعاناً فى الإقناع فقد لجأت لرسم تلك الرموز الغريبة على جسمها حتى يمكنها أن تقنعك بالأمر تماماً. انهار الكون في عيني "إيمان" وسقطت على أقرب مقعد وقد تملكتها حالة هياج صارخة: - مستحيل ..مستحيل