لطمها ابن عمها الصغير علي خدها ، تكومت في جلستها كطفلة مذعورة ، تواثبت الصور المتنوعة واحدة ضد الأخري حتي بدوا لها كأشباح تحاول أن تنهش روحها ، شعرت بدوار ، طنت أذناها وامتلأت بصوت أختها يناديها في وقت متأخر من عصر ذلك اليوم القائظ المحتشد بالغبار والرياح الساخنة ، جالت بنظرها فيما حولها من أثاث و سجاد وكتب و لوحات أصلية لمشاهير الفنانين ، كانت رائحتها و بصمات لمستها في كل ركن من أركان البيت ، يدل ترتيب الاشياء علي أنها كانت منظمة و دقيقة بعكسها هي التي كانت تعاني من الفوضي و تفتقد الدقة في حياتها اليومية ، كم شاهد هذا المنزل ليالي دافئة هادئة ، كانت هي مخرجها و ملاذها الذي تهرب إليه وقت الحاجة ، لم يكن لها أخوة أو أخوات غيرها ، لم يرزق أبواها بولد ذكر يحمل أسم العائلة ، ها هي الآن تعاني من ألم فراق أختها وصديقتها التي جاء رحيلها أثر حادث سيارة في طريق رجوعها من فيلاتها في أحد المنتجعات الجديدة علي البحر الاحمر ، يومها كلمتها في الهاتف و أخبرتها أنها سترجع قبل المساء و سوف يتقابلان ليتناولا طعام العشاء معا ، فهي مشتاقة لها ، فقد مرت بضعة أيام و لم ترها. قررت بناءا علي هذه المكالمة ان تأخذ إجازة من عملها و ذهبت لشراء لوازم العشاء و في طريقها عرجت علي بائع الزهور وأحضرت الورود الملونة التي تعشقها أختها ، مر اليوم بطيئا ، كانت تحادثها بالهاتف المحمول من حين لآخر ، قالت لها في المكالمة الأخيرة أنه لم يبق إلا خمسة و أربعون دقيقة علي وصولها ، مرت الدقائق رتيبة ثقيلة و حين حل الظلام بدأت تشعر بالقلق ، ظلت ترتجف ، حاولت مرارا أن تتواصل معها علي الهاتف لكنه لم يكن يرن ، دارت في رأسها أفكار بغيضة ، حاولت أن تطرد هذه الهواجس ، التي قطعها رنين التليفون ، أنخطف لونها ، تسارعت دقات قلبها ردت : ألو...... ألو.... سقطت السماعة من يديها ، غابت عن الوعي ، أفاقت من إغماءتها الطويلة علي صوت الجرس و طرقات الباب ، كان ابن خالتها هو الطارق ، أخذها إلي صدره ، وضع رأسها تحت ذقنه و احتضنها بقوة ، أخذا ينتحبان ، انخفضت عيناه و أحمر وجهه ، لم يستطع أن يقول لها شيئا ، كانت ترتعد و لا تقوي علي الكلام ، كانت الدموع تنحدر علي خديها و تسقط علي ملابسها غزيرة و ثقيلة ، أشار لها أن تأتي معه إلي المستشفي الذي نقل إليها الجثمان ، تبعته كأنها مخدرة ، كان طويلا شديد النحافة ، مع إحدداب خفيف ، له شارب بني كث يتخلله الشيب و أكثر ما يلفت النظر فيه هما حاجباه الغزيران و ساقاه الطويلتان بصورة غير عادية ، كان يعشق أختها ، و كان من المفترض أن يكون زوجها ولكن الأقدار حالت دون ذلك. مر كل شيء سريعا و لم يبق إلا الألم المر و أيام ثقيلة تجرجر أحزانها ، و حنان يغرقها به ابن خالتها من حين لآخر ، أوت إلي حجرة المكتب و مدت يديها إلي صندوق الصور الموضوع علي سطح المكتب ، تمتمت.. خطفك الموت مبكرا. نظرت إلي أحدي الصور التي جمعتهما معا ، سمراء متغضنة الوجه ، شعرها بني طويل ، وجناتها بارزتان متوردتان ، متوسطة القامة ، لا تفارق البسمة وجهها ، عيونها واسعة لامعة بالشقاوة والذكاء ، رنت في داخلها ضحكاتها الرائعة و بحة صوتها الصافية ونظرات عينيها المشاكسة ، و في صورة أخري ترتدي معطفا ثقيلا و تجلس علي حجر إحدي النوافير ، إنها نافورة في روما ، تخيلت نفسها جالسة معها في ذلك الأصيل الشفيف ، حيث الطيور البرية تلتقط الحبوب التي يجود بها عليها السائحون و هم يأخذون لها الصور ، بدت لها تلك الغيوم و كل التفاصيل الموجودة في الصورة ، مألوفة و حقيقية ، يسيطر عليها حنين جعلها تحدق في الصور بابتسامة غامضة حزينة ، أغلقت عينيها ، أنسالت دموعها ، سقطت علي الصور التي تلألأت تحت ضوء المصباح الخافت ، أخذت تنتحب بمرارة ، توجهت إلي حجرة النوم ، أستلقت علي السرير ، واصلت بكاءها تحت الأغطية التي سحبتها فوق رأسها ، ظلت مستيقظة مدة طويلة ، حينما غرقت في النعاس حلمت بموكب الجنازة و أن رجالاً ملتحون فتحوا النعش و تقدم أحدهم و أخذها بالقوة و وضعها فيه بجانب أختها ، صرخت و قفزت من الفراش فزعة و خرجت إلي الشرفة لتستنشق الهواء. في صباح اليوم التالي حين أخذت طريقها إلي المحكمة لتقابل محاميها لتحصل علي إعلان الوراثة لم تعرف بعد ، لماذا يثقل هذا اللقاء من النهار قلبها بالكأبة و القلق ، و جدتهم هناك خمسة رجال ، كثيفي اللحية ، ممتلئي القوام ، أولاد عمها الذين لم ترهم في حياتها إلا مرتين ، إحداهما عندما تلقت منهم العزاء ، و أستغربت وجودهم ، أتوا إليها و صافحوها بسرعة ، تقدم أكبرهم الذي كان ذا مظهر باهت كثيف اللحية ، ممتلئ القوام ، أنتحي بها جانبا ، قال و هو يحك جبهته لقد جئنا لنتعرف علي نصيبنا في الميراث ، حسب الشرع ، بدا لها ذلك غير مفهوم و سخيف ، رفعت كفيها اليمني و قالت و قد أحمر وجهها : من فضلك أنا لا أفهم شيئا... ماذا تقصد ؟ أغلق عينيه و هز رأسه و مضي يقول في فتور و رئتاه تصعد و تهبط كانها رئة محموم : أختك رحمها الله لم يكن لها إلا أنت ، لا يوجد أخ ذكر لكما ، نحن أبناء عمك ( ذكور) لذلك من حقنا أن نورث معك في أختك ، هذا شرع الله ، و نحن لا نريد أن نخالف شرعه فسبحان الحي الذي لا يموت. مشي و قد تجعد وجهه من الغضب حيث إخوته الذكور يتكلمون بصوت مهموس لا يسمعه أحد ، أمسكت عندئذ عن الكلام و ساد فراغ محرج لم يقطعه إلا خروجهم من المحكمة و أصوات أقدامهم التي تخترق قلبها و تترك أنينا مخيفا علي بلاط الأرضية. مالت برأسها قليلا محدقة في القاضي الذي يجلس وراء المنصة وخلفه ميزان العدل معلق علي الحائط و أية قرآنية " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل و إن الله نعمَّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ". لم تكن تعلم ما توسوس به نفوسهم ، و كم من مصائب ستقع في الأيام القادمة ، هبت ريح الخماسين عنيفة في هذا اليوم ، ردم المنزل بالرمل و التراب ، أمسكت المنفضة ، أخذت تضرب بها علي الأثاث بعنف ، لم تكن تعرف إذا كانت تريد أن تزيل ما علق بها من أوساخ ، أو تزيل ما علق في جسدها من جروح ، خلعت ملابسها الخارجية و ظهر نحرها العاري ، أنتفخ أنفها و تبلل جسدها بالعرق ، شعرت بالتعب ، تهالكت علي الكرسي ، بدت كشجرة جفت غصونها و تساقطت أوراقها ، سألت نفسها " ماذا تخشين ؟ " ، لا تجعلي الأشياء تتسربل بشهوة الشره ، لكن ما أغرب هذه الحياة ، أولاد العم الذين يتشدقون بالشرع لم يحاولوا إعمال هذا الشرع قبل موت بنت عمهم أو بعد رحيل عمهم وزوجته ، أليس الشرع يوصي علي صلة الرحم و بذي القربي ، لماذا تركونا هكذا كل هذه السنين ؟ بعد أن ترك الزمان آثاره و علاماته علي الوجوه و الطباع ، جاءوا ليتذكرونا في اللحظات القاسية العاتية من أجل الميراث ، أحست بغم ثقيل في داخلها ، لقد طلبوا منها أن تحصر كل شيء خاص بأختها و لمحوا لها بأنهم سوف يتسامحون بالقدر الذي تكون أمينة معهم في حصر التركة التي سيتقاسمونها بالعدل و القسطاس. تمهلت في السير ممعنة النظر في هذا الأمر الغريب الخادع ، في هذا العبث الذي حولها ، و في الشارع الذي تلاطمت فوق أديمه جموع من بشر لا أحد يعرف من أين هم قادمون أو إلي أين هم ذاهبون ، و أي مآس يحملون ، رجعت إلي بيتها مهيضة الجناح مشتتة الخاطر ، تتسربل بغمة العدوان التي لا تعرف من أين قذف بها القدر إليها ، طلبت من خالها العجوز و ابن خالتها أن يأتيا في اللقاء الذي يجمعها بأولاد عمها. في المساء في الميعاد المحدد جاءوا ، و دخلوا من باب الشقة بوجوه عابسة تتبعهم زوجاتهم ، بعد نصف ساعة من قراءتهم قائمة الحصر الذي قدمته عن التركة ، تناهي إليهم أذان صلاة العشاء ، قاموا و توضأوا ثم أقاموا الصلاة في صالة المنزل لعل الصلوات والابتهالات تكون صخوراً تصيب مرماهم ، في أثناء ذلك قامت نساءهم بتفقد الشقة ، أخذن يتحسسن الأثاث و التحف و اللوحات و الستائر و بدون استئذان دلفن من الصالة إلي حجرات النوم و أخذن يتفقدن أركانها و كل شبر فيها. لم تصدق عينها ، نظرت إلي خالها و أبن خالتها تستغيث بهما ، لكنهما أشارا لها بيديهما أن تلتزم الصمت ، عندما انتهوا من أداء الصلاة ، وقف خالها و أتجه نحوهم بتوتر و قال : كنت أظن أن الأمور ستسوي بطريقة حضرية نوعا ما ، علي الأقل يجب احترام حرمة المنزل ، حرمة رحيلها فمازالت رائحتها في المكان ، ملابسها و أشياؤها الخاصة. قال أصغرهم و الانفعال يملا قسمات وجهه : هذا المنزل هو حرمتنا نحن أيضا لقد أصبح نصفه من نصيبنا. فوجيء الخال و نظر إليهم في دهشة و فزع إلي درجة أنه لم يستطع أن يقول شيئا ، شعر بالأسي و الندم عليها من هؤلاء الرجال الطافحين بالفحولة و الذكورة البائسة. خرجت إحدي الزوجات من غرفة نوم الأخت الراحلة و قالت بصوت عال، توجد خزانة بأحد أركان الدولاب لكنها مقفولة ، وتوجد أيضا علبتان فيهما مجوهرات و ذهب. لم تصدق ما تسمع و ما تري ، مادت الأرض من تحت قدميها ، أسرع إليها ابن خالتها و أجلسها علي الكراسي ، أستلقت في جلستها ضعيفة متهالكة ، أصاب وجهها الشحوب ، لمعت في عينيها نظرة تعسة ، أحست برجفة مؤلمة تنتابها من أثر الأصوات والهمسات ، لم تستطع أن تصوغ كلمة بعد هذا الاعتداء القاسي ، كانت تبدو كأنها جالسة في مؤخرة منظر تشاهده كمتفرجة ، لكنها في نفس الوقت فاعلة أساسية و موجودة فيه ، فلم يكن أحد يستطيع أن يقول شيئا حيال وجودها. بعد قليل ظهرت بقية النساء تحمل بين أيديهن ملابس متنوعة وأردية للنوم ، قالت إحداهن : سوف نضع هذه الأشياء علي مائدة الطعام و نفرزها و كل واحدة تأخذ منها ما يليق بها لكن طبعا سنقسمها بالعدل. في تلك اللحظة تمنت أن يكون الحلم الذي رأته بالأمس حقيقة و أن تري نفسها راقدة في التابوت بجوار أختها ، بدت مذهولة و علي وجهها أرتسمت نظرة عذاب ، صرخت فيهم ، " أخرجوا بره.... أخرجوا بره الآن و إلا سأقتلكم كلكم ، أخرجهم يا خالي.... أخرجهم...." نظروا إليها نظرة غل و كراهية ، قالوا في نفس واحد كأنهم حفظوا نفس الكلام و اتفقوا عليه من قبل : اخرجي أنت ، إذا أردت ، لنا في هذا البيت مثلك. أخذت تلطم وجهها ، أصابتها حالة من الجنون و الهياج ، قذفتهم بكل ما وقع تحت يدها ، صرخت بقوة و هي تنتفض : يا كفرة ، يا ظلمة ، يا أولاد الكلب..... يا أولاد الكلب. لطمها ابن عمها الصغير علي خدها ، تكومت في جلستها كطفلة مذعورة ، تواثبت الصور المتنوعة واحدة ضد الأخري حتي بدوا لها كأشباح تحاول أن تنهش روحها ، شعرت بدوار ، طنت أذناها وامتلأت بصوت أختها يناديها ، يقترب منها و يبتعد عنها ، اجتاحها دوار شديد ، سمعت رنين دقات الساعة المعلقة علي الحائط كأنه نصل سهم يرشق في قلبها و غابت عن الوعي.