أسعار الفاكهة في سوق العبور ثاني أيام عيد الأضحى المبارك 2025    أسعار اللحوم الحمراء بالأسواق ثاني أيام عيد الأضحى المبارك    مجانًا خلال العيد.. 13 مجزرًا حكوميًا بأسوان تواصل ذبح الأضاحي    الأسهم الأمريكية ترتفع بدعم من بيانات الوظائف وصعود «تسلا»    هل ترتفع اسعار اللحوم بعد العيد ..؟    5 مشروعات تنموية جديدة فى الأقصر بالتعاون مع هيئة تنمية الصعيد.. صور    17 شهيدا جراء هجمات الاحتلال على محافظتي خان يونس ورفح الفلسطينية    وزير العمل يهنئ فلسطين بمنحها "عضو مراقب" بمنظمة العمل الدولية    اليابان: لا اتفاق بعد مع الولايات المتحدة بشأن الرسوم الجمركية    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب بابوا غينيا الجديدة    الشناوي: الأهلي يُحارب لعدم التتويج بثلاثية الأبطال تواليًا.. ونهائي الوداد علامة استفهام    محمد الشناوي: كنا نتمنى حصد دوري أبطال إفريقيا للمرة الثالثة على التوالي    رسميًا.. جون إدوارد مديرًا رياضيًا لنادي الزمالك    ثاني أيام عيد الأضحى.. مقتل شاب بطلق ناري في نجع حمادي    إجابات النماذج الاسترشادية للصف الثالث الثانوي 2025.. مادة الأحياء (فيديو)    محافظ أسيوط يشارك المواطنين احتفالات عيد الأضحى بنادي العاملين بالمحافظ    في ثاني أيام العيد.. إصابة 4 أبناء عمومة خلال مشاجرة في سوهاج    «الداخلية»: ضبط 363 قضية مخدرات و160 قطعة سلاح وتنفيذ 85690 حكما قضائيا خلال 24 ساعة    ننشر أسماء 7 مصابين بانقلاب ميكروباص ببنى سويف    القبض على المتهم بقتل والدته وإصابة والده وشقيقته بالشرقية    أسما شريف منير: اخترت زوج قريب من ربنا    إيرادات ضخمة ل فيلم «ريستارت» في أول أيام عيد الأضحى (تفاصيل)    أواخر يونيو الجاري.. شيرين تحيي حفلًا غنائيًا في مهرجان موازين بالمغرب    دار الإفتاء تكشف آخر موعد يجوز فيه ذبح الأضاحي    الأزهر للفتوى يوضح أعمال يوم الحادي عشر من ذي الحجة.. أول أيام التشريق    "البحوث الإسلامية": عيد الأضحى مناسبة إيمانية عظيمة تتجلى فيها معاني التضحية    الطبطبة على الذات.. فن ترميم النفس بوعى    الصحة: أكثر من 1.4 مليون قرار علاج على نفقة الدولة في 5 أشهر    10 نصائح لتجنب الشعور بالتخمة بعد أكلات عيد الأضحى الدسمة    الصحة تنظم المؤتمر الدولي «Cairo Valves 2025» بأكاديمية قلب مبرة مصر القديمة    دوناروما: أداء إيطاليا لا يليق بجماهيرنا    أسعار الحديد اليوم في مصر السبت 7-6-2025    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم السبت 7-6-2025 في مصر بعد آخر ارتفاع    محافظ الإسماعيلية يوجه بفتح الأندية لنزلاء دور الرعاية والمسنين (صور)    بعد خلافه مع ترامب.. إيلون ماسك يدعو إلى تأسيس حزب سياسي جديد    صدام ترامب ونتنياهو بسبب إيران.. فرصة تاريخية لدى رئيس أمريكا لتحقيق فوز سياسي    بعد تصدرها الترند بسبب انهيارها .. معلومات عن شيماء سعيد (تفاصيل)    "مش جايين نسرق".. تفاصيل اقتحام 3 أشخاص شقة سيدة بأكتوبر    إيلون ماسك يخسر 35 مليار دولار من ثروته بعد خروجه من الحكومة الأمريكية    محمد هانى: نعيش لحظات استثنائية.. والأهلي جاهز لكأس العالم للأندية (فيديو)    محمد عبده يشيد ب " هاني فرحات" ويصفه ب "المايسترو المثقف "    مباحثات مصرية كينية لتعزيز التعاون النقابي المشترك    الثلاثاء أم الأربعاء؟.. موعد أول يوم عمل بعد إجازة عيد الأضحى 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    سفارة الهند تستعد لإحياء اليوم العالمي لليوجا في 7 محافظات    «الدبيكي»: نسعى لصياغة معايير عمل دولية جديدة لحماية العمال| خاص    محاضرة عن المتاحف المصرية في أكاديمية مصر بروما: من بولاق إلى المتحف الكبير    «المشكلة في ريبيرو».. وليد صلاح الدين يكشف تخوفه قبل مواجهة إنتر ميامي    مبالغ خيالية.. إبراهيم المنيسي يكشف مكاسب الأهلي من إعلان زيزو.. وتفاصيل التعاقد مع تركي آل الشيخ    المطران فراس دردر يعلن عن انطلاق راديو «مارن» في البصرة والخليج    زيزو: جيرارد تحدث معي للانضمام للاتفاق.. ومجلس الزمالك لم يقابل مفوض النادي    البابا تواضروس يهاتف بابا الفاتيكان لتهنئته بالمسؤولية الجديدة    بمشاركة 2000 صغير.. ختام فعاليات اليوم العالمي للطفل بإيبارشية المنيا    «المنافق».. أول تعليق من الزمالك على تصريحات زيزو    معلومات من مصادر غير متوقعة.. حظ برج الدلو اليوم 7 يونيو    سالى شاهين: كان نفسى أكون مخرجة سينما مش مذيعة.. وجاسمين طه رفضت التمثيل    الكنيسة الإنجيلية اللوثرية تُعرب عن قلقها إزاء تصاعد العنف في الأراضي المقدسة    ترامب يأمر بدعم تطوير الطيران فوق الصوتي وتوسيع إنتاج المسيرات الجوية    تفشي الحصبة ينحسر في أميركا.. وميشيغان وبنسلفانيا خاليتان رسميًا من المرض    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أخت روحي
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 08 - 2015

ماتت وداد وجدوا جثتها متعفنة في شقتنا القديمة البسيطة، التي لا تزورها الشمس، ويلثم الهواء نوافذها الضيقة من بعيد، ثم يهرب، كما هرب الناس من حول جثة أختي، واضعين أكفهم علي أنوفهم.
أنا لم أهرب، ولم أضع يدي علي أنفي، بل اقتربت منها، وملت عليها في هدوء، وسحبت شهيقًا طويلاً، وشممت أطيب رائحة. ورأيتها، وهي ساكنة في سلام، ترفع يديها، مرفرفة كيمامة شبعي، وتهدل في فرح، وهي تحلق بعيدًا في جوف سماء صافية.
كانت قبل أسبوع منهمكة في ترتيب أشيائها، أخرجت عرائسها وكراريسها وكتب الدراسة التي تحتفظ بها، ورصتها متتابعة. وضعت فوق كتب كل سنة دراسية لعبة من لعبها رخيصة الثمن, هكذا وجدت أشياءها، وقلت:
ربما جلست تحدق فيها، محاولة أن ترتب الأحداث في رأسها، بلا جدوي، وربما تزاحمت الأشياء عليها، وجاءت من قلب الزمن البعيد مبعثرة، ولم تتمكن من أن توزعها علي خانات الأيام كما فعلت مع كتبها، وربما كانت تجد نفسها بنتًا ذات ضفيرتين ترفران علي ظهرها، وساقين نحيلتين تنتهيان بقدمين كمخلبي قط، تدبان علي الأسفلت القديم للشارع الضيق في حي "الوايلي"، ثم فجأة امرأة جالسة في انكسار أمام مأذون ينهي إجراءات طلاقها من الرجل الذي سلبها روحها وعذبها، وحمدت الله أنها ابتعدت عنه.
بين المشهدين تتوالي فصول حياتي وحياتها أمام أعيننا، ونمد أيدينا لنمسك بها، لكنها تتسرب من بين أصابعنا، وتتركنا متخبطين في حيرة.
وهي صغيرة كنت أراها منكمشة إلي جانب الحائط تبكي، فاقترب منها في هدوء، وأجلس إلي جانبها، وأمسك أطراف أصابعها، وأسألها:
لماذا تبكين؟
كانت تحدق في الفراغ، ولا تجيب، وأرسل أنا ناظري نحو ما تذهب إليه عيناها لأري ما يشغلها، لكنني دومًا لم أك أري شيئًا.
في الحقيقة، كنت أعرف الإجابة، إلا أنني أردت كل مرة أن أسمعها منها، لأفسح ولو مسربًا ضيقًا لتمرر عبره أوجاعها المكتومة.
لم تك تبكي إلا حين تغادر زوجة أبينا البيت، فبكاؤها أمامها لا يزيدها إلا عذابًا. تجذبها من ضفيرتيها، وتلقي بها علي البلاط الصلد البارد، وتأمرها:
امسحيه بلسانك.
وكانت وداد تتباطأ، وتدوس علي أضراسها، راجية أن تهزم عجزها، ثم تحاول النهوض، فتركلها بقدميها أو تدفعها بيدها فتسقط من جديد، وهي ترفع عينيها نحوي فتجدني أشير إليها بطرف إصبعي، وأنا أرتجف، أن تخرج لسانها من بين فكيها وتلعق الغبار الناعم، فتطأطئ رأسها أكثر، وتمد لسانها الذي أغرقته دموع تهطل من مقلتيها الوسيعتين، وتبلل البلاط، ثم ترتشف ما عليه من وسخ.
وأحيانًا كانت ترسم لها بالطبشور مربعًا صغيرًا يضم أربع بلاطات متجاورة، وتقول لها:
قفي هنا، لا تتحركي حتي أسمح لك.
وكانت لا تسمح لها ساعات، وتجلس في مواجهتها تتسلي بقزقزة اللب، وأحيانًا تنفخ القشر فيتساقط علي وجه أختي، فتغلق رمشيها سريعًا، لكنها تصرخ فيها:
افتحي عينيك.
لم تكن تفعل بي ما تفعله بها، بل ما هو أسوأ من هذا، كانت تهملني، لا تقربني ولا تبعدني، لا تضربني ولا تمنحني ابتسامة ولو من طرف شفتيها.
وتجاسرت ذات مرة وسألتها بعد أن اقتربت منها في حذر:
لماذا تعذبين "وداد"؟
نظرت إليَّ بعينين مملوءتين بالغل، وقالت:
لأنها تشبه أمك، وأبوك لم ينسها، وأنا كذلك لا أقدر علي قتلها في ذاكرتي، تطاردني، فأعذبها في بنتها.
وعرفت من أبي الذي كان يغيب أيامًا ساعيًا وراء رزقه أن زوجته كانت تكره أمي منذ صباها، لأنه فضلها عليها، وتزوجها وأنجبني وأختي، ولا يزال مرتبطا بها رغم أنها ماتت منذ سنين. وصارحني ذات ليلة، بعد أن اطمأن إلي أن زوجته تغط في سبات عميق:
أخطئ أحيانًا وأناديها باسم أمك.
أما هي فصرخت ذات مرة في وداد:
أبوك يكون في حضني ويناديني باسم المجحومة أمك.
وكنت أعاتب أبي، ذلك التاجر البسيط الذي يلتقط رزقنا القليل من ميناء "بورسعيد" ويعود فرحًا، فأساله:
لماذا تترك لها "وداد"؟
فكان يرد وهو يقتل دموعًا ترفرف في عينيه، وتريد أن تطير:
أنت رجل مقطوع من شجرة، ورزقي ليس قريبًا منكم، وليس لي أقارب أترككما معهم في غيابي.
لكنها تعذبنا.
لا أري هذا في حضوري.
تراه، لكنك تتجاهله.
أمي كانت تضربني في صغري، ومن يدري لو عاشت أمكم كانت ستضربكم أيضًا.
جدتي كانت تضربك لتعلمك، لا لتعذبك.
كان يصمت، ويسحب دخانًا كثيفًا من سيجارته، وينفخه في غل، وهو يبعد عينيه عن عيني.
لم أكن أغضب منه، بل كنت أشفق عليه، وأعذره أحيانًا، لأنها أمامه لا تفعل بنا ما تفعله من وراء ظهره. لم تكن تحنو علينا، لكنها كانت تتوقف عن ضرب زودادس وتخفف من إهمالها لي، وتملأ رأس أبي حكايات عنا، تحاول من خلالها أن تظهر أنها منشغلة بمصيرنا.
وما إن يغلق باب شقتنا خلفه ذاهبًا إلي "بور سعيد" حتي تفتح هي باب الجحيم، وتقذفنا فيها، وهي تقف علي حافتها ضاجة بضحكات فاجرة.
ومع تقدم العمر بها، ضاع أملها في الخلفة، وبدلًا من أن تتخذني وأختي ابنًا وبنتًا لها، عذبتنا أكثر، لأن رحمها صار بائرًا من الحسرة علي ضياع أبي منها في ميعة الصبا.
وسمعتها ذات يوم تقول لأبي:
تزوجت قبلك رجلًا لم أحبه، فرفض رحمي بذرته، وتعود علي الرفض.
وسمعته يضحك ويرد عليها:
ها أنت قد تزوجتيني، فإما أني مت داخلك، أو رحمك تعود علي البوار.
فسري غضب في صوتها وقالت له:
بل أنت الذي لا تريد، عندك الولد والبنت.
وسمعته يسألها في استنكار:
لا أريد؟
وسمعتها تشخر، وتقول له:
أنسيت ما جري لك؟ شهور وأنت تحاول ولا تقدر.
وخرج منه صوت رفيع كثغاء الماعز:
لا أدري ما الذي جري .. عليك أن تساعديني.
ردت عليه في قسوة:
ساعدتك مرات، لكني فقدت الأمل.
ثم نفخت وقالت من جديد:
أخذت هي كل شيء، ولم تترك لي فيك غير القليل، الذي انتهي.
وسمعت صمته، الذي يبدأه دومًا بتنهيدة غارقة في الألم، ثم زحف قدماه نحو باب الغرفة، فجريت إلي الثلاجة المتهالكة، وفتحت بابها في حذر حتي لا يخرج في يدي، وخطفت زجاجة ماء، وصببت في فمي، مبعدًا عيني عنه وهو يتقدم نحوي، والأسي يطفح من وجهه.
وأدركت بعدها أن الأيام المقبلة ستصير أصعب علي وداد. فأبي ازداد انكساره، حتي أنني كنت أراه طيلة الوقت يمشي منحنيًا أمامي، ويجلس مطأطي الرأس، وأراه أحيانًا يزحف علي بطنه، رغم أنه في الحقيقة لم يغير وقوفه ولا قعوده ولا نومه. كنت أري داخله، وكان يدرك، علي ما يبدو أنني أري، وطل هذا من عينيه، لكنني كنت حريصًا، رغم صغر سني، علي ألا أجرحه.
ولم تمض سوي شهور حتي اقتحمني الصبا، ورأيت دليل بلوغي، يبلل سروالي، فكان أبي يقول لي، وهو يشد علي يدي، ودموعه تغلبه:
أري فيك صباي.
وكنت أفهم أنه يحن إلي أيام الفحولة، التي غادرته، وأنا أعرف، في شقتنا الضيقة، أنه قد فقد شيئًا عزيزًا علي أي رجل، وكنت أعرف أيضا لماذا صارت معاملة زوجة أبي لي أكثر سوءًا مما كانت. كانت تراقبني وأنا أذرع الصالة الضيقة والكتاب في يدي، وتنفخ، ثم تصرخ:
اتخمد علي أي كرسي.
وكنت ألقي جسدي علي الكرسي، وقبله أرمي الكتاب من يدي، منكمشًا في حصاري وعجزي، حتي أنني لم أحصل في الشهادة الإعدادية إلا علي مجموع ضعيف، أهلني بشق الأنفس للالتحاق بالمدارس الثانوية التجارية. وكان أبي يخفف عني ويقول:
رأيت في الميناء شبابًا حاصلين علي دبلوم التجارة، يمسكون في أيديهم دفاتر تجار كبار، ويعودون آخر الشهر وجيوبهم مملوءة.
وكان يعدني بأن يأخذني من يدي إلي الميناء حين أحصل علي الشهادة، وكنت أفرح لأنني سأبتعد عن زوجة أبي، وأبعد معي أختي وداد. وكنت أري علي جدار غرفتنا، أنا وهي، نفسي يخرج من جيبه مفتاحًا معلقًا في طرف دلاية تحمل أول أربعة حروف من أسماء أمي وأبي وأنا وأختي، وأديره في هدوء، ورائحة الطبيخ تملأ أنفي، لأجد زودادس خارجة من المطبخ وفي يديها أطباق شهية.
ثم أراها وهي جالسة خجلي أمام ذلك الذي أتي لخطبتها، وأنا أنظر إليه شاردًا في مهمة تجهيز أختي بكل ما تحتاجه.
لكن فجأة انهارت كل أحلامي تلك، ف "بور سعيد" لم تعد كما كانت، وقال أبي بصوت خفيض لنا ذات مساء، وهو يخبرنا بأن الآتي غير ما مضي:
يعاقبون أهل المدينة منذ أن اتهموا أحدهم بمحاولة اغتيال الرئيس.
طال العقاب أبي، فضاق رزقه، وطالني فضاع حلمي
البسيط. كان يخرج في الصباح كطائر ضامر يبحث عن أي حبات يلتقطها، ويعود آخر النهار بأقل القليل. ولم يعد وجوده في البيت يحمينا من زوجته القاسية، لأنه فقد أي أسباب تجعل له عليها كلمة.
وقال لنا ذات صباح بعد أن خرجت هي لتتسوق:
هذه المرأة لم تحبني كما ادعت، هي تحب نفسها، وتكره أمكما، وعز عليها أن تهزمها في أيام الصبا، فجاءت لتنتقم منا جميعًا.
وقلت له:
لم تعد تسافر، ونحن كبرنا، فما حاجتك إليها.
وكان يصمت، ويتركني متخبطًا في حيرتي. لكني في يوم ضيقت عليه الخناق، فقال لي وعيناه عند قدميه:
لم يعد أبوك كما كان، وأخشي أن تفضحني.
لم يزد عن هذا، وظن أنني لم أفهم كل ما أراد قوله، لكنني كنت أفهم كل شيء، ولم يفعل ما نطق به أبي سوي أن جعلني أنظر في عيون أهل البيت والحارة، وفي عيون الجالسين علي المقهي الصغير، وأبحث عن أي شيء يدل علي أن زوجة أبي قد فضحته.
وفي ليلة صارحت أختي وداد بكل شيء، فابتسمت وقالت:
طلاقها شهادة بعدم صلاحية أبيك زوجًا، لهذا هو يبقيها معه، غير عابئ بما تفعله معنا، ولديه أمل أن يثبت لها ذات ليلة أنه عاد كما كان.
لكنه لم يعد كما كان أبدًا، فرأيته يزداد انحناء، ورأيتها وهي تغرس عينيها في عينيه متحدية له، حين يهب للدفاع عنا، حتي أنه دفن رأسه بين فخذيه حين قالت له آمرة:
زودادس يجب أن تترك المدرسة.
ثم مدت ناظريها نحوي وأكملت:
مصروفات مدرستها ترهقنا، ومصير البنت الزواج.
يومها صرخت وداد حتي ملأ صراخها نوافذ كل البيوت والحارة، لكن الناس كانوا قد اعتادوا الصراخ في بيتنا. كان بعض الجيران يأتون في البداية ليخلصوا وداد من يد زوجة أبي، لكنهم كفوا عن المجئ بعد أن طالتهم منها إساءات.
ولم يأتوا أيضًا يوم أن جاء قريب زوجة أبي خاطبًا لأختي، وعندها أدركت أنها جعلتها تترك الدراسة لتزوجها له. وكان قد رآها فخطفته، وألح في طلبها، ووجد أبي في إلحاحه فرصة كي يرمم بعض ما انشرخ في علاقته بزوجته.
صار الخاطب قربانًا لأبي، وشصًا تصاد به زوجته أختي، وظلال فرصة أمام وداد كي تهرب من هذا الجحيم. أنا وحدي الذي كنت أري ما يدور داخل الخطيب الملهوف، وتملأني هواجس منه، وكلما جاء ذهبت عنه، رغم أنه كان يتقرب مني، لأقربه من أختي.
لم ترسم لها هذه المرة أربع بلاطات مربعة، لتقف فيها ولا تتحرك إلا بإذنها، لكنها حاصرتها بالوقت. نظرت إليها، واغتصبت ابتسامة من طرف شفتيها، وقالت لها:
أمامك يومان لتجيبيني ...
وقبل أن ينتهي اليوم التالي، وجدت أبي يدخل إلي غرفتنا، ويقول لأختي:
شاب مناسب، وقد وافقت عليه.
وقالت له أختي:
لكنني لا أعرفه.
ابتسم وقال:
سيكون لديك وقت طويل لمعرفته.
وظنت هي أن هذا الوقت ستتيحه أيام الخطوبة، لكنها فوجئت، وأنا معها، بخطوبة وعقد قران في ساعة واحدة. جرت وداد إلي غرفتها حين رأت المأذون، وحركت زوجة أبي زوجها بعينيها، فجري نحو الغرفة. بعد قليل، جاء وفي يده أختي، ومضي كل شيء كما لم ترغب فيه صاحبة الشأن.
أسبوع واحد وغادرتني وداد ودموعها علي أصابعي، تركتها تجف علي مهل، وفي الليل شعرت بألم في يدي اليمني، نظرت إليها فوجدتها حمراء، ظننت أنها مجروحة، وجريت إلي الحمام، لكنني تراجعت عن غسلها، وتركت عليها الدم، وعدت إلي مخدعي باكيًا، ووضعت يدي الدامية أمام عينيَّ، وأنا أقول لنفسي: "هذا دم ولاء".
وحين ذهبنا إليها عند الظهر، كانت يدي لا تزال حمراء، وتناثرت فيها بقع سوداء، وكنت أنا الذي أبكي، لكن دموعي كانت تتساقط داخلي، بينما تقتحم أذنيَّ زغاريد زوجة أبي. كان أبي ينظر إليها مسرورًا، لكني أنا الذي كنت أعرف أن زغاريدها إعلان فرح لما جري ل وداد وما سيجري لها.
ولم تخب ظنونها في قريبها، الذي ما إن أدمي وداد وهو يقهرها في عنف، حتي رماها كأنه خرقة قديمة مسح فيها يديه بعد وجبة دسمة. ولم تمض سوي أسابيع قليلة حتي فوجئت به يرسم لها مربعًا علي البلاط، ويأمرها صارخًا:
قفي هنا، ولا تتحركي، حتي أسمح لك.
لم تكن قد أخطأت حتي تستحق العقاب، ولم يكن هذا عقاب أصلاً، بل عذابًا، ورأت وجهه وهي تزحزح قدميها نحو المربع ناظرة إلي السوط الذي يلوح به، كوجه زوجة أبي، كان هي، وهي كانت هو.
وبينما وداد علي حافة زنزانتها المؤقتة، وجدت نفسها تجري نحوه، وهي تعض علي أضراسها، ويداها ممدوتان صوب السوط، حتي أمسكت بطرفه، وجذبته بقوة، لكنه أفلته منها، وضربها علي ذراعها، فانفجر صنبور دم رفيع، لطخ وجهها وقميصها، وانسال فوق كتفه، حين وثبت عليه، وعضته في أذنه، واختلط الدم بالدم.
كنت مندهشًا وأنا أسمعه يحكي أمام أبي وزوجته من وداد قد عضته. وتركتهم في بيتنا وجريت إليها، فوجدتها جالسة تبكي وراء باب الشقة، بعد أن أغلقه عليها وخرج يشكو.
جلست قبالتها، وطبعت عيني في ثقب في المفتاح فلم أرها، لكنني كنت أسمعها جيدًا، وهي تجهش في حرقة، ورأيت قطرات دموعها تخرج من الثقب، فممدت أصابعي ومسحتها، فصارت يدي حمراء من جديد.
قالت لي بحروف متقطعة:
لن أعيش معه أبدًا.
ولم أجد ما أرد به عليها سوي الصمت، لكنها لم تتركني لعجزي، بل ألقت فوق ظهري حملًا ثقيلاً، حين قالت:
أنت رجلي، فاحمني منه.
رحت أضرب الباب بكتفي ويدي من دون جدوي، فانتظرته علي الباب حتي عاد، ما إن رآني، حتي أشار بيده نحو السلم:
ارجع لأبيك.
فقلت له متحديًا:
لن أرجع إلا ومعي أختي.
رد في بجاحة:
أنس أختك إلي يوم الدين.
جريت ووقفت بينه وبين الباب، وقلت له:
ستخرج وداد ولن تدخل أنت إلا علي جثتي.
ابتسم ساخرًا وقال:
سأدخل علي جثتك، وهي لن تخرج.
لكنني خرجت معها، وتركناه مطروحًا في صالة الشقة، فاقد الوعي، بعد أن ضربته علي رأسه بمزهرية رخيصة كانت علي طاولة وراء الباب، الذي كان قد فتحه ثم جذبني ليؤدبني في الداخل، كما قال.
عدنا إلي بيتنا، وعرفنا في اليوم التالي، أنه تغيب عن الدنيا ساعة، ثم عاد إليها يأكله الغيظ، وحين جاء خلفنا ليثأر منا، تكاثر عليه جيراننا الذين كانوا يحبون جميعًا أختي وداد وطردوه. وفي اليوم التالي، تمكنت أنا وأختي من طرد زوجة أبي، الذي كان وقتها يفتش في دفاتره القديمة بشوارع "بور سعيد". حين عاد ولم يجدها، جلس صامتًا، يتنفس في ارتياح، ثم سأل زودادس في اليوم التالي:
كيف جري هذا؟
ابتسمت في مرارة وقالت له:
راح خوفي مع بكارتي.
واستغربت أن تقول وداد هذا، لكنها كانت بالفعل قد تغيرت. لم تفقد طيبة قلبها وحنانها ولا ألق عينيها الرائعتين، لكنها فقدت ضعفها، وقوتني معها.
أخذنا أبانا إلي المأذون الذي عقد قران زودادس ليطلق زوجته، وبعد أيام أرسل قريبها ورقة طلاق أختي، لكن أبي لم يعش حرًا كثيرًا. خر مريضًا ذات مساء، وكأنه كان يقاوم طيلة السنوات السابقة، ليبقي ظهره مصلوبًا، حتي لا يفقد كل شيء أمام من عيَّرته بارتخائه.
لكنه قبل أن يرحل عن الدنيا ربطني بعمل في "بور سعيد"، وقال لي وهو يمد يدًا مرتعشة مودعًا:
عش حيث تجد رزقك.
وعشت، وامتدت عيشتي سنوات، فيها خطبت وتزوجت وأنجبت ولدين وبنتًا، وفيها وجدت أختي عملاً في محل لبيع الملابس تقوتت منه، وأغناها عن السؤال.
كنت أعود إلي "القاهرة" ثلاث مرات في السنة، أزور وداد لأعاتبها علي وحدتها، وأزور قبر أبي، لأشكو له ما ألاقيه علي يد من ظنهم صحبة درب.
ولامني الناس علي ترك أختي وحيدة، ولاموها لأنها لا تذهب لتعيش معي، وغطي اللوم رأسينا، فجاءت معي، لكنني عجزت عن حمايتها من زوجتي في شقتي الضيقة، فلم تطق علينا صبرًا، وعادت من حيث أتت، وأوصد بيننا بابًا، كما لم يجر من قبل.
سنة كاملة لم أزورها خوفًا من العتاب، لكن في ضحي يوم كئيب، كانت الغيوم السوداء تغطي سماء "بور سعيد" رن الهاتف وانسكب في أذني لحن جنائزي عزفه جارنا العجوز:
البقاء لله.
وجئت علي عجل، تسبقني دموعي وحسرتي، فاستقبلتني رائحتها الطيبة، التي هرب الناس منها. وتجمعوا هناك عند باب الشقة. وبينما كنت أحضن وداد وأمرغ أنفي في رائحة أطيب من المسك، لمحت عيني عجوزًا تقف بين المتزاحمين، وتمد عنقها نحوي، وفي عينيها يتراقص غل وشماتة. ملأت عيني منها وانفتحت نوافذ الألم عن آخرها. كانت أرملة أبي، التي عز عليها أن ترحل عن الدنيا قبل غياب "وداد" أخت روحي علي هذا النحو الغريب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.