مدبولي: نعمل مع الوزارات المعنية على تسهيل إجراءات التسجيل العقاري للوحدات السكنية    تعاونيات البناء والإسكان تطرح وحدات سكنية ومحلات وجراجات للبيع بالمزاد العلني    برنامج الأغذية العالمي: الوضع الإنساني بقطاع غزة كارثي.. ومخزوننا الغذائي بالقطاع نفد    بيروت ترحب بقرار الإمارات بالسماح لمواطنيها بزيارة لبنان اعتبارا من 7 مايو    رئيس حزب فرنسي: "زيلينسكي مجنون"!    فاركو يسقط بيراميدز ويشعل صراع المنافسة في الدوري المصري    سيل خفيف يضرب منطقة شق الثعبان بمدينة طابا    انضمام محمد نجيب للجهاز الفني في الأهلي    أوديجارد: يجب استغلال مشاعر الإحباط والغضب للفوز على باريس    زيزو يخوض أول تدريباته مع الزمالك منذ شهر    إسرائيل تدرس إقامة مستشفى ميداني في سوريا    التموين: ارتفاع حصيلة توريد القمح المحلي إلى 21164 طن بالقليوبية    الزمالك: نرفض المساومة على ملف خصم نقاط الأهلي    الشرطة الإسرائيلية تغلق طريقا جنوب تل أبيب بعد العثور على جسم مريب في أحد الشوارع    حرس الحدود بمنطقة جازان يحبط تهريب 53.3 كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    استشاري طب شرعي: التحرش بالأطفال ظاهرة تستدعي تحركاً وطنياً شاملاً    المخرج طارق العريان يبدأ تصوير الجزء الثاني من فيلم السلم والثعبان    البلشي يشكر عبد المحسن سلامة: منحنا منافسة تليق بنقابة الصحفيين والجمعية العمومية    ترامب يطالب رئيس الفيدرالي بخفض الفائدة ويحدد موعد رحيله    الهند وباكستان.. من يحسم المواجهة إذا اندلعت الحرب؟    حادث تصادم دراجه ناريه وسيارة ومصرع مواطن بالمنوفية    التصريح بدفن جثة طالبة سقطت من الدور الرابع بجامعة الزقازيق    ضبط المتهمين بسرقة محتويات فيلا بأكتوبر    تعديل بعض أحكام اللائحة التنفيذية لقانون سوق رأس المال    مفتي الجمهورية: نسعى للتعاون مع المجمع الفقهي الإسلامي لمواجهة تيارات التشدد والانغلاق    23 شهيدًا حصيلة الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة منذ فجر اليوم    مديرية العمل تعلن عن توفير 945 فرصة عمل بالقليوبية.. صور    رسميًا.. إلغاء معسكر منتخب مصر خلال شهر يونيو    مورينيو: صلاح كان طفلًا ضائعًا في لندن.. ولم أقرر رحيله عن تشيلسي    فيبي فوزي: تحديث التشريعات ضرورة لتعزيز الأمن السيبراني ومواجهة التهديدات الرقمية    كلية الآثار بجامعة الفيوم تنظم ندوة بعنوان"مودة - للحفاظ على كيان الأسرة المصرية".. صور    نائب وزير الصحة يُجري جولة مفاجئة على المنشآت الصحية بمدينة الشروق    مصر تستهدف إنهاء إجراءات وصول السائحين إلى المطارات إلكترونيا    الداخلية تعلن انتهاء تدريب الدفعة التاسعة لطلبة وطالبات معاهد معاونى الأمن (فيديو)    رابط الاستعلام على أرقام جلوس الثانوية العامة 2025 ونظام الأسئلة    رغم توقيع السيسى عليه ..قانون العمل الجديد :انحياز صارخ لأصحاب الأعمال وتهميش لحقوق العمال    في السوق المحلى .. استقرار سعر الفضة اليوم الأحد والجرام عيار 925 ب 55 جنيها    صادرات الملابس الجاهزة تقفز 24% في الربع الأول من 2025 ل 812 مليون دولار    كندة علوش: دخلت الفن بالصدفة وزوجي داعم جدا ويعطيني ثقة    21 مايو في دور العرض المصرية .. عصام السقا يروج لفيلم المشروع X وينشر البوستر الرسمي    إعلام الوزراء: 3.1 مليون فدان قمح وأصناف جديدة عالية الإنتاجية ودعم غير مسبوق للمزارعين في موسم توريد 2025    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : انت صاحب رسالة?!    تقرير المعمل الجنائي في حريق شقة بالمطرية    بالفيديو.. كندة علوش: عمرو يوسف داعم كبير لي ويمنحني الثقة دائمًا    بلعيد يعود لحسابات الأهلي مجددا    بدء الجلسة العامة لمجلس الشيوخ لمناقشة تجديد الخطاب الدينى    الأوقاف تحذر من وهم أمان السجائر الإلكترونية: سُمّ مغلف بنكهة مانجا    غدا.. الثقافة تطلق برنامج "مصر جميلة" للموهوبين بالبحيرة    وزير الصحة يبحث مع نظيره السعودي مستجدات التعاون بين البلدين    في ذكرى ميلاد زينات صدقي.. المسرح جسد معانتها في «الأرتيست»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم 4-5-2025 في محافظة قنا    الرئيس السيسي يوافق على استخدام بنك التنمية الأفريقي «السوفر» كسعر فائدة مرجعي    دعوى عاجلة جديدة تطالب بوقف تنفيذ قرار جمهوري بشأن اتفاقية جزيرتي تيران وصنافير    الأزهر للفتوى يوضح في 15 نقطة.. أحكام زكاة المال في الشريعة الإسلامية    هل يجوز للزوجة التصدق من مال زوجها دون علمه؟ الأزهر للفتوى يجيب    خبير تغذية روسي يكشف القاعدة الأساسية للأكل الصحي: التوازن والتنوع والاعتدال    الإكوادور: وفاة ثمانية أطفال وإصابة 46 شخصا بسبب داء البريميات البكتيري    تصاعد جديد ضد قانون المسئولية الطبية ..صيدليات الجيزة تطالب بعدم مساءلة الصيدلي في حالة صرف دواء بديل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قص الجناح
بقلم : أحمد محمد حميدة
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 01 - 2010

تري من سيجئ الآن ويجلس بجواري؟ سؤال مر بذهني اثناء قعودي إلي جانب نافذة الاتوبيس المنتظر قيامه إلي الاسكندرية‏,‏ بعد اكتمال عدد ركابه الذين كانوا يتوافدون علي فترات متباعده‏,‏ يمرون عبر الممر الضيق‏.. وضعت حقيبتي علي ركبتي‏,‏ لأستند عليها عند اختلال رأسي‏,‏ والتباسه بالهزهزة‏,‏ القلقلة‏,‏ والغفوات‏,‏ بينما السؤال يعبر ذهني‏..‏ من سيأتي ويشغل المقعد المجاور؟‏..‏ بينما تصعد جسوم ركاب‏,‏ وتتوغل إلي الداخل الخلفي‏,‏ متجاوزة المقعد‏,‏ تحت ترقبي بالتوقع‏,‏ اقتراب أحد‏,‏ في كل مرة لملء فراغه‏,‏ مشاطرتي الرحلة‏.‏
جاءت هي‏..‏ امرأة مكتملة الأنوثة تبحر فيما بين الثلاثين والأربعين من العمر‏,‏ بخطو وئيد‏,‏ متثاقل‏,‏ ثابت‏,‏ قائمة هامة البدن كالمنومة‏..‏ توجهت رأسا إلي المقعد‏,‏ دون النظر إلي مقعد آخر من تلك المقاعد الخاوية بالخلف‏,‏ بل حطت جسدها بارتماء‏,‏ كمن تحط ثقلا أتعبها مداومة حمله طوال رحلة مضنية سابقة‏,‏ عادت منها توا‏..‏
منهكة قعدت‏,‏ مكتومة‏,‏ بلا سؤال‏,‏ وأو تحية‏,‏ باعتبارها راكبة ستجاورني طوال فترة سفر‏,‏ فقط تنهيدة قاسية انطلقت‏,‏ بغتة من الاعماق‏,‏ ثم صمت شبه قاهر لفها‏,‏ استغرقها بشرود مهيمن‏,‏ وارتخت له اليدان علي حجر ثوبها الأسود الطويل المتسع‏,‏ بترولي الصنع‏.‏
شعرت بامتلاء جسدها من طريقة انهباده غير المكترث لوجود راكب‏,‏ رجل‏,‏ بالجوار‏,‏ فجانب ساقها الأيسر التصق بجانبي الأيمن‏,‏ واستقر‏,‏ علي الرغم من تململي ومحاولتي التزحزح قليلا بمكان لايحتمل أية زحزحة أخري لالتصاقي بجدار النافذة‏,‏ بوقت كان يتوجب فيه تقديم كلمة اعتذار منها‏,‏ لكن‏..‏
جسدها كان مقيدا ومحتبسا في بوتقة شروده المتجمدة الغريبة‏.‏ مدت ذراعا بيد‏,‏ واسندتها علي ظهر المقعد المواجة لها‏.‏
لمحت أظافرها مقصوصة ودكناء‏,‏ أثناء تقدم رأسها لوضعه علي اليد‏,‏ وقد تنافرت بعض شعيرات من رأسها المعصوب بإيشارب أزرق‏.‏
دقيقة‏,‏ مر بذهني أن أسألها‏:‏ مالك؟‏..‏ لكني تراجعت‏,‏ إذ ضاقت بوضع رأسها هكذا‏,‏ مع إنحناء ظهرها‏,‏ فاعتدلت‏..‏ وعدلت أنا وجهي‏,‏ مفكرا فيما يمكن أن يقوله المرء لامرأة جثم عليها الصمت‏,‏ وأخرسه صمت أراوغه‏,‏ لازاحته عني‏,‏ صمت استغرقها‏,‏ وانطبق حتي علي الركاب‏..‏ لعل النوم أخذهم‏,‏ أو لعلهم يرددون‏,‏ في السر‏,‏ تعاويذ السفر من أجل سلامة الوصول‏,‏ فالعربة غادرت المدينة‏,‏ وتنغمر في عراء الصحراء الفسيح المغطي بشمس قائظة‏,‏ توسدت العربة‏,‏ وتخللت النافذة القريبة مني‏,‏ وحط شريط منها‏,‏ كالسهم‏,‏ علي وجه المرأة الساكن‏.‏
انتظرت أن تطلب مني إزاحة الستارة قليلا‏,‏ مع تيقني من تطرف عينيها وبربشة رموشها‏.‏ لكنها ظلت ساكنة‏,‏ ثابتة‏..‏ فسحبت الستارة لأمنع عنها شريط الشمس‏,‏ فيما أدير وجهي خفيفا نحوها لألمح تأثير مافعلت عليها‏,‏ لكنها أدارت وجهها قليلا شطر الجانب الآخر بتنهيدة طاردة‏,‏ لبعض وجه ثقيل جثم علي الصدر‏,‏ فتأكدت من فشل أية محاولة لادارة حديث متبادل يقلل من وطأة الملل‏.‏
من جانب رأسي أزحت الستارة‏,‏ بزعم مشاهدة الصحراء في القيظ‏,‏ منتظرا أن تنظر هي الأخري خلسة‏,‏ فأري وجهها منعكسا علي زجاج النافذة‏.‏
جامدة كانت‏,‏ كأن كل همها قد انحصر في جسدها المتثاقل الذي انحط علي المقعد بكتمانه الأسيان‏,‏ وكأن مايحتمله من جيشان آلامه المكتومة‏,‏ يفوق كثيرا مجرد شريط شمسي ساخن فاقم الزجاج من سخونته‏,‏ انسكب علي الوجه بمعرفة جار تافه يتلاعب بالستارة‏,‏ من أجل أن تنطق‏..‏
تبرمت متضجرة‏,‏ تبرما طافحا من الاعماق‏..‏ أدركت أنه لاعلاقه بالشمس‏,‏ أو الستارة‏,‏ أو بي‏..‏ لكنني‏,‏ عامدا‏,‏ اعتبرت التبرم ضيقا من شريط الشمس‏,‏ فسحبت الستارة نحوي لحجب الشمس‏,‏ كإعلان ضمني علي تعاطفي معها‏,‏ إلا أن راكب المقعد المواجة ظهره لي‏,‏ بدا تذمره من سحبه لطرف الستارة من جهته‏,‏ فإرتمي شريط الشمس علي وجهي وجزء من وجهها‏.‏
اغتظت وسحبت بشدة‏,‏ طرف الستارة نحوي‏.‏ استدار رأس الرجل‏,‏ نظر بجانب عين إلي‏,‏ وإليها‏,‏ معتقدا أنها معي‏,‏ فمنظرنا القاتم يوحي بأننا حزاني عائدان من مأتم‏,‏ أو ذاهبان لعزاء‏..‏ اعتذر الرجل بإيماءه رأس‏,‏ وأعيد إلي مكانه‏,‏ وانفثأغيظي‏.‏
عندئذ ألقت برأسها إلي الوراء‏,‏ علي مخدة ظهر المقعد‏,‏ كمن تغافل الصحو لاجتلاب النوم‏..‏ نوم عنيد‏,‏ مراوغ‏,‏ مثقل‏,‏ مسكون بهموم مرتعبة‏,‏ تستوطن الجسد‏.‏ نوم يجيء‏,‏ ويبتعد‏,‏ يلامسها دون أن يخطفها‏,‏ كأنما وخاصمت معه‏,‏ أجلت تعاطيه‏,‏ فجافاها بقسوة عناده‏,‏ رغم محاولة تمسكها به الآن‏,‏ واستعطافه لغزوها‏,‏ هد صمود صحوها‏,‏ فيما أستحلب صمتي المزعزع‏,‏ المقلقل برغبة تأمل وجهها المشتمل علي بؤس يصعب سبر غوره‏..‏ وجه مدور وبض‏,‏ خال من أي تلوين‏,‏ أسمر قليلا‏,‏ كعائش في عراء مستديم‏,‏ تناثرت عليه شعيرات خفيفة كزغب لم يعرف الندف‏..‏معصوب الرأس بإيشارب يطوق الجبهة حتي الحاجبين‏,‏ كفاقدة لعزيز توفي‏..‏ مزمومة الشفتين متعمدة يمازجها اختلال لوهن عارض‏..‏ اختلاجات عدم الرغبة بالصحو كانت واضحة علي الخدين‏.‏ كأن النوم يصارع‏,‏ خفية‏,‏ انتكاسات صحوها‏,‏ يأبي اختطافها لمتاعة سراديبه‏.‏ والتوحد بها‏,‏ هروبا من كآبة وحدتها التي رافقتها‏,‏ وصعدت بها العربة‏,‏ بلا حقائب‏,‏ أو حتي كيس يد‏,‏ فقط بجسدها المكسو بثوب يليق بامرأة في حالة حداد‏,‏ ألقت به‏,‏ وبثقل متاعبه داخل عربة راحت تشق بها الصحراء‏.‏
كأن رأسها مال علي الكتف قليلا‏,‏ مرتكنا بجانب‏,‏ وقد سلب النوم وعيها‏.‏ أدركت سطوته عليها من براءة طفولية يائسة منبثقة من الأعماق‏,‏ تلوح عليه‏,‏ جعلت الشفة السفلي تتهدل‏,‏ ترتخي‏,‏ لتبدو أسنانها مصفرة متباعدة‏,‏ تبعث انفاسا مقرونة بآهات مرتعدة‏,‏ تعلو وتخفت مع رائحة فم خاصم الطعام جوفه‏..‏ اختلاجات بالشفة‏,‏ بالخدين‏,‏ كانت تتوتر‏,‏ وتنسحب أحيانا علي البدن كله بارتعادات كهربية‏,‏ تقلقل ثقلة‏,‏ كمن تعاني من أوجاع حادة‏,‏ اركدها الصحو‏,‏ وأنعشها النوم الذي اخذها لسراديبه المدلهمة‏,‏ لتلهو بها كوابيس ملتبسة غشومة‏..‏
توقعت تفجر دموعها من ينبوع مكتوم بالوجع‏,‏ أو تقاطر لعابها فوق صدرها المحصن بثوب مقفل حد العنق بحزام دائري من نفس القماش‏,‏ دليل احتشامها ومواراة الجسد واحتباسه‏.‏ بما أسألها حين تصحو من نوم أصبح كوابيس تزلزل البدن؟‏..‏ مع احساسي أنه ينشد الصحو الآن‏..‏ عامدا حركت ذراعي‏,‏ بحذر وخفة‏,‏ لكزت كتفها بجانب كوعي‏.‏ انتفضت‏,‏ علي الفور مذعورة‏,‏ كالجائية توا من أغوار متاهة عنيفة‏,‏ انفرتها‏,‏ وأرجفتني‏.‏
والعربة تتهادي علي أسفلت استراحة منتصف الطريق‏,‏ قربت فمي من أذنها القريبة مني‏:‏
يامدام‏..‏ يامدام‏..‏
ليكتمل صحوها المنذعر‏..‏ شملها استغراب مابعد الافاقة‏..‏ تطلعت حولها كالناجية من مغامرة شرسة‏,‏ دون أن تنظر نحوي‏,‏ تساءلت مضطربة‏:‏
خلاص‏..‏ وصلنا‏..‏؟‏!‏
لم توجه السؤال لأحد‏,‏ فأجبت‏:‏
ساعة‏..‏ ونصل‏..‏ ممكن أمر‏..‏؟
أقامت البدن بعناء المجهد‏,‏ العائد لكابوس الصحو‏,‏ وبتؤدة المثقل بأحمال شروده‏,‏ سارت في الممر‏.‏ نزلت‏..‏ نزلت بعدها‏..‏ أشعلت سيجارة‏..‏ توارت بين عربات أخري تناثر ركابها‏,‏ واختفت‏..‏
صعدت‏,‏ وعيناي تجوسان أبدان الناس بحثا عنها‏,‏ بوقت ارتحال الشمس نحو أفق الصحراء‏..‏ ظهرت بوحدتها الغريبة المطوقة‏..‏ صعدت وبيدها باكو بسكويت صغير وعلبة عصير‏,‏ وماقعدت‏..‏ أخرجت قطعة من الباكو‏.‏ زجت بها في فم رفض الانفراج‏..‏ قضمتها بأسنان تمردت علي الحركة والمضغ‏.‏ لاكتها بآلية وهدوء خامل‏..‏ تبعتها بجرعة عصير‏..‏ ثم تهدلت اليدان بالباكو والعلبة علي حجرها‏,‏ وغابت عن الوجود دقيقة‏,‏ ثم أحنت جذعها‏.‏ ركنت الباكو والعلبة أسفل المقعد المقابل‏,‏ وأعتدلت‏,‏ فيما يواصل الفم تلويك القطعة‏,‏ كأن بوابة الحلق أوصدت بغصة‏..‏ أزحت الستارة‏;‏ لأشغل بالي بمنظر الصحراء المتخلفة بتقدم العربة‏,‏ وبقايا ضوء الشمس الغاربة من فوق قري ومزارع بدأت في الظهور علي مداخل المدينة البعيدة‏,‏ مع انتظاري‏,‏ بشوق‏,‏ لقدوم رائحة البحر التي تغمرني بالبهجة‏..‏ وإذا بصوتها المبحوح‏,‏ مضطربا يسألني‏:‏
حضرتك من الإسكندرية‏..‏؟
نعم‏..‏ من الإسكندرية‏..‏
تعرف واحد هناك اسمه أبو علفة‏..‏؟
سؤال غريب مباغت‏,‏ فكرت فيه بنية ملتوية‏.‏
أبو علفة‏..‏؟‏!..‏ لماذا أبو علفة بالذات؟
لأن أخي راح ينتظرني قدامه‏..‏ هو قال لي هذا‏..‏
قال لك أبو علفة‏..‏؟‏!‏
نعم‏..‏ قال لي هذا في التليفون‏..‏ أبو علفة‏...‏
لكن في منطقة؟‏..‏
الإسكندرية واسعة‏..‏ أخوك قال لك‏(‏ أبو علفة‏)‏ دون أن يعطيك عنوانا‏.‏؟‏!‏
أنا لا أعرف‏..‏ وأول مرة أجيء فيها الإسكندرية‏..‏ لكن أخي قال لي يوجد واحد اسمه‏(‏ أبو علفة‏),‏ مشهور‏..‏ انتظريني قدامه‏..‏ أخي عايش في الإسكندرية من زمان‏,‏ ويعرفه‏..‏ قال في التليفون‏,‏ اسألي‏,‏ وألف واحد راح يدلك علي مكانه‏..‏
كنت أعبر بنظري وجهها الذي تفاقم قلقه بالشرود‏.‏ سألتها‏:‏
في أي منطقة يسكن أخوك؟
منطقة اسمها أبو خروف‏..‏
أبو خروف‏..‏ آه ه ه‏..‏ أبو خروف‏..‏ آه‏..!!‏
هو متزوج‏,‏ وعايش فيها من زمان‏..‏
لكن أبو خروف‏,‏ هذا‏,‏ في قلب العصافرة‏..‏؟‏!‏
لاح بذهني‏,‏ وبسرعة البرق‏,‏ مطعم أبو علفة المواجه للبحر‏.‏
تقصدي مطعم أبو علفة‏..‏؟
أخي لم يقل لي في التليفون أنه مطعم‏..!!‏
قالت وشردت قليلا‏,‏ ثم غمغمت بحنق مكتوم‏:‏ أنا عارفة‏,‏ لماذا لم يقل لي مطعم‏..!!‏
لماذا‏..‏؟
أكيد خائف من زوجته‏..(‏ العقربة‏)..‏
لك أقارب غيره في الإسكندرية‏..‏؟
أبدا‏..‏ هو كل أقاربي‏..‏ طول عمري عايشة في بولاق‏..‏ لكن لماذا لم يقل لي مطعم أبو علفة؟‏!‏
‏..‏ وقال لي‏,‏ فقط‏,‏ انتظريني قدام أبو علفة‏..‏ لو تأخرت‏,‏ لازم أجيء لأخذك‏..!‏؟
تنتظرينه بالليل هكذا‏,‏ كان بالنهار أفضل لتتعرفي عليه ويتعرف هو عليك‏.‏
لا يهم بالليل أو بالنهار‏..‏ راح أعرفه ويعرفني‏..‏ المهم يجيء
هو ممكن لا يجيء‏..‏؟‏!‏
طبعا ممكن‏..‏ وهذا ما أخافه‏,‏ ممكن المرأة العقربة تمنعه‏.‏
تمنعه من أخذ أخته‏..‏؟‏!‏
والحزن يطفو من الأعماق‏'‏ ليغشي العيون بالدمع‏,‏ ينكس الرأس بجرح خفي‏..‏ غمغمت‏:‏
نعم‏..‏ لأني نويت أقيم معهم‏..‏
آه ه‏..‏ وأين كنت تقيمين من قبل‏..‏؟
تهدج صوتها بغصة الدمع‏:‏
كنت متزوجة لغاية أول أمس‏..‏ وزوجي النذل طلقني أمس‏,‏ بعد خمس سنين زواج‏..‏
أمس‏.‏؟‏!‏
نعم‏..‏ تركت له الغرفة‏,‏ والعفش‏,‏ وخرجت بفستاني‏...‏
هززت رأسي المستغرب‏,‏ وهي تواصل‏:‏
رجل صايع‏,‏ ضايع‏..‏ عاطل‏,‏ قليل الأدب‏,‏ مرافق ستات‏..‏ يتعارك معي دائما بحجة عدم‏(‏ الخلفة‏),‏ مع إن العيب منه‏..‏
فيما يضغطني صمت ثقيل مربك‏..‏ صمت انتقل اليها‏,‏ زعزع شرودها لدقيقة‏..‏ سألتني بعدها‏:‏
تعرف ماذا أركب لأذهب إلي أبو علفة‏..‏؟
أعرف طبعا‏..‏ لكن أفرضي أخوك لم يجيء‏..‏؟
علي صمت حائر‏,‏ زاغت عيناها‏,‏ كاتمة الدمع‏,‏ بحثا عن أمل تتعلق به‏,‏ فيما أواصل اسئلتي‏:‏
ماذا يعمل أخوك‏..‏؟
مبيض محارة‏..‏ المتعوس زوجي‏,‏ أيضا‏,‏ مبيض محارة‏..‏ كان الليل المبقع بالأضواء الملونة‏,‏ الليل الخاوي من رائحة البحر المبهجة‏,‏ قد غلف وسط المدينة‏..‏ قلت‏,‏ وهي تجاورني المسير‏,‏ بتمهل المتوجس‏,‏ نحو عربات النقل بالنفر المتجهة عن طريق البحر لمناطق شرق‏,‏ ميامي‏,‏ والمندرة‏,‏ والعصافرة‏:‏
لكن المشوار بين منطقة أبو خروف ومطعم أبو علفة‏,‏ علي البحر‏,‏ طويل جدا‏..!‏
لم تأبه لاستغرابي‏,‏ لقلق جعلها تقول‏:‏
أفرض أخي لم يجيء‏,‏ وسمع كلام امرأته‏..‏؟
كانت تصعد عربة فارغة‏,‏ وجلست‏..‏ وأنا وقفت إلي جانب النافذة من الخارج‏,‏ قلت ببساطة‏:‏
طبعا ترجعي لأهلك في القاهرة‏..‏
أهلي‏..!‏؟؟ يا ليت أعرف لهم سكة ضاعوا من زمان‏,‏ انفصلوا ونحن عيال صغار‏,‏ أنا وأخي‏.‏
لم أجد ما أنطق به‏,‏ وهي ترجوني‏:‏
ممكن تتكرم وتجد لي شغلانة أعيش منها؟
فكرت‏,‏ أين يمكن أن تعمل‏,‏ وأين تنام‏,‏ امرأة مثلها‏..‏؟ لم أجد ردا ينجيني من ربكتي غير إعطائها رقم تليفوني المحمول‏..‏ دونته لها علي وريقة صغيرة بحجم الإصبع‏,‏ اقتطعتها من جانب غلاف علبة سجائري‏,‏ متوقعا أنها سوف تفقدها‏,‏ حتما‏,‏ فقد وضعتها‏,‏ بلا اهتمام‏,‏ بين أصبع السبابة والإبهام‏,‏ وأمسكت‏,‏ بنفس اليد‏,‏ إفريز النافذة‏,‏ إذ لم يكن معها تليفون‏..‏ وعند إكتمال عدد الركاب‏,‏ استدارت العربة لتغادر الموقف‏..‏ رفعت اليد من فوق الإفريز‏,‏ ولوحت لي بها‏;‏ فرفعت لها ذراعي ملوحا‏,‏ مع تأكدي من طيران الوريقة منها‏..‏ شغلني زحام السوق‏.‏ هرولت نحو أحد دكاكين البقالة‏..‏ ابتعت طعاما للعشاء‏..‏ ركبت إحدي عربات النقل بالنفر المتجهة صوب غرب المدينة حيث مسكني‏..‏
بعد ساعة‏,‏ أو أقل‏,‏ والعربة تغوص في متاهات شوارع الورديان والقباري‏..‏ رن تليفوني‏..‏ رقما غريبا كان‏..‏ تجاهلته‏,‏ لكنه رن مرة أخري‏..‏ فتحته‏;‏ ليخترق صوتها المجهد الشغوب أذني‏..‏ صوتها المختنق بالبكاء‏,‏ يستنجد‏:‏
تصدق حضرتك‏..‏ أخي لحد الآن لم يجيء‏...‏
أربكتني حتي الضجر‏..‏ قلت‏:‏
انتظري قليلا‏..‏ ربما يجيء اصبري‏..‏ اطلبي ثانية‏..‏
كيف أصبر حضرتك‏..‏ لي نصف ساعة اتصل به‏,‏ ولا يرد‏..‏؟‏!‏
علي رغمي‏,‏ وبربكتي‏..‏ أقفلت الخط‏....‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.