ارتفاع أسعار الذهب عالميًا اليوم الخميس 14-8-2025    أسعار الأسماك والخضراوات والدواجن اليوم 14 أغسطس    تحرك الدفعة ال 15 من شاحنات المساعدات المصرية لغزة عبر معبر كرم أبو سالم    شكك في أسس الدين الإسلامي، السجن 5 سنوات لزعيم الطائفة البهائية في قطر    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 14 أغسطس 2025    500 مليون جنيه لتمويل المشروعات متناهية الصغر بالمحافظات    التايمز: بريطانيا تتخلى عن فكرة نشر قوات عسكرية فى أوكرانيا    بسبب انتشار حرائق اليونان.. اشتعال مئات المركبات    شقيقة زعيم كوريا الشمالية تنفي إزالة مكبرات الصوت على الحدود وتنتقد آمال سيول باستئناف الحوار    سموتريتش يعطى الضوء الأخضر لبناء 3400 وحدة استيطانية    تفاصيل القبض على «أم ملك وأحمد» صانعة المحتوى    ياسين السقا يروي كواليس لقائه الأول مع محمد صلاح وأول تواصل بينهم    أدعية مستجابة للأحبة وقت الفجر    طريقة عمل مكرونة بالبشاميل، لسفرة غداء مميزة    أروى جودة تطلب الدعاء لابن شقيقتها بعد تعرضه لحادث سير خطير    موعد مباراة بيراميدز والإسماعيلي اليوم والقنوات الناقلة في الدوري المصري    الأحزاب السياسية تواصل استعداداتها لانتخابات «النواب» خلال أسابيع    درجة الحرارة تصل ل49.. حالة الطقس اليوم وغدًا وموعد انتهاء الموجة الحارة    أزمة نفسية تدفع فتاة لإنهاء حياتها بحبة الغلة في العياط    الاَن.. رابط تقليل الاغتراب 2025 لطلاب تنسيق المرحلة الأولى والثانية (الشروط وطرق التحويل بين الكليات)    باريس سان جيرمان بطلًا ل كأس السوبر الأوروبي على حساب توتنهام بركلات الترجيح    بعد إحالة بدرية طلبة للتحقيق.. ماجدة موريس تطالب بلجنة قانونية داخل «المهن التمثيلية» لضبط الفن المصري    موعد مباراة مصر والسنغال والقنوات الناقلة مباشر في بطولة أفريقيا لكرة السلة    في ميزان حسنات الدكتور علي المصيلحي    «زيزو اللي بدأ.. وجمهور الزمالك مخرجش عن النص».. تعليق ناري من جمال عبد الحميد على الهتافات ضد نجم الأهلي    الصين تفتتح أول مستشفى بالذكاء الاصطناعي.. هل سينتهي دور الأطباء؟ (جمال شعبان يجيب)    العدوى قد تبدأ بحُمى وصداع.. أسباب وأعراض «الليستيريا» بعد وفاة شخصين وإصابة 21 في فرنسا    توب وشنطة يد ب"نص مليون جنيه"، سعر إطلالة إليسا الخيالية بمطار القاهرة قبل حفل الساحل (صور)    أصيب بغيبوبة سكر.. وفاة شخص أثناء رقصه داخل حفل زفاف عروسين في قنا    كمال درويش: لست الرئيس الأفضل في تاريخ الزمالك.. وكنت أول متخصص يقود النادي    لحق بوالده، وفاة نجل مدير مكتب الأمن الصناعي بالعدوة في حادث صحراوي المنيا    بالقليوبية| سقوط المعلمة «صباح» في فخ «الآيس»    بأكياس الدقيق، إسرائيليون يقتحمون مطار بن جوريون لوقف حرب غزة (فيديو)    "سيدير مباراة فاركو".. أرقام الأهلي في حضور الصافرة التحكيمية لمحمد معروف    كواليس تواصل جهاز منتخب مصر الفني مع إمام عاشور    انطلاق بطولتي العالم للشباب والعربية الأولى للخماسي الحديث من الإسكندرية    تفاصيل استقبال وكيل صحة الدقهلية لأعضاء وحدة الحد من القيصريات    وداعًا لرسوم ال 1%.. «فودافون كاش» تخفض وتثبت رسوم السحب النقدي    بدائل الإيجار القديم.. فرصة ذهبية قبل الطرد و90 يومًا فاصلة أمام المستأجرين    سعد لمجرد يحيي حفلًا ضخمًا في عمان بعد غياب 10 سنوات    تحذير بسبب إهمال صحتك.. حظ برج الدلو اليوم 14 أغسطس    محافظ قنا ووزير البترول يبحثان فرص الاستثمار التعديني بالمحافظة    محافظ الغربية يعلن حصول مركز طب أسرة شوبر على شهادة «جهار»    الجامعة البريطانية في مصر تستقبل الملحق الثقافي والأكاديمي بالسفارة الليبية لتعزيز التعاون المشترك    رئيس الأركان الإسرائيلي: اغتلنا 240 من عناصر حزب الله منذ وقف إطلاق النار مع لبنان    شيخ الأزهر يدعو لوضع استراتيجية تعليمية لرفع وعي الشعوب بالقضية الفلسطينية    المركز الإفريقي لخدمات صحة المرأة يحتفل باليوم العالمي للعمل الإنساني تحت شعار "صوت الإنسانية"    البحيرة: ضبط المتهمين بقتل شخصين أخذا بالثأر في الدلنجات    تحديد هوية المتهمين بمضايقة فتاة على طريق الواحات.. ومأمورية خاصة لضبطهم (تفاصيل)    انتهاء تصوير «السادة الأفاضل» تمهيدًا لطرحه في دور العرض    في ذكراها ال12 .. "الإخوان": أصحاب رابعة العزة، "قدّموا التضحيات رخيصة؛ حسبةً لله وابتغاء مرضاته وحفاظًا على أوطانهم    تداول طلب منسوب ل برلمانية بقنا بترخيص ملهى ليلي.. والنائبة تنفي    حنان شومان: "كتالوج تناول نادر لفقد الزوج زوجته.. وأجاد في التعبير عن مشاعر دقيقة"    أحمد صبور: تحديات متعددة تواجه السوق العقارية.. ومصر قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية    ما قبل مجازر (الفض).. شهادات لأحياء عن "مبادرة" محمد حسان والمصالحة مع "الإخوان"    ما حكم من يحث غيره على الصلاة ولا يصلي؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي يوضح أنواع الغيب    خالد الجندي ل المشايخ والدعاة: لا تعقِّدوا الناس من الدين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قص الجناح
بقلم : أحمد محمد حميدة
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 01 - 2010

تري من سيجئ الآن ويجلس بجواري؟ سؤال مر بذهني اثناء قعودي إلي جانب نافذة الاتوبيس المنتظر قيامه إلي الاسكندرية‏,‏ بعد اكتمال عدد ركابه الذين كانوا يتوافدون علي فترات متباعده‏,‏ يمرون عبر الممر الضيق‏.. وضعت حقيبتي علي ركبتي‏,‏ لأستند عليها عند اختلال رأسي‏,‏ والتباسه بالهزهزة‏,‏ القلقلة‏,‏ والغفوات‏,‏ بينما السؤال يعبر ذهني‏..‏ من سيأتي ويشغل المقعد المجاور؟‏..‏ بينما تصعد جسوم ركاب‏,‏ وتتوغل إلي الداخل الخلفي‏,‏ متجاوزة المقعد‏,‏ تحت ترقبي بالتوقع‏,‏ اقتراب أحد‏,‏ في كل مرة لملء فراغه‏,‏ مشاطرتي الرحلة‏.‏
جاءت هي‏..‏ امرأة مكتملة الأنوثة تبحر فيما بين الثلاثين والأربعين من العمر‏,‏ بخطو وئيد‏,‏ متثاقل‏,‏ ثابت‏,‏ قائمة هامة البدن كالمنومة‏..‏ توجهت رأسا إلي المقعد‏,‏ دون النظر إلي مقعد آخر من تلك المقاعد الخاوية بالخلف‏,‏ بل حطت جسدها بارتماء‏,‏ كمن تحط ثقلا أتعبها مداومة حمله طوال رحلة مضنية سابقة‏,‏ عادت منها توا‏..‏
منهكة قعدت‏,‏ مكتومة‏,‏ بلا سؤال‏,‏ وأو تحية‏,‏ باعتبارها راكبة ستجاورني طوال فترة سفر‏,‏ فقط تنهيدة قاسية انطلقت‏,‏ بغتة من الاعماق‏,‏ ثم صمت شبه قاهر لفها‏,‏ استغرقها بشرود مهيمن‏,‏ وارتخت له اليدان علي حجر ثوبها الأسود الطويل المتسع‏,‏ بترولي الصنع‏.‏
شعرت بامتلاء جسدها من طريقة انهباده غير المكترث لوجود راكب‏,‏ رجل‏,‏ بالجوار‏,‏ فجانب ساقها الأيسر التصق بجانبي الأيمن‏,‏ واستقر‏,‏ علي الرغم من تململي ومحاولتي التزحزح قليلا بمكان لايحتمل أية زحزحة أخري لالتصاقي بجدار النافذة‏,‏ بوقت كان يتوجب فيه تقديم كلمة اعتذار منها‏,‏ لكن‏..‏
جسدها كان مقيدا ومحتبسا في بوتقة شروده المتجمدة الغريبة‏.‏ مدت ذراعا بيد‏,‏ واسندتها علي ظهر المقعد المواجة لها‏.‏
لمحت أظافرها مقصوصة ودكناء‏,‏ أثناء تقدم رأسها لوضعه علي اليد‏,‏ وقد تنافرت بعض شعيرات من رأسها المعصوب بإيشارب أزرق‏.‏
دقيقة‏,‏ مر بذهني أن أسألها‏:‏ مالك؟‏..‏ لكني تراجعت‏,‏ إذ ضاقت بوضع رأسها هكذا‏,‏ مع إنحناء ظهرها‏,‏ فاعتدلت‏..‏ وعدلت أنا وجهي‏,‏ مفكرا فيما يمكن أن يقوله المرء لامرأة جثم عليها الصمت‏,‏ وأخرسه صمت أراوغه‏,‏ لازاحته عني‏,‏ صمت استغرقها‏,‏ وانطبق حتي علي الركاب‏..‏ لعل النوم أخذهم‏,‏ أو لعلهم يرددون‏,‏ في السر‏,‏ تعاويذ السفر من أجل سلامة الوصول‏,‏ فالعربة غادرت المدينة‏,‏ وتنغمر في عراء الصحراء الفسيح المغطي بشمس قائظة‏,‏ توسدت العربة‏,‏ وتخللت النافذة القريبة مني‏,‏ وحط شريط منها‏,‏ كالسهم‏,‏ علي وجه المرأة الساكن‏.‏
انتظرت أن تطلب مني إزاحة الستارة قليلا‏,‏ مع تيقني من تطرف عينيها وبربشة رموشها‏.‏ لكنها ظلت ساكنة‏,‏ ثابتة‏..‏ فسحبت الستارة لأمنع عنها شريط الشمس‏,‏ فيما أدير وجهي خفيفا نحوها لألمح تأثير مافعلت عليها‏,‏ لكنها أدارت وجهها قليلا شطر الجانب الآخر بتنهيدة طاردة‏,‏ لبعض وجه ثقيل جثم علي الصدر‏,‏ فتأكدت من فشل أية محاولة لادارة حديث متبادل يقلل من وطأة الملل‏.‏
من جانب رأسي أزحت الستارة‏,‏ بزعم مشاهدة الصحراء في القيظ‏,‏ منتظرا أن تنظر هي الأخري خلسة‏,‏ فأري وجهها منعكسا علي زجاج النافذة‏.‏
جامدة كانت‏,‏ كأن كل همها قد انحصر في جسدها المتثاقل الذي انحط علي المقعد بكتمانه الأسيان‏,‏ وكأن مايحتمله من جيشان آلامه المكتومة‏,‏ يفوق كثيرا مجرد شريط شمسي ساخن فاقم الزجاج من سخونته‏,‏ انسكب علي الوجه بمعرفة جار تافه يتلاعب بالستارة‏,‏ من أجل أن تنطق‏..‏
تبرمت متضجرة‏,‏ تبرما طافحا من الاعماق‏..‏ أدركت أنه لاعلاقه بالشمس‏,‏ أو الستارة‏,‏ أو بي‏..‏ لكنني‏,‏ عامدا‏,‏ اعتبرت التبرم ضيقا من شريط الشمس‏,‏ فسحبت الستارة نحوي لحجب الشمس‏,‏ كإعلان ضمني علي تعاطفي معها‏,‏ إلا أن راكب المقعد المواجة ظهره لي‏,‏ بدا تذمره من سحبه لطرف الستارة من جهته‏,‏ فإرتمي شريط الشمس علي وجهي وجزء من وجهها‏.‏
اغتظت وسحبت بشدة‏,‏ طرف الستارة نحوي‏.‏ استدار رأس الرجل‏,‏ نظر بجانب عين إلي‏,‏ وإليها‏,‏ معتقدا أنها معي‏,‏ فمنظرنا القاتم يوحي بأننا حزاني عائدان من مأتم‏,‏ أو ذاهبان لعزاء‏..‏ اعتذر الرجل بإيماءه رأس‏,‏ وأعيد إلي مكانه‏,‏ وانفثأغيظي‏.‏
عندئذ ألقت برأسها إلي الوراء‏,‏ علي مخدة ظهر المقعد‏,‏ كمن تغافل الصحو لاجتلاب النوم‏..‏ نوم عنيد‏,‏ مراوغ‏,‏ مثقل‏,‏ مسكون بهموم مرتعبة‏,‏ تستوطن الجسد‏.‏ نوم يجيء‏,‏ ويبتعد‏,‏ يلامسها دون أن يخطفها‏,‏ كأنما وخاصمت معه‏,‏ أجلت تعاطيه‏,‏ فجافاها بقسوة عناده‏,‏ رغم محاولة تمسكها به الآن‏,‏ واستعطافه لغزوها‏,‏ هد صمود صحوها‏,‏ فيما أستحلب صمتي المزعزع‏,‏ المقلقل برغبة تأمل وجهها المشتمل علي بؤس يصعب سبر غوره‏..‏ وجه مدور وبض‏,‏ خال من أي تلوين‏,‏ أسمر قليلا‏,‏ كعائش في عراء مستديم‏,‏ تناثرت عليه شعيرات خفيفة كزغب لم يعرف الندف‏..‏معصوب الرأس بإيشارب يطوق الجبهة حتي الحاجبين‏,‏ كفاقدة لعزيز توفي‏..‏ مزمومة الشفتين متعمدة يمازجها اختلال لوهن عارض‏..‏ اختلاجات عدم الرغبة بالصحو كانت واضحة علي الخدين‏.‏ كأن النوم يصارع‏,‏ خفية‏,‏ انتكاسات صحوها‏,‏ يأبي اختطافها لمتاعة سراديبه‏.‏ والتوحد بها‏,‏ هروبا من كآبة وحدتها التي رافقتها‏,‏ وصعدت بها العربة‏,‏ بلا حقائب‏,‏ أو حتي كيس يد‏,‏ فقط بجسدها المكسو بثوب يليق بامرأة في حالة حداد‏,‏ ألقت به‏,‏ وبثقل متاعبه داخل عربة راحت تشق بها الصحراء‏.‏
كأن رأسها مال علي الكتف قليلا‏,‏ مرتكنا بجانب‏,‏ وقد سلب النوم وعيها‏.‏ أدركت سطوته عليها من براءة طفولية يائسة منبثقة من الأعماق‏,‏ تلوح عليه‏,‏ جعلت الشفة السفلي تتهدل‏,‏ ترتخي‏,‏ لتبدو أسنانها مصفرة متباعدة‏,‏ تبعث انفاسا مقرونة بآهات مرتعدة‏,‏ تعلو وتخفت مع رائحة فم خاصم الطعام جوفه‏..‏ اختلاجات بالشفة‏,‏ بالخدين‏,‏ كانت تتوتر‏,‏ وتنسحب أحيانا علي البدن كله بارتعادات كهربية‏,‏ تقلقل ثقلة‏,‏ كمن تعاني من أوجاع حادة‏,‏ اركدها الصحو‏,‏ وأنعشها النوم الذي اخذها لسراديبه المدلهمة‏,‏ لتلهو بها كوابيس ملتبسة غشومة‏..‏
توقعت تفجر دموعها من ينبوع مكتوم بالوجع‏,‏ أو تقاطر لعابها فوق صدرها المحصن بثوب مقفل حد العنق بحزام دائري من نفس القماش‏,‏ دليل احتشامها ومواراة الجسد واحتباسه‏.‏ بما أسألها حين تصحو من نوم أصبح كوابيس تزلزل البدن؟‏..‏ مع احساسي أنه ينشد الصحو الآن‏..‏ عامدا حركت ذراعي‏,‏ بحذر وخفة‏,‏ لكزت كتفها بجانب كوعي‏.‏ انتفضت‏,‏ علي الفور مذعورة‏,‏ كالجائية توا من أغوار متاهة عنيفة‏,‏ انفرتها‏,‏ وأرجفتني‏.‏
والعربة تتهادي علي أسفلت استراحة منتصف الطريق‏,‏ قربت فمي من أذنها القريبة مني‏:‏
يامدام‏..‏ يامدام‏..‏
ليكتمل صحوها المنذعر‏..‏ شملها استغراب مابعد الافاقة‏..‏ تطلعت حولها كالناجية من مغامرة شرسة‏,‏ دون أن تنظر نحوي‏,‏ تساءلت مضطربة‏:‏
خلاص‏..‏ وصلنا‏..‏؟‏!‏
لم توجه السؤال لأحد‏,‏ فأجبت‏:‏
ساعة‏..‏ ونصل‏..‏ ممكن أمر‏..‏؟
أقامت البدن بعناء المجهد‏,‏ العائد لكابوس الصحو‏,‏ وبتؤدة المثقل بأحمال شروده‏,‏ سارت في الممر‏.‏ نزلت‏..‏ نزلت بعدها‏..‏ أشعلت سيجارة‏..‏ توارت بين عربات أخري تناثر ركابها‏,‏ واختفت‏..‏
صعدت‏,‏ وعيناي تجوسان أبدان الناس بحثا عنها‏,‏ بوقت ارتحال الشمس نحو أفق الصحراء‏..‏ ظهرت بوحدتها الغريبة المطوقة‏..‏ صعدت وبيدها باكو بسكويت صغير وعلبة عصير‏,‏ وماقعدت‏..‏ أخرجت قطعة من الباكو‏.‏ زجت بها في فم رفض الانفراج‏..‏ قضمتها بأسنان تمردت علي الحركة والمضغ‏.‏ لاكتها بآلية وهدوء خامل‏..‏ تبعتها بجرعة عصير‏..‏ ثم تهدلت اليدان بالباكو والعلبة علي حجرها‏,‏ وغابت عن الوجود دقيقة‏,‏ ثم أحنت جذعها‏.‏ ركنت الباكو والعلبة أسفل المقعد المقابل‏,‏ وأعتدلت‏,‏ فيما يواصل الفم تلويك القطعة‏,‏ كأن بوابة الحلق أوصدت بغصة‏..‏ أزحت الستارة‏;‏ لأشغل بالي بمنظر الصحراء المتخلفة بتقدم العربة‏,‏ وبقايا ضوء الشمس الغاربة من فوق قري ومزارع بدأت في الظهور علي مداخل المدينة البعيدة‏,‏ مع انتظاري‏,‏ بشوق‏,‏ لقدوم رائحة البحر التي تغمرني بالبهجة‏..‏ وإذا بصوتها المبحوح‏,‏ مضطربا يسألني‏:‏
حضرتك من الإسكندرية‏..‏؟
نعم‏..‏ من الإسكندرية‏..‏
تعرف واحد هناك اسمه أبو علفة‏..‏؟
سؤال غريب مباغت‏,‏ فكرت فيه بنية ملتوية‏.‏
أبو علفة‏..‏؟‏!..‏ لماذا أبو علفة بالذات؟
لأن أخي راح ينتظرني قدامه‏..‏ هو قال لي هذا‏..‏
قال لك أبو علفة‏..‏؟‏!‏
نعم‏..‏ قال لي هذا في التليفون‏..‏ أبو علفة‏...‏
لكن في منطقة؟‏..‏
الإسكندرية واسعة‏..‏ أخوك قال لك‏(‏ أبو علفة‏)‏ دون أن يعطيك عنوانا‏.‏؟‏!‏
أنا لا أعرف‏..‏ وأول مرة أجيء فيها الإسكندرية‏..‏ لكن أخي قال لي يوجد واحد اسمه‏(‏ أبو علفة‏),‏ مشهور‏..‏ انتظريني قدامه‏..‏ أخي عايش في الإسكندرية من زمان‏,‏ ويعرفه‏..‏ قال في التليفون‏,‏ اسألي‏,‏ وألف واحد راح يدلك علي مكانه‏..‏
كنت أعبر بنظري وجهها الذي تفاقم قلقه بالشرود‏.‏ سألتها‏:‏
في أي منطقة يسكن أخوك؟
منطقة اسمها أبو خروف‏..‏
أبو خروف‏..‏ آه ه ه‏..‏ أبو خروف‏..‏ آه‏..!!‏
هو متزوج‏,‏ وعايش فيها من زمان‏..‏
لكن أبو خروف‏,‏ هذا‏,‏ في قلب العصافرة‏..‏؟‏!‏
لاح بذهني‏,‏ وبسرعة البرق‏,‏ مطعم أبو علفة المواجه للبحر‏.‏
تقصدي مطعم أبو علفة‏..‏؟
أخي لم يقل لي في التليفون أنه مطعم‏..!!‏
قالت وشردت قليلا‏,‏ ثم غمغمت بحنق مكتوم‏:‏ أنا عارفة‏,‏ لماذا لم يقل لي مطعم‏..!!‏
لماذا‏..‏؟
أكيد خائف من زوجته‏..(‏ العقربة‏)..‏
لك أقارب غيره في الإسكندرية‏..‏؟
أبدا‏..‏ هو كل أقاربي‏..‏ طول عمري عايشة في بولاق‏..‏ لكن لماذا لم يقل لي مطعم أبو علفة؟‏!‏
‏..‏ وقال لي‏,‏ فقط‏,‏ انتظريني قدام أبو علفة‏..‏ لو تأخرت‏,‏ لازم أجيء لأخذك‏..!‏؟
تنتظرينه بالليل هكذا‏,‏ كان بالنهار أفضل لتتعرفي عليه ويتعرف هو عليك‏.‏
لا يهم بالليل أو بالنهار‏..‏ راح أعرفه ويعرفني‏..‏ المهم يجيء
هو ممكن لا يجيء‏..‏؟‏!‏
طبعا ممكن‏..‏ وهذا ما أخافه‏,‏ ممكن المرأة العقربة تمنعه‏.‏
تمنعه من أخذ أخته‏..‏؟‏!‏
والحزن يطفو من الأعماق‏'‏ ليغشي العيون بالدمع‏,‏ ينكس الرأس بجرح خفي‏..‏ غمغمت‏:‏
نعم‏..‏ لأني نويت أقيم معهم‏..‏
آه ه‏..‏ وأين كنت تقيمين من قبل‏..‏؟
تهدج صوتها بغصة الدمع‏:‏
كنت متزوجة لغاية أول أمس‏..‏ وزوجي النذل طلقني أمس‏,‏ بعد خمس سنين زواج‏..‏
أمس‏.‏؟‏!‏
نعم‏..‏ تركت له الغرفة‏,‏ والعفش‏,‏ وخرجت بفستاني‏...‏
هززت رأسي المستغرب‏,‏ وهي تواصل‏:‏
رجل صايع‏,‏ ضايع‏..‏ عاطل‏,‏ قليل الأدب‏,‏ مرافق ستات‏..‏ يتعارك معي دائما بحجة عدم‏(‏ الخلفة‏),‏ مع إن العيب منه‏..‏
فيما يضغطني صمت ثقيل مربك‏..‏ صمت انتقل اليها‏,‏ زعزع شرودها لدقيقة‏..‏ سألتني بعدها‏:‏
تعرف ماذا أركب لأذهب إلي أبو علفة‏..‏؟
أعرف طبعا‏..‏ لكن أفرضي أخوك لم يجيء‏..‏؟
علي صمت حائر‏,‏ زاغت عيناها‏,‏ كاتمة الدمع‏,‏ بحثا عن أمل تتعلق به‏,‏ فيما أواصل اسئلتي‏:‏
ماذا يعمل أخوك‏..‏؟
مبيض محارة‏..‏ المتعوس زوجي‏,‏ أيضا‏,‏ مبيض محارة‏..‏ كان الليل المبقع بالأضواء الملونة‏,‏ الليل الخاوي من رائحة البحر المبهجة‏,‏ قد غلف وسط المدينة‏..‏ قلت‏,‏ وهي تجاورني المسير‏,‏ بتمهل المتوجس‏,‏ نحو عربات النقل بالنفر المتجهة عن طريق البحر لمناطق شرق‏,‏ ميامي‏,‏ والمندرة‏,‏ والعصافرة‏:‏
لكن المشوار بين منطقة أبو خروف ومطعم أبو علفة‏,‏ علي البحر‏,‏ طويل جدا‏..!‏
لم تأبه لاستغرابي‏,‏ لقلق جعلها تقول‏:‏
أفرض أخي لم يجيء‏,‏ وسمع كلام امرأته‏..‏؟
كانت تصعد عربة فارغة‏,‏ وجلست‏..‏ وأنا وقفت إلي جانب النافذة من الخارج‏,‏ قلت ببساطة‏:‏
طبعا ترجعي لأهلك في القاهرة‏..‏
أهلي‏..!‏؟؟ يا ليت أعرف لهم سكة ضاعوا من زمان‏,‏ انفصلوا ونحن عيال صغار‏,‏ أنا وأخي‏.‏
لم أجد ما أنطق به‏,‏ وهي ترجوني‏:‏
ممكن تتكرم وتجد لي شغلانة أعيش منها؟
فكرت‏,‏ أين يمكن أن تعمل‏,‏ وأين تنام‏,‏ امرأة مثلها‏..‏؟ لم أجد ردا ينجيني من ربكتي غير إعطائها رقم تليفوني المحمول‏..‏ دونته لها علي وريقة صغيرة بحجم الإصبع‏,‏ اقتطعتها من جانب غلاف علبة سجائري‏,‏ متوقعا أنها سوف تفقدها‏,‏ حتما‏,‏ فقد وضعتها‏,‏ بلا اهتمام‏,‏ بين أصبع السبابة والإبهام‏,‏ وأمسكت‏,‏ بنفس اليد‏,‏ إفريز النافذة‏,‏ إذ لم يكن معها تليفون‏..‏ وعند إكتمال عدد الركاب‏,‏ استدارت العربة لتغادر الموقف‏..‏ رفعت اليد من فوق الإفريز‏,‏ ولوحت لي بها‏;‏ فرفعت لها ذراعي ملوحا‏,‏ مع تأكدي من طيران الوريقة منها‏..‏ شغلني زحام السوق‏.‏ هرولت نحو أحد دكاكين البقالة‏..‏ ابتعت طعاما للعشاء‏..‏ ركبت إحدي عربات النقل بالنفر المتجهة صوب غرب المدينة حيث مسكني‏..‏
بعد ساعة‏,‏ أو أقل‏,‏ والعربة تغوص في متاهات شوارع الورديان والقباري‏..‏ رن تليفوني‏..‏ رقما غريبا كان‏..‏ تجاهلته‏,‏ لكنه رن مرة أخري‏..‏ فتحته‏;‏ ليخترق صوتها المجهد الشغوب أذني‏..‏ صوتها المختنق بالبكاء‏,‏ يستنجد‏:‏
تصدق حضرتك‏..‏ أخي لحد الآن لم يجيء‏...‏
أربكتني حتي الضجر‏..‏ قلت‏:‏
انتظري قليلا‏..‏ ربما يجيء اصبري‏..‏ اطلبي ثانية‏..‏
كيف أصبر حضرتك‏..‏ لي نصف ساعة اتصل به‏,‏ ولا يرد‏..‏؟‏!‏
علي رغمي‏,‏ وبربكتي‏..‏ أقفلت الخط‏....‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.