إعلان نتائج جولة الإعادة لانتخابات النواب 2025 بمحافظة بورسعيد    برلماني لوزير الخارجية: الدبلوماسية المصرية حائط الصد في الدفاع عن الدولة    البابا تواضروس يهنئ بطريرك الكاثوليك بمناسبة عيد الميلاد    الرقابة الإدارية تشارك في مؤتمر الدول الأطراف باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد    نائب رئيس جامعة بنها يتفقد امتحانات الفصل الدراسي الأول بكلية العلوم    محافظ أسوان يتابع ميدانيًا منظومة التطوير والتجميل    جامعة بدر تستضيف المؤتمر الدولي لرابطة العلماء المصريين بأمريكا وكندا| صور وفيديو    محافظ كفرالشيخ يستمع لشكاوى وطلبات الأهالي بشأن الخدمات    مدينة الأبحاث العلمية تفتتح المعرض التمهيدي لطلاب STEM المؤهل للمعرض الدولي للعلوم والهندسة ISEF–2026    التفاصيل الكاملة لافتتاح المركز النموذجي بالغرفة التجارية بالقليوبية    عاجل- ارتفاع جديد في سعر الذهب اليوم الخميس 25-12-2025.. عيار 21 يصل إلى 5965 جنيهًا    محافظ المنيا يعطى شارة بدء انطلاق زراعة الذهب الأصفر    وزير الخارجية: بعض المحبوسين بمراكز التأهيل يرفضون الخروج بعد انتهاء مدة حكمهم بسبب الرعاية الصحية    الجيش الروسي يسيطر على بلدة سفياتو بوكروفسكوي في دونيتسك    استشهاد أكثر من 406 فلسطينيين منذ بدء اتفاق وقف إطلاق النار بغزة    الجيش السوداني يستعيد السيطرة جزئيًا في كردفان    وول ستريت جورنال: إسرائيل تلوّح بضربة جديدة ضد إيران بسبب الصواريخ الباليستية    سلوت: تجاوزنا أزمة محمد صلاح وعلينا أن نحترمه مع منتخب بلاده    مدرب مالي يغازل جماهير الرجاء قبل مواجهة المغرب بأمم أفريقيا 2025    بشير التابعي يشيد بدور إمام عاشور: عنصر حاسم في تشكيلة المنتخب    غلق كلي لكوبري قصر النيل لتنفيذ مشروع أعمال الصيانة الإنشائية    ضبط طن لحوم غير صالحة للاستخدام الآدمي بالمنوفية.. صور    كشف ملابسات التعدي على فتاة من ذوي الهمم داخل مسكنها بالإسكندرية    الداخلية تتخذ الإجراءات القانونية حيال 19 شركة سياحية غير مرخصة    تأجيل محاكمة رئيس اتحاد السباحة وآخرين بتهمة الإهمال والتسبب في وفاة السباح الطفل يوسف    إغلاق موقع إلكتروني مُزوّر تم رصده لبيع تذاكر زيارة المتحف المصري الكبير    تعرف على أبرز الشخصيات فى مقابر تحيا مصر للخالدين    رئيس الوزراء يُتابع الموقف التنفيذي لمشروعات صندوق التنمية الحضرية    إيرادات الأفلام.. طلقني يزيح الست من صدارة شباك التذاكر وخريطة رأس السنة يحتل المركز الخامس    ادِّعاء خصومات وهمية على السلع بغرض سرعة بيعها.. الأزهر للفتوي يوضح    حكم الصِّيَامِ في شهرِ رجب؟ الأزهر للفتوي يوضح    للأمهات، ابدئي يوم طفلك بعصير فيتامين C في الشتاء لتقوية مناعته    محافظ الجيزة يفتتح قسم رعاية المخ والأعصاب بمستشفى الوراق المركزي    محافظ الوادى الجديد يلتقى المستشار الثقافى للسفارة الهندية بالقاهرة    المؤتمر الدولى لكلية دار العلوم بجامعة القاهرة يناقش قضايا الاستشراق والهوية    رجال سلة الأهلي يصلون الغردقة لمواجهة الاتحاد السكندري بكأس السوبر المصري    بيان عاجل من الخارجية السعودية بشأن أحداث حضرموت والمهرة في اليمن    مصادرة 1000 لتر سولار مجهول المصدر و18 محضرا بحملة تموينية بالشرقية    سيول وثلوج بدءاً من الغد.. منخفض جوى فى طريقه إلى لبنان    شوبير يكشف موقف "الشحات وعبد القادر" من التجديد مع الأهلي    حسام حسن: ⁠طريقة لعب جنوب أفريقيا مثل الأندية.. وجاهزون لها ولا نخشى أحد    الكيك بوكسينج يعقد دورة للمدربين والحكام والاختبارات والترقي بالمركز الأولمبي    الصحة تعلن اختتام البرنامج التدريبي لترصد العدوى المكتسبة    المتحدث العسكري: قبول دفعة جديدة من المجندين بالقوات المسلحة مرحلة أبريل 2026    من هو الفلسطيني الذي تولي رئاسة هندوراس؟    وزير المالية: التوسع فى إصدار الأدلة الإيضاحية وتوحيد وتيسير المعاملات الضريبية    بالفيديو.. استشاري تغذية تحذر من تناول الأطعمة الصحية في التوقيت الخاطئ    عبد الحميد معالي ينضم لاتحاد طنجة بعد الرحيل عن الزمالك    التضامن: تسليم 567 طفلًا بنظام الأسر البديلة الكافلة منذ يوليو 2024    نائب وزير الصحة تتفقد منشآت صحية بمحافظة الدقهلية    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 25ديسمبر 2025 فى المنيا    لليوم الثاني.. سفارة مصر بإيران تواصل فتح لجان التصويت بجولة الإعادة للدوائر ال19 الملغاة    أمن القليوبية يكشف تفاصيل تداول فيديو لسيدة باعتداء 3 شباب على نجلها ببنها    هل يجب الاستنجاء قبل كل وضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    أول ظهور ل «محيى إسماعيل» من العناية المركزة    أحمد سامي يقترب من قيادة «مودرن سبورت» خلفًا لمجدي عبد العاطي    صفاء أبو السعود من حفل ختام حملة «مانحي الأمل»: مصر بلد حاضنة    ما حكم حشو الأسنان بالذهب؟.. الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصول من رواية الأديب الكبيريوسف زيدان النبطي
نشر في الشروق الجديد يوم 06 - 11 - 2010

رواية «النبطى» تحكيها الفتاة المصرية مارية، التى تزوجت تاجرا نبطيا وانتقلت من قريتها الواقعة بأطراف الدلتا الشرقية، إلى منطقة «البترا» بجنوب الأردن، حاليا.. الرواية ثلاثة أقسام (حيوات) مرت بها مارية، وحكت ما شاهدته خلالها.
وفيما يلى ننشر بداية الفصل الأول من «الحيوة الأولى»
شهر الأفراح
فى يوم حار لم تسطع فيه شمس، جاء العرب من بعيد يخطبوننى لواحد منهم. الأوان ربيع، غير أن الغبار الأصفر الآتى منذ يومين، من صحرائهم القريبة، الجرداء، يهيم فى كل الأنحاء فيحجب الأشياء من حولى، ويطمرها. تحصنت منذ صحوت، بحجرة أمى، وبقيت فى فرشتى وحيدة، مكتوفة الركبتين بالذراعين، وقد أرحت للخلف رأسى حتى مس جدار الخرابة العتيقة، اللصيقة، التى نسميها البرابى. جدارها العتيق رطب، والميل إلى الخلف يريح. دجاجات أمى، وكل دواجنها، انسلت من حوش البيت إلى حجرتنا. وراحت تتحامى من الحر والغبار، بالوقوف ساكنة فوق الأرض الرطبة، أسفل سرير أمى وتحت دكتى، وهى تباعد ما بين أجسامها وأجنحتها، وتبقى المناقير مفتوحة. رائحة الدواجن فى الحر نفاذة. أنا بالبيت وحدى، فأمى وأخى بنيامين ذهبا من قبل صحوى، إلى بيت بطرس الجابى، البيت الذى نسميه القصر، لأنه كبير ومن طابقين.
لم يسألونى عن رأيى فى الخاطب العربى، لكنى بلا تردد، موافقة عليه. فقد تجاوزت الثامنة عشرة من عمرى، بعدة من شهور، ويكاد يأسى من الزواج يبلغ منتهاه.. آه.. تأخر عنى الفرح، حتى تهرأ قلبى مع تقلب الليل فوق النهار، وتعاقب حر الصيف على مطر الشتاء. تمر أيامى بطيئة، وأنا متوحدة هنا. شاحبة الروح. حيرى.
صاحباتى اللواتى كن يمرحن حولى، تزوجن، فخلا الكفر من ضحكات العذارى، ومن الفرحات الأولى التى دامت حتى ظننتها لا تتبدد. لا شىء لا يتبدد. لم يبق فى الكفر إلا الرجال الطيبون، العابسون بغير سبب، والنسوة الكادحات اللواتى ينظرن نحوى، بإشفاق يليق بعانس، والأطفال الصاخبون فى الدرب طيلة النهار، بغير مرح.. متى سيكون لى أطفال؟
حظى من الحياة قليل، مع أننى بيضاء كقلب القمحة، وجميلة. نحيلة قليلا، لكنى جميلة. نسوة الكفر كن يؤكدن أننى إذا تزوجت، وزاد وزنى، سأصير حسناء. فعيناى الصافيتان واسعتان، لونهما لون العسل الذى يجمعونه أيام البرسيم. وتحوطهما رموش كثيفة فى لون ليالى الشتاء. حاجباى العريضان، كثيفا الشعر، وناعمان. شعرى أيضا ناعم وطويل، وسميكة ضفائره. أنا لا أحب الضفائر، شعرى مرسلا أبهى. كانت دميانة صاحبتى تقول إنى حين أطلق خصلات شعرى، وأخط بالكحل رموشى، أغدو فاتنة مثل نساء البلدة البيضاء.
دميانة كانت تعرف كل شىء، ما يقال وما لا يقال. تزوجت قبل أعوام ثلاثة، أيام كنا فى الخامسة عشرة. عمرنا واحد. فقد قالت الأمهات إننا ولدنا فى شهر توت، الخريفى، أول شهور السنة التى ملك فيها الملك المسمى هرقل، بلادنا الواسعة والنواحى التى حولها. تزوجت دميانة، فى الشهر ذاته الذى تسقط فيه، وتصفر، أوراق عروش العنب. لا تعلو لى ضحكة، من يوم ابتعدت عنى. صرت من بعد رحيلها وحيدة، حزينة. لكنى أيام عرسها كنت فرحة من أجلها، لأنها اشتهت الزواج ككل البنات، وهامت بالأوهام. امتدت خطبتها شهور ذاك الصيف الذى مر علينا كأنه الطيف، ثم تزوجت حين تقصفت أوراق الكرم وتغضنت أغصانها والشجون.
تركتنى، وتركت الكفر كله، لتسكن مع الولد الممصوص الذى تزوجته، فى بلدته البعيدة التى نسميها البرمون. أهل البلدة البيضاء يسمونها بيلوز، ويسميها العرب الفرما. لهذه البلدة الكبيرة، مثل كل شىء كبير، ثلاثة أسماء. الوصول إلى هناك، يحتاج ركوب بغلة، تظل تسير شمالا نهارا كاملا، أو أكثر. يقولون هنا، إن دميانة بعد زواجها بعام، ولدت طفلتين فى بطن واحدة، ثم انقطع منها حبل الحبل.
حنينى إلى دميانة، حارق. لا أستطيع السفر إليها، وهى لم تأت يوما لزيارة أمها. أمها يسميها أهل الكفر: هزة. لأنها بدينة، يهتز جسمها كله حين تمشى. الناس فى الكفر ينادون بعضهم بعضا، أحيانا، بغير أسمائهم. كانوا ينادون أمى وأنا صغيرة: غزالة. لأنها نحيفة رشيقة الحركة كالغزلان، وكحيلة جفول لا تهدأ فى البيت حركتها. أمى جميلة وحنون.. ما عادوا بعدما مات أبى ينادونها غزالة، صاروا يسمونها أم مارية، وصارت تخاف أن يأتى يوم يسموننى فيه: العانس.
يوم رحلت دميانة عنا مع زوجها وأهله على حمار ضعيف، خرج أهل الكفر كلهم لوداعها بعد العرس. مشينا معها من باب الكنيسة، حتى نهاية ساحة السوق. وعند السور الخلفى للبلدة البيضاء، بلدة الكفار، جمعنا الحضن الأخير، العجول. لحظتها لم تكلمنى دميانة، ولكن عيناها الدامعتان قالتا الكثير. باحت بنظراتها، حتى أحسست بخوفها، وهى التى طالما تحرقت للزواج، وطالما عرفت ما يكون بين النساء والرجال. لكنها فى لحظة الفراق أجهشت مذعورة، وتولت عنى كأنها تفر إلى أفق مخيف.
فى طريق عودتنا من وداعها، بخطى الفرح والحزن، همست لى أمها هزة عند بوابة الكفر، بأن على الإسراع بالزواج كى ألحق بدميانة. أضافت وهى تتوكأ على كتفى، فتميلنى ناحيتها وتوجعنى، أن الفتاة إذا تخطت الخامسة عشرة بلا زوج، يدب بباطنها الصدأ فيخرب معدنها. هززت لها رأسى كالموافقة، مع أننى لم أفهم مقصدها. لم أكن قد عرفت بعد، أن معدنى فى مكمنى. كلامها أدار برأسى يومها، الأسئلة المحيرة: كيف سأسرع إلى الزواج؟ وأين سبيلى المتاح؟ وما معدنى هذا الذى قد يصدأ ؟ وكيف يمنع الزوج الصدأ؟
الزوج.. أتراه أتى اليوم، ليأخذنى إلى الموضع الذى يسعدنى فيه، وأسعده. هل آن أوان سعدى؟ النسوة المتزوجات، الحزينات، يسمين الزواج السعد. لكننى رأيت البنات الصغيرات وحدهن السعيدات، المرحات طيلة الوقت كفراشات تبتهج بغير حساب، وإن غابت الأسباب.
آه يا دميانة، ما عدنا صغيرات. أمى حبستنى من بعد عرسك، فلم أعد أطوف حرة فى الأنحاء، نهارا، مثلما كنا نفعل أيام بهجتنا الأولى. مساء يوم رحيلك، جلست كالمعتاد على الأرض أمام أمى، وجلست هى على شفا سريرها القديم. وبعد لحظة مددها السكون، دعتنى إلى ما عودتنى عليه فى الأمسيات: أن أروى لها ما رأيته فى يومى، وأقص كل ما قيل أمامى. كى تطمئن على، على ما كانت تقول.
رويت لأمى ليلتها تفاصيل عرسك، وما حفظته من كلام أهل الكفر فى يومك الحافل. وحين حكيت لها نصيحة أمك بالإسراع إلى الزواج، كى أتجنب الصدأ، طفرت من عينيها دمعتان من عصير الألم، وأمالها الهم إلى الوراء. ولت وجهها الشاحب ناحية الحائط، وببطء مريضة، شدت فوقها لحافها الخشن كأنها ستنام، مع أن الجو كان حارا والهوام مبتهجة.
بعدما تولت عنى، بقيت ساعة أقلب أغصان العوسج، متقدة الحواف، ليعلو دخانها من الماجور المكسور، فيطرد عن حجرتنا الهوام والناموس.. بعد حين، أخذنى من الظلام وهج الأغصان، وأشكال الدخان الغامضة. همت شاردة، مغلقة العينين، مسترجعة ببطء لذيذ صورتك فى ثوب عرسك، وقد وضعوا الإكليل على رأسك. ابتهجت فى سرى، لما تذكرت لمعة عينيك فى الكنيسة، ساعة انتهى الكاهن من تلاوة الصلوات، وصيرك امرأة.. هه، أنا ما حكيت لك يا دميانة ما جرى معى فى البرابى مع الرجل الغريب، قبل زواجك بيومين، قبيل الغروب. لم أجد فرصة لأحكيه لك، ولا حكيته طبعا لأمى، ولا لغيرها.
فى تلك الليلة البعيدة، بقيت هائمة، سكرى بلذة الذكريات. حتى إذا امتلأت سماء حجرتنا دخانا، واحترقت الأغصان اليابسة كلها. هزت أكتافى رعدة مباغتة، فقمت كالملسوعة لأدس نفسى تحت لحاف أمى. مع أن الجو كان حارا. احتضنتها من ظهرها، وحين مستنى الطمأنينة نمت. أمى لم تكن نائمة حقا. آخر ما بدا بجوف فؤادى، بعدما أغمضت عينى طويلا؛ نظرة الرجل الغريب ولمسات أنامله. آه يا دميانة، كأن الأمر كان الليلة الفائتة، وكأن الأعوام ما مرت.
عرفت بمجىء العرب الخاطبين، ضحى اليوم. دخلت على الحبشية الخادمة بقصر الجابى، ساعة اشتداد الحر وسكون العصافير، وهى تدعونى بإشاراتها وألفاظها المبهمة للذهاب إلى القصر. الحبشية لا تعرف كلامنا، مع أنها هنا منذ سنين. انتبهت لها، وللنسوة الصاخبات اللواتى جئن وراءها، حين داست أرض حجرتنا وفوق رأسها ماجور فخارى، فيه ماء نظيف. دخلت خلفها أم نونا، القصيرة، تضحك وترجرج صدرها الكبير، داعية بفرحة غامرة لأن أقوم فأرتدى هذا الثوب الجديد، الزاهى، الممدد من قبل صحوى على سرير أمى.
هيا يا مارية، استحمى بسرعة وارتدى الثوب الجديد، فقد وصلوا ولن نتركهم ينتظرون.
من الذين وصلوا، وينتظرون من؟
يوووه يا مارية. العرب جاءوا يطلبونك. وصلوا إلى الساحة، بحمير وجمال كثيرة. اللقاء والغداء بقصر الجابى.
ما أخبرنى أحد بأى شىء.
جئت لأخبرك، أمك أرسلتنى، هيا انشطى. بعد استحمامك، كحلى عينيك.
راحت الحبشية تنظر نحوى، وتبتسم، فتلمع أسنانها الشهباء فى ليل وجهها. نظرت إليها مستغربة وقفتها، فخرجت بعدما تركت على الأرض الماجور، وبجواره صابونة بالية فوق قطعة من اللوف الأبيض. لحظة نهوضى من فرشتى، عادت أم نونا وأغلقت على الباب، وهى تهز رأسها وتغمز لى.. تتغامز النسوة الكبيرات، عند ذكر الزواج.
قمت، كمأخوذة من حلم إلى حلم. غسلت عنى العرق والغبار، وعصبت مسرعة ضفيرتى، ودخلت فى ثوبى الجديد بعدما مررت بالمرود بين أجفانى. فور خروجى، صخبت الجارات اللواتى كن يعرشن فى الحوش. تضاحكن، وعلت الزغاريد، وهن يغنين ترنيمة الأفراح التى مطلعها: أقبلى يا عروس سليمان، يا أجمل من بدر التمام.
الثوب ضيق عن عمد من عند صدرى، وأكمامه ضيق منبتها من تحت إبطى، لكن أطرافها واسعة من فوق كفى، ومؤطرة بشريط من قماش لامع. لما خرجت تحوطنى الجارات، يحوطهن أطفالهن؛ كان الهواء قد رق قليلا، وقل الغبار العالق فى الأجواء. رأتنى هزة وهى جالسة على المصطبة التى بآخر الدرب، فدعتنى بتحنان إليها، وحين جئتها جذبتنى حتى احتضنتنى بقوة، ثم علقت بعنقى عقدا مبهجا فيه خرز ملون، كانت تخفيه فى شق ثدييها العظيمين. لما التف حول عنقى العقد، تصايحت النسوة وتضاحكن، وصخبن بالزغاريد مع دخولنا القصر من بابه الخلفى.
قصر الجابى تحوطه حديقة خضراء الأرض، فيها أشجار رمان وبرتقال وليمون. الحديقة صغيرة من الخلف، من جهة الكفر، وفسيحة فى الجهة المقابلة التى فيها الباب الكبير. وفيها هناك حوض ماء مدور نسميه النافورة، لأن بقلبه ماسورة ينفر من قلبها فى الهواء الماء. الطابق الأرضى للقصر، بمدخله بسطة رخامية، وباب، بعده فسحة تفتح عليها غرف أربعة. أولها غرفة الضيوف الواسعة، التى على يمين الداخل من الباب. الغرفة مبلطة، وعلى نوافذها ستائر تمنع عن الجالسين الشمس والغبار. أحب الستائر، فهى رقيقة ناعمة، تسحر عيون الأطفال والصبايا.
لحظة عبورى من أمام غرفة الضيوف، لمحت العرب متكئين فيها على الأرائك، متباعدين، مستريحين كأنهم فى بيوتهم. نسوة الكفر كن يتحشرن فرحات، فى آخر الفسحة، أمام غرفة الطبخ.
احترت لحظة، حتى ألفيت أمى تنظرنى وسط النسوة، وعيناها الدامعتان تبتسمان. أعطتنى إبريقا زجاجيا أزرق، فيه نبيذ أحمر ممزوج بماء، تسبح فيه قطع صغار من التفاح الأخضر. وفى يدى الأخرى وضعت سبعة أكواب، متراكبة، وقالت ادخلى عليهم.
ركبتاى ترتجفان، وأطراف كفى. أم نونا من خلفى تدلك بتحنان كتفى ومنبت ذراعى، وهى تتلو صلوات مهموسة. أصوات الرجال تأتى من غرفة الضيوف عالية، فيهتاج خوفى. رجوت أمى أن تدخل معى، فهزت رأسها غير موافقة. كدت أبكى، فقالت لتهدئنى إن الحبشية ستدخل ورائى، ومعها إبريق آخر ومزيد من الأكواب.
صبى للضيوف أولا، ولا تترددى. وسوف تناولك الحبشية بقية الأكواب.
أمى..
ادخلى يا مارية.
أود لو أهبط إلى الأرض، فأبكى حينا لأهدأ. لكن النسوة أخذننى إلى غرفة الضيوف، ودفعننى من وراء بابها نحو الرجال. لا مفر، دخلت والخجل يعصرنى، وتهصرنى العيون.
الغرفة واسعة جدا، كالدنيا. كأنها أوسع مما كنت أعرفها، وأعلى ارتفاعا. العرب المعرشون، أكثر من عشرة رجال يجلسون على اليمين صفا، وفى مواجهة الباب يتربع بطرس الجابى مفتخرا، وتحت قدميه صرة كبيرة من الكتان. عن يساره واحد من العرب، كبير السن، وعن يمينه ابن أخته السمين، بسنتى، ثم أخى بنيامين. على أرائك الجهة اليسرى، جماعة من رجال الكفر، بأولهم أبونا شنوته كاهن كنيستنا، بجلبابه الأسود متقرح الأطراف والأكمام. على بطنه الكبير، يتدلى من عنقه الصليب الخشبى، المعلق بالحبل الخشن.. لو كان يلبس برنس القداس اللامع، والقفطان الأسود، لكان منظره أليق بمجالسة الخاطبين.
العرب جاءوا يخطبون، ولا نساء معهم. أين سأجلس بعدما أصب لهم ما يشربون؟ لا امرأة فى الغرفة لأجلس بجوارها، ولا نسمة هواء. العرب يتشابهون فى الأردية الواسعة المخططة بالسيور اللامعة العراض، والعمائم البيضاء المعصوبة فوق رؤوسهم. عيونهم مكحلة. نظرت مشدوهة نحو بطرس الجابى، الجالس هناك فى جلباب فاقع اللون، أصفر. من كتفيه تنسدل عباءة بلون الجميز، ومن حول عنقه يتدلى الحبل الأسود اللامع، المعلق فيه سن التمساح.
كأنهم فوجئوا، كلهم، بدخولى. توقف صخبهم وحدقوا ناحيتى، فازداد اضطرابى. بلغ وجيب قلبى مداه، لحظة قال أحدهم بصوت أجش: ما أحلى العروس. وقال آخر منهم: مرحى، مرحى. وقال الكاهن: بركاتك يا أم النور.
رحت أصب لكل واحد كأسا، فيأخذها من يدى إلى فمه.. فى وسطهم عربى لم يشرب كأسه. أخذها منى بيمناه فوضعها بجواره من دون أن ينظر نحوى، فأمكننى من النظر إليه. ملامحه دقيقة رقيقة، وعيناه المكحلتان واسعتان. ثوبه نظيف أبيض، وعمامته تفوح بعطر خافت. على جانبى وجهه النحيل الرائق، ينسدل غطاء رأسه الشفاف. أتراه خاطبى؟ يا ليته. فهو يبدو مثل قديس شاب، أو ملاك تاه عن طرق السماء، فهبط إلى الأرض بلا قصد، ليعيش حينا بين الناس.
وهو يأخذ الكأس من يدى المرتجفة، قال بصوت خفيض: شكرا يا خالة. تمنيت لحظتها بقلب حالمة، لو كان هو الذى جاء يخطبى.. لكنه لم يكن، كان أخا خاطبى الأصغر منه، المسمى عندهم الكاتب لأنه يكتب لهم عقود التجارات، وهو الملقب هناك بالنبطى مع أنهم كلهم أنباط، وهو الذى سيعلمنى فى حيوة تالية، خفايا كلام العرب وأسرار مس المعانى بالكلمات.
سقيت العرب جميعا وهم ينظرون، ولما وصلت بصب النبيذ إلى بطرس الجابى، لم يرفع وجهه نحوى. قال مزهوا وهو يأخذ الكأس من يدى: يكفيك هذا يا مارية، اجلسى هنا جنب أخيك، الحبشية سوف تصب للباقين من أهلنا.
أفسح بنيامين موضعا فجلست فى الركن، خجلى، وعن يمينى الكاهن شنوته. لم أنظر فى وجوه الخاطبين، من شدة تحديقهم نحوى وهم صامتون. تنحنح بطرس الجابى مرتين، ثم تحدث إلى عربى منهم، والغرفة كلها تسمع: هذه يا شريكى الحبيب، ابنتنا مارية، صالحة وطيعة وتقية، وأنتم أهل لها، وسوف تكون ببلادكم وديعة آمنة، وتصير أما لأطفال كثيرين منكم، بمشيئة الرب.
جاوبه واحد منهم، بصوت خشن: سنكون لها خير الحافظين، وسوف تبقى بيننا عزيزة مكرمة، فنحن فى بلادنا أعزاء مكرمون. ولن يسعنا إلا إكرامها، فهى ابنة جدتنا المصرية هاجر، أم العرب أجمعين.
تداخلت أصواتهم واصطخبوا فيما بينهم بكلام كثير، فالتفت إليهم. لمحت وجوههم المكسوة حمرة وسمرة، لكنى لم أميز خاطبى. فى نظرتهم جرأة تهيل على الخجل، وتسحب وجهى نحو الأرض. بعد حين من حيرتى فى جلستى، ألقى أحدهم إلى الكاهن شنوته كيسا صغيرا من قماش، وقال إنها دراهم لطلبات العرس. باركه الكاهن وهو يدس الكيس مبتهجا فى جيب جلبابه، ثم ينهمك معهم فى كلام كثير عن البابيلون، وعن جند الملك هرقل، وعن حروب تجرى فى نواح بعيدة. هم يسمون البابيلون الفرس، وجند هرقل يسمونهم الروم، ويقولون الدرهم وهم يقصدون الدراخمة.
كان بطرس الجابى يكلمهم بكلامهم، وكأنه منهم، وكنت أتحين اللحظات فأحتال لأنظر إليهم، وإليه. أعادنى لإطراقتى، حين رفع صوته بقوله إن الزواج سيكون فى الكنيسة، بيت الرب، وصخرة الديانة التى تجمعنا. رد عليه جاره العربى، كبير السن: سيتم المراد كله بمعونة الرب يا خال بطرس، مد يدك فخذ منى أمام الرجال مهر العروس. ولسوف نغيب شهرا فى رحلتنا إلى قوص، نعود بعده لنأخذ العروس ونتم الزواج. أمامكم من الآن شهر للأفراح، وسوف نتلوه بشهر أفراح آخر، حين نصل ديارنا سالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.