وكيل زراعة بني سويف يتفقد مطحن بوهلر لمتابعة أعمال توريد القمح    محافظ الغربية يتابع الأعمال الجارية بمشروع محطة إنتاج البيض    وزير الإسكان: استرداد مساحة 17990 مترًا بالسويس الجديدة..وقرار بإزالة مخالفات بناء ببني سويف    ننشر حركة تداول السفن والحاويات في ميناء دمياط    مباحثات قطرية تركية تتناول أوضاع غزة على وقع التطورات في رفح    مصادر: إخلاء معبر رفح الفلسطيني من الشاحنات    باحث فلسطيني: صواريخ حماس على كرم أبو سالم عجّلت بعملية رفح الفلسطينية    كالتشيو ميركاتو: لاعب روما مهدد بالإيقاف بسبب التقاط الكاميرات تلفظه بعبارات غير لائقة أمام يوفنتوس    سكاي: بايرن يدرس التعاقد مع تين هاج    غرق طفل في مياه النيل بأسوان    بدءا من الأربعاء.. 6 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بروض الفرج    ختام فعاليات المؤتمر الرابع لجراحة العظام بطب قنا    الدفاع الروسية: إسقاط مقاتلة سو-27 وتدمير 5 زوارق مسيرة تابعة للقوات الأوكرانية    حبس المتهمة بقتل زوجها بسبب إقامة والده معها في الإسكندرية    وزير الشباب يشهد "المعسكر المجمع" لأبناء المحافظات الحدودية بمطروح    مصر تحقق الميدالية الذهبية فى بطولة الجائزة الكبرى للسيف بكوريا    «الصحة»: إجراء 4095 عملية رمد متنوعة ضمن مبادرة إنهاء قوائم الانتظار    5 ملفات تصدرت زيارة وفد العاملين بالنيابات والمحاكم إلى أنقرة    زيادة قوائم المُحكمين.. تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    «التنمية المحلية»: مبادرة «صوتك مسموع» تلقت 798 ألف شكوى منذ انطلاقها    برلماني يطالب بزيادة مخصصات المشروعات و الإنشاءات في موازنة وزارة الصحة    استياء في الزمالك بعد المشاركة الأولى للصفقة الجديدة    طارق العشرى يُخطط لمفاجأة الأهلي في مواجهة الثلاثاء    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    "دور المرأة في بناء الوعي".. موعد ومحاور المؤتمر الدول الأول للواعظات    النادي الاجتماعي بالغردقة يستقبل 9 آلاف زائر خلال شم النسيم والاستعانة ب 25 منقذًا    على مائدة إفطار.. البابا تواضروس يلتقي أحبار الكنيسة في دير السريان (صور)    إيرادات علي ربيع تتراجع في دور العرض.. تعرف على إيرادات فيلم ع الماشي    "كبير عائلة ياسين مع السلامة".. رانيا محمود ياسين تنعى شقيق والدها    في ذكرى ميلادها.. محطات فنية بحياة ماجدة الصباحي (فيديو)    لماذا يتناول المصريون السمك المملح والبصل في شم النسيم؟.. أسباب أحدها عقائدي    مفاجأة.. فيلم نادر للفنان عمر الشريف في مهرجان الغردقة لسينما الشباب    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    «يأتي حاملًا البهجة والأمل».. انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري ب«شم النسيم»    الرئيس الصيني: نعتبر أوروبا شريكًا وتمثل أولوية في سياستنا الخارجية    تضر بصحتك- أطعمة ومشروبات لا يجب تناولها مع الفسيخ    بالليمون والعيش المحمص.. طريقة عمل فتة الرنجة مع الشيف سارة سمير    7 نصائح مهمة عند تناول الفسيخ والرنجة.. وتحذير من المشروبات الغازية    الشرطة الأمريكية تقتل مريضًا نفسيًا بالرصاص    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    رئيس مدينة مطاي يتفقد سير العمل بمعدية الشيخ حسن    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    فنان العرب في أزمة.. قصة إصابة محمد عبده بمرض السرطان وتلقيه العلاج بفرنسا    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    إصابة أب ونجله في مشاجرة بالشرقية    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    رئيس لجنة الدينية بمجلس النواب: طلب المدد من ال البيت أمر شرعي    الأوقاف تحدد رابط للإبلاغ عن مخالفات صناديق التبرعات في المساجد    مفاضلة بين زيزو وعاشور وعبد المنعم.. من ينضم في القائمة النهائية للأولمبياد من الثلاثي؟    الدخول ب5 جنيه.. استعدادات حديقة الأسماك لاستقبال المواطنين في يوم شم النسيم    بالصور.. الأمطار تتساقط على كفر الشيخ في ليلة شم النسيم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    دقة 50 ميجابيكسل.. فيفو تطلق هاتفها الذكي iQOO Z9 Turbo الجديد    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قص الجناح
بقلم : أحمد محمد حميدة
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 01 - 2010

تري من سيجئ الآن ويجلس بجواري؟ سؤال مر بذهني اثناء قعودي إلي جانب نافذة الاتوبيس المنتظر قيامه إلي الاسكندرية‏,‏ بعد اكتمال عدد ركابه الذين كانوا يتوافدون علي فترات متباعده‏,‏ يمرون عبر الممر الضيق‏.. وضعت حقيبتي علي ركبتي‏,‏ لأستند عليها عند اختلال رأسي‏,‏ والتباسه بالهزهزة‏,‏ القلقلة‏,‏ والغفوات‏,‏ بينما السؤال يعبر ذهني‏..‏ من سيأتي ويشغل المقعد المجاور؟‏..‏ بينما تصعد جسوم ركاب‏,‏ وتتوغل إلي الداخل الخلفي‏,‏ متجاوزة المقعد‏,‏ تحت ترقبي بالتوقع‏,‏ اقتراب أحد‏,‏ في كل مرة لملء فراغه‏,‏ مشاطرتي الرحلة‏.‏
جاءت هي‏..‏ امرأة مكتملة الأنوثة تبحر فيما بين الثلاثين والأربعين من العمر‏,‏ بخطو وئيد‏,‏ متثاقل‏,‏ ثابت‏,‏ قائمة هامة البدن كالمنومة‏..‏ توجهت رأسا إلي المقعد‏,‏ دون النظر إلي مقعد آخر من تلك المقاعد الخاوية بالخلف‏,‏ بل حطت جسدها بارتماء‏,‏ كمن تحط ثقلا أتعبها مداومة حمله طوال رحلة مضنية سابقة‏,‏ عادت منها توا‏..‏
منهكة قعدت‏,‏ مكتومة‏,‏ بلا سؤال‏,‏ وأو تحية‏,‏ باعتبارها راكبة ستجاورني طوال فترة سفر‏,‏ فقط تنهيدة قاسية انطلقت‏,‏ بغتة من الاعماق‏,‏ ثم صمت شبه قاهر لفها‏,‏ استغرقها بشرود مهيمن‏,‏ وارتخت له اليدان علي حجر ثوبها الأسود الطويل المتسع‏,‏ بترولي الصنع‏.‏
شعرت بامتلاء جسدها من طريقة انهباده غير المكترث لوجود راكب‏,‏ رجل‏,‏ بالجوار‏,‏ فجانب ساقها الأيسر التصق بجانبي الأيمن‏,‏ واستقر‏,‏ علي الرغم من تململي ومحاولتي التزحزح قليلا بمكان لايحتمل أية زحزحة أخري لالتصاقي بجدار النافذة‏,‏ بوقت كان يتوجب فيه تقديم كلمة اعتذار منها‏,‏ لكن‏..‏
جسدها كان مقيدا ومحتبسا في بوتقة شروده المتجمدة الغريبة‏.‏ مدت ذراعا بيد‏,‏ واسندتها علي ظهر المقعد المواجة لها‏.‏
لمحت أظافرها مقصوصة ودكناء‏,‏ أثناء تقدم رأسها لوضعه علي اليد‏,‏ وقد تنافرت بعض شعيرات من رأسها المعصوب بإيشارب أزرق‏.‏
دقيقة‏,‏ مر بذهني أن أسألها‏:‏ مالك؟‏..‏ لكني تراجعت‏,‏ إذ ضاقت بوضع رأسها هكذا‏,‏ مع إنحناء ظهرها‏,‏ فاعتدلت‏..‏ وعدلت أنا وجهي‏,‏ مفكرا فيما يمكن أن يقوله المرء لامرأة جثم عليها الصمت‏,‏ وأخرسه صمت أراوغه‏,‏ لازاحته عني‏,‏ صمت استغرقها‏,‏ وانطبق حتي علي الركاب‏..‏ لعل النوم أخذهم‏,‏ أو لعلهم يرددون‏,‏ في السر‏,‏ تعاويذ السفر من أجل سلامة الوصول‏,‏ فالعربة غادرت المدينة‏,‏ وتنغمر في عراء الصحراء الفسيح المغطي بشمس قائظة‏,‏ توسدت العربة‏,‏ وتخللت النافذة القريبة مني‏,‏ وحط شريط منها‏,‏ كالسهم‏,‏ علي وجه المرأة الساكن‏.‏
انتظرت أن تطلب مني إزاحة الستارة قليلا‏,‏ مع تيقني من تطرف عينيها وبربشة رموشها‏.‏ لكنها ظلت ساكنة‏,‏ ثابتة‏..‏ فسحبت الستارة لأمنع عنها شريط الشمس‏,‏ فيما أدير وجهي خفيفا نحوها لألمح تأثير مافعلت عليها‏,‏ لكنها أدارت وجهها قليلا شطر الجانب الآخر بتنهيدة طاردة‏,‏ لبعض وجه ثقيل جثم علي الصدر‏,‏ فتأكدت من فشل أية محاولة لادارة حديث متبادل يقلل من وطأة الملل‏.‏
من جانب رأسي أزحت الستارة‏,‏ بزعم مشاهدة الصحراء في القيظ‏,‏ منتظرا أن تنظر هي الأخري خلسة‏,‏ فأري وجهها منعكسا علي زجاج النافذة‏.‏
جامدة كانت‏,‏ كأن كل همها قد انحصر في جسدها المتثاقل الذي انحط علي المقعد بكتمانه الأسيان‏,‏ وكأن مايحتمله من جيشان آلامه المكتومة‏,‏ يفوق كثيرا مجرد شريط شمسي ساخن فاقم الزجاج من سخونته‏,‏ انسكب علي الوجه بمعرفة جار تافه يتلاعب بالستارة‏,‏ من أجل أن تنطق‏..‏
تبرمت متضجرة‏,‏ تبرما طافحا من الاعماق‏..‏ أدركت أنه لاعلاقه بالشمس‏,‏ أو الستارة‏,‏ أو بي‏..‏ لكنني‏,‏ عامدا‏,‏ اعتبرت التبرم ضيقا من شريط الشمس‏,‏ فسحبت الستارة نحوي لحجب الشمس‏,‏ كإعلان ضمني علي تعاطفي معها‏,‏ إلا أن راكب المقعد المواجة ظهره لي‏,‏ بدا تذمره من سحبه لطرف الستارة من جهته‏,‏ فإرتمي شريط الشمس علي وجهي وجزء من وجهها‏.‏
اغتظت وسحبت بشدة‏,‏ طرف الستارة نحوي‏.‏ استدار رأس الرجل‏,‏ نظر بجانب عين إلي‏,‏ وإليها‏,‏ معتقدا أنها معي‏,‏ فمنظرنا القاتم يوحي بأننا حزاني عائدان من مأتم‏,‏ أو ذاهبان لعزاء‏..‏ اعتذر الرجل بإيماءه رأس‏,‏ وأعيد إلي مكانه‏,‏ وانفثأغيظي‏.‏
عندئذ ألقت برأسها إلي الوراء‏,‏ علي مخدة ظهر المقعد‏,‏ كمن تغافل الصحو لاجتلاب النوم‏..‏ نوم عنيد‏,‏ مراوغ‏,‏ مثقل‏,‏ مسكون بهموم مرتعبة‏,‏ تستوطن الجسد‏.‏ نوم يجيء‏,‏ ويبتعد‏,‏ يلامسها دون أن يخطفها‏,‏ كأنما وخاصمت معه‏,‏ أجلت تعاطيه‏,‏ فجافاها بقسوة عناده‏,‏ رغم محاولة تمسكها به الآن‏,‏ واستعطافه لغزوها‏,‏ هد صمود صحوها‏,‏ فيما أستحلب صمتي المزعزع‏,‏ المقلقل برغبة تأمل وجهها المشتمل علي بؤس يصعب سبر غوره‏..‏ وجه مدور وبض‏,‏ خال من أي تلوين‏,‏ أسمر قليلا‏,‏ كعائش في عراء مستديم‏,‏ تناثرت عليه شعيرات خفيفة كزغب لم يعرف الندف‏..‏معصوب الرأس بإيشارب يطوق الجبهة حتي الحاجبين‏,‏ كفاقدة لعزيز توفي‏..‏ مزمومة الشفتين متعمدة يمازجها اختلال لوهن عارض‏..‏ اختلاجات عدم الرغبة بالصحو كانت واضحة علي الخدين‏.‏ كأن النوم يصارع‏,‏ خفية‏,‏ انتكاسات صحوها‏,‏ يأبي اختطافها لمتاعة سراديبه‏.‏ والتوحد بها‏,‏ هروبا من كآبة وحدتها التي رافقتها‏,‏ وصعدت بها العربة‏,‏ بلا حقائب‏,‏ أو حتي كيس يد‏,‏ فقط بجسدها المكسو بثوب يليق بامرأة في حالة حداد‏,‏ ألقت به‏,‏ وبثقل متاعبه داخل عربة راحت تشق بها الصحراء‏.‏
كأن رأسها مال علي الكتف قليلا‏,‏ مرتكنا بجانب‏,‏ وقد سلب النوم وعيها‏.‏ أدركت سطوته عليها من براءة طفولية يائسة منبثقة من الأعماق‏,‏ تلوح عليه‏,‏ جعلت الشفة السفلي تتهدل‏,‏ ترتخي‏,‏ لتبدو أسنانها مصفرة متباعدة‏,‏ تبعث انفاسا مقرونة بآهات مرتعدة‏,‏ تعلو وتخفت مع رائحة فم خاصم الطعام جوفه‏..‏ اختلاجات بالشفة‏,‏ بالخدين‏,‏ كانت تتوتر‏,‏ وتنسحب أحيانا علي البدن كله بارتعادات كهربية‏,‏ تقلقل ثقلة‏,‏ كمن تعاني من أوجاع حادة‏,‏ اركدها الصحو‏,‏ وأنعشها النوم الذي اخذها لسراديبه المدلهمة‏,‏ لتلهو بها كوابيس ملتبسة غشومة‏..‏
توقعت تفجر دموعها من ينبوع مكتوم بالوجع‏,‏ أو تقاطر لعابها فوق صدرها المحصن بثوب مقفل حد العنق بحزام دائري من نفس القماش‏,‏ دليل احتشامها ومواراة الجسد واحتباسه‏.‏ بما أسألها حين تصحو من نوم أصبح كوابيس تزلزل البدن؟‏..‏ مع احساسي أنه ينشد الصحو الآن‏..‏ عامدا حركت ذراعي‏,‏ بحذر وخفة‏,‏ لكزت كتفها بجانب كوعي‏.‏ انتفضت‏,‏ علي الفور مذعورة‏,‏ كالجائية توا من أغوار متاهة عنيفة‏,‏ انفرتها‏,‏ وأرجفتني‏.‏
والعربة تتهادي علي أسفلت استراحة منتصف الطريق‏,‏ قربت فمي من أذنها القريبة مني‏:‏
يامدام‏..‏ يامدام‏..‏
ليكتمل صحوها المنذعر‏..‏ شملها استغراب مابعد الافاقة‏..‏ تطلعت حولها كالناجية من مغامرة شرسة‏,‏ دون أن تنظر نحوي‏,‏ تساءلت مضطربة‏:‏
خلاص‏..‏ وصلنا‏..‏؟‏!‏
لم توجه السؤال لأحد‏,‏ فأجبت‏:‏
ساعة‏..‏ ونصل‏..‏ ممكن أمر‏..‏؟
أقامت البدن بعناء المجهد‏,‏ العائد لكابوس الصحو‏,‏ وبتؤدة المثقل بأحمال شروده‏,‏ سارت في الممر‏.‏ نزلت‏..‏ نزلت بعدها‏..‏ أشعلت سيجارة‏..‏ توارت بين عربات أخري تناثر ركابها‏,‏ واختفت‏..‏
صعدت‏,‏ وعيناي تجوسان أبدان الناس بحثا عنها‏,‏ بوقت ارتحال الشمس نحو أفق الصحراء‏..‏ ظهرت بوحدتها الغريبة المطوقة‏..‏ صعدت وبيدها باكو بسكويت صغير وعلبة عصير‏,‏ وماقعدت‏..‏ أخرجت قطعة من الباكو‏.‏ زجت بها في فم رفض الانفراج‏..‏ قضمتها بأسنان تمردت علي الحركة والمضغ‏.‏ لاكتها بآلية وهدوء خامل‏..‏ تبعتها بجرعة عصير‏..‏ ثم تهدلت اليدان بالباكو والعلبة علي حجرها‏,‏ وغابت عن الوجود دقيقة‏,‏ ثم أحنت جذعها‏.‏ ركنت الباكو والعلبة أسفل المقعد المقابل‏,‏ وأعتدلت‏,‏ فيما يواصل الفم تلويك القطعة‏,‏ كأن بوابة الحلق أوصدت بغصة‏..‏ أزحت الستارة‏;‏ لأشغل بالي بمنظر الصحراء المتخلفة بتقدم العربة‏,‏ وبقايا ضوء الشمس الغاربة من فوق قري ومزارع بدأت في الظهور علي مداخل المدينة البعيدة‏,‏ مع انتظاري‏,‏ بشوق‏,‏ لقدوم رائحة البحر التي تغمرني بالبهجة‏..‏ وإذا بصوتها المبحوح‏,‏ مضطربا يسألني‏:‏
حضرتك من الإسكندرية‏..‏؟
نعم‏..‏ من الإسكندرية‏..‏
تعرف واحد هناك اسمه أبو علفة‏..‏؟
سؤال غريب مباغت‏,‏ فكرت فيه بنية ملتوية‏.‏
أبو علفة‏..‏؟‏!..‏ لماذا أبو علفة بالذات؟
لأن أخي راح ينتظرني قدامه‏..‏ هو قال لي هذا‏..‏
قال لك أبو علفة‏..‏؟‏!‏
نعم‏..‏ قال لي هذا في التليفون‏..‏ أبو علفة‏...‏
لكن في منطقة؟‏..‏
الإسكندرية واسعة‏..‏ أخوك قال لك‏(‏ أبو علفة‏)‏ دون أن يعطيك عنوانا‏.‏؟‏!‏
أنا لا أعرف‏..‏ وأول مرة أجيء فيها الإسكندرية‏..‏ لكن أخي قال لي يوجد واحد اسمه‏(‏ أبو علفة‏),‏ مشهور‏..‏ انتظريني قدامه‏..‏ أخي عايش في الإسكندرية من زمان‏,‏ ويعرفه‏..‏ قال في التليفون‏,‏ اسألي‏,‏ وألف واحد راح يدلك علي مكانه‏..‏
كنت أعبر بنظري وجهها الذي تفاقم قلقه بالشرود‏.‏ سألتها‏:‏
في أي منطقة يسكن أخوك؟
منطقة اسمها أبو خروف‏..‏
أبو خروف‏..‏ آه ه ه‏..‏ أبو خروف‏..‏ آه‏..!!‏
هو متزوج‏,‏ وعايش فيها من زمان‏..‏
لكن أبو خروف‏,‏ هذا‏,‏ في قلب العصافرة‏..‏؟‏!‏
لاح بذهني‏,‏ وبسرعة البرق‏,‏ مطعم أبو علفة المواجه للبحر‏.‏
تقصدي مطعم أبو علفة‏..‏؟
أخي لم يقل لي في التليفون أنه مطعم‏..!!‏
قالت وشردت قليلا‏,‏ ثم غمغمت بحنق مكتوم‏:‏ أنا عارفة‏,‏ لماذا لم يقل لي مطعم‏..!!‏
لماذا‏..‏؟
أكيد خائف من زوجته‏..(‏ العقربة‏)..‏
لك أقارب غيره في الإسكندرية‏..‏؟
أبدا‏..‏ هو كل أقاربي‏..‏ طول عمري عايشة في بولاق‏..‏ لكن لماذا لم يقل لي مطعم أبو علفة؟‏!‏
‏..‏ وقال لي‏,‏ فقط‏,‏ انتظريني قدام أبو علفة‏..‏ لو تأخرت‏,‏ لازم أجيء لأخذك‏..!‏؟
تنتظرينه بالليل هكذا‏,‏ كان بالنهار أفضل لتتعرفي عليه ويتعرف هو عليك‏.‏
لا يهم بالليل أو بالنهار‏..‏ راح أعرفه ويعرفني‏..‏ المهم يجيء
هو ممكن لا يجيء‏..‏؟‏!‏
طبعا ممكن‏..‏ وهذا ما أخافه‏,‏ ممكن المرأة العقربة تمنعه‏.‏
تمنعه من أخذ أخته‏..‏؟‏!‏
والحزن يطفو من الأعماق‏'‏ ليغشي العيون بالدمع‏,‏ ينكس الرأس بجرح خفي‏..‏ غمغمت‏:‏
نعم‏..‏ لأني نويت أقيم معهم‏..‏
آه ه‏..‏ وأين كنت تقيمين من قبل‏..‏؟
تهدج صوتها بغصة الدمع‏:‏
كنت متزوجة لغاية أول أمس‏..‏ وزوجي النذل طلقني أمس‏,‏ بعد خمس سنين زواج‏..‏
أمس‏.‏؟‏!‏
نعم‏..‏ تركت له الغرفة‏,‏ والعفش‏,‏ وخرجت بفستاني‏...‏
هززت رأسي المستغرب‏,‏ وهي تواصل‏:‏
رجل صايع‏,‏ ضايع‏..‏ عاطل‏,‏ قليل الأدب‏,‏ مرافق ستات‏..‏ يتعارك معي دائما بحجة عدم‏(‏ الخلفة‏),‏ مع إن العيب منه‏..‏
فيما يضغطني صمت ثقيل مربك‏..‏ صمت انتقل اليها‏,‏ زعزع شرودها لدقيقة‏..‏ سألتني بعدها‏:‏
تعرف ماذا أركب لأذهب إلي أبو علفة‏..‏؟
أعرف طبعا‏..‏ لكن أفرضي أخوك لم يجيء‏..‏؟
علي صمت حائر‏,‏ زاغت عيناها‏,‏ كاتمة الدمع‏,‏ بحثا عن أمل تتعلق به‏,‏ فيما أواصل اسئلتي‏:‏
ماذا يعمل أخوك‏..‏؟
مبيض محارة‏..‏ المتعوس زوجي‏,‏ أيضا‏,‏ مبيض محارة‏..‏ كان الليل المبقع بالأضواء الملونة‏,‏ الليل الخاوي من رائحة البحر المبهجة‏,‏ قد غلف وسط المدينة‏..‏ قلت‏,‏ وهي تجاورني المسير‏,‏ بتمهل المتوجس‏,‏ نحو عربات النقل بالنفر المتجهة عن طريق البحر لمناطق شرق‏,‏ ميامي‏,‏ والمندرة‏,‏ والعصافرة‏:‏
لكن المشوار بين منطقة أبو خروف ومطعم أبو علفة‏,‏ علي البحر‏,‏ طويل جدا‏..!‏
لم تأبه لاستغرابي‏,‏ لقلق جعلها تقول‏:‏
أفرض أخي لم يجيء‏,‏ وسمع كلام امرأته‏..‏؟
كانت تصعد عربة فارغة‏,‏ وجلست‏..‏ وأنا وقفت إلي جانب النافذة من الخارج‏,‏ قلت ببساطة‏:‏
طبعا ترجعي لأهلك في القاهرة‏..‏
أهلي‏..!‏؟؟ يا ليت أعرف لهم سكة ضاعوا من زمان‏,‏ انفصلوا ونحن عيال صغار‏,‏ أنا وأخي‏.‏
لم أجد ما أنطق به‏,‏ وهي ترجوني‏:‏
ممكن تتكرم وتجد لي شغلانة أعيش منها؟
فكرت‏,‏ أين يمكن أن تعمل‏,‏ وأين تنام‏,‏ امرأة مثلها‏..‏؟ لم أجد ردا ينجيني من ربكتي غير إعطائها رقم تليفوني المحمول‏..‏ دونته لها علي وريقة صغيرة بحجم الإصبع‏,‏ اقتطعتها من جانب غلاف علبة سجائري‏,‏ متوقعا أنها سوف تفقدها‏,‏ حتما‏,‏ فقد وضعتها‏,‏ بلا اهتمام‏,‏ بين أصبع السبابة والإبهام‏,‏ وأمسكت‏,‏ بنفس اليد‏,‏ إفريز النافذة‏,‏ إذ لم يكن معها تليفون‏..‏ وعند إكتمال عدد الركاب‏,‏ استدارت العربة لتغادر الموقف‏..‏ رفعت اليد من فوق الإفريز‏,‏ ولوحت لي بها‏;‏ فرفعت لها ذراعي ملوحا‏,‏ مع تأكدي من طيران الوريقة منها‏..‏ شغلني زحام السوق‏.‏ هرولت نحو أحد دكاكين البقالة‏..‏ ابتعت طعاما للعشاء‏..‏ ركبت إحدي عربات النقل بالنفر المتجهة صوب غرب المدينة حيث مسكني‏..‏
بعد ساعة‏,‏ أو أقل‏,‏ والعربة تغوص في متاهات شوارع الورديان والقباري‏..‏ رن تليفوني‏..‏ رقما غريبا كان‏..‏ تجاهلته‏,‏ لكنه رن مرة أخري‏..‏ فتحته‏;‏ ليخترق صوتها المجهد الشغوب أذني‏..‏ صوتها المختنق بالبكاء‏,‏ يستنجد‏:‏
تصدق حضرتك‏..‏ أخي لحد الآن لم يجيء‏...‏
أربكتني حتي الضجر‏..‏ قلت‏:‏
انتظري قليلا‏..‏ ربما يجيء اصبري‏..‏ اطلبي ثانية‏..‏
كيف أصبر حضرتك‏..‏ لي نصف ساعة اتصل به‏,‏ ولا يرد‏..‏؟‏!‏
علي رغمي‏,‏ وبربكتي‏..‏ أقفلت الخط‏....‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.