عطر الرجل عبر الجسر.. مر من أمام بيتنا.. وواصل طريقه إلي الميدان.. مخلفا وراءه أريج عطره الرجولي النفاذ يعبق المكان.. وكان لعطره رائحة لم أعدها في عطر آخر.. رغم أني أزعم لنفسي أنني ذو خبرة ومعرفة بأنواع العطور جميعها وقد ظلت تلك الرائحة علي الطريق من الجسر حتي مدخل الميدان.. كأنها عالقة بهواء ساكن يأبي أن يتحرك... 2 في الساعة المبكرة من صباح اليوم التالي.. حرصت علي أن أكون عند مدخل البيت.. حتي أري جيدا ذلك الرجل صاحب العطر.. وإن كنت في شك أنه سوف يأتي مرة أخري.. لكن شكوكي تبددت عندما لمحته قادما من بعيد.. ثم وهو يعبر الجسر.. وأريج عطره يسبقه.. ويحيط به.. ويتخلف وراءه.. ورحت من مكاني أتأمله بوضوح، ليس شابا صغيرا.. لكنه أيضا ليس عجوزا أو متقدما في السن.. كان يبدو ناضجا، له وجه مليح، مريح التقاطيع والقسمات يزينه شارب أنيق فوق شفتيه.. شعره أسود مصفف بعناية وتمتد أناقته إلي ثيابه بشكل متناسق الحلة والقميص وربطة العنق بالدبوس الذهبي.. والحذاء الأسود اللامع.. ثم خطواته المتوازنة.. لا خطوة تطول عن الأخري.. وعبق الهواء بعطره.. واصل سيره إلي نهاية الشارع.. وبينما كنت أتأمله خيل لي أني أعرفه منذ بعيد ووجهه مألوف لي لكني كنت أيضا علي يقين من أنني لم أره من قبل... 3 واستمر ذلك زمنا.. ربما عشرة أعوام.. وربما عشرين عاما.. لا أدري ولكن الرجل كان يداوم علي المجئ في موعده تماما.. لا يتأخر أو يتقدم جزءا من الثانية.. وكان دائما كما هو.. وكما رأيته في المرة الأولي.. لم يتغير شيء فيه عدا الثياب التي كان يبدلها كل يوم.. أما غير ذلك فقد ظل كل شيء علي ما هو عليه.. الشباب.. الحيوية، الوجه المليح، الثياب الأنيقة، الشعر الأسود اللامع.. وكنت خلال هذه السنوات قد تزوجت.. وأنجبت زوجتي أولادا صار بعضهم أطول مني.. وراحت عوامل الزمن تضرب في نفسي وجسدي وتلوح بوادر التقدم في العمر في سماء حياتي.. لكن الرجل ظل كما هو.. كأنه محصن ضد كل ذلك.. وبات يشغل حيزا كبيرا من فكري.. ويشغل بالي، هذا الرجل الذي لا أعرف عنه شيئا.. فقط أراه في كل صباح، يهل من ناحية الجسر ويمر من أمامي في طريقه إلي آخر الشارع.. صار موعده ثابتا في دفتر حياتي اليومية، أحرض عليه بشدة، مرات قليلة تلك التي انشغلت فيها عن الموعد ولكن رائحة عطر الرجل سرعان ما تذكرني به.. فأهرع إلي مدخل البيت.. أجده أمامي.. أو تجاوز البيت بقليل.. أو يكاد.. ثم يمضي مخلفا عطره كعادته... 4 وكاد تفكيري في هذا الرجل.. والغموض الذي يلفه يورثني الجنون.. فمن يكون هذا الذي يحرص علي أن يأتي كل يوم.. بعطره النفاذ وأناقته الشديدة وشبابه الدائم.. ويمر من أمام بيتي مرور الكرام.. ويذهب تاركا لي عطره النادر يتسلل إلي مسام حياتي.. تري من يكون..؟.. وإلي أين يذهب..؟.. أسئلة تدور في داخلي وتتوقف أمام سد منيع دون إجابة شافية... 5 تذكرت أبي الذي حمل عصاه ورحل من حياتنا.. كنت صغيرا لا تعيه ذاكرتي ولم يخلف وراءه صورة واحدة تحدد شكله.. أو تحدد ملامحه.. قالت لي أمي يوما: أبوك تركنا ورحل فجأة.. ولا أعرف إلي أين.. فقط تركنا ورحل... كنت أفكر في هذا الأمر، لكنني كنت أحس بسخافة ما أفكر فيه.. لقد رحلت أمي عن الدنيا بعد أن تجاوزت من العمر أرذله.. أيضا فإن أبي إن هو مازال علي قيد الحياة.. لصار رجلا عجوزا طاعنا في السن.. وربما كان قد رحل منذ زمن طويل.. واستبعد هذه الخواطر عن نفسي.. وأعاود التفكير في أمر الرجل... 6 في ذلك اليوم.. كنت أقف أمام البيت وقد عزمت علي أن أستوقفه في الطريق وأن ألقي عليه بكل ما يدور في داخلي من تساؤلات أرقتني زمنا... 7 رأيته قادما بعد أن عبر الجسر.. ومر من أمامي كعادته.. وأنا أقف في مكاني.. أتأمله في بلاهة.. عاجزا عن التقدم نحوه، رأيته وهو يبتعد إلي نهاية الشارع ويتملكني غيظ شديد.. كان قد ابتعد عن البيت بمسافة كبيرة، لكنه لم يكن قد وصل إلي نهاية الشارع بعد.. ووجدتني أنطلق خلفه مسرعا وأنا أصرخ فيه: أيها الرجل.. توقف.. توقف أريد أن أسألك شيئا... ثم تبين لي أن هذه الكلمات كانت تدوي في داخلي ولا تتجاوز مخارج شفتيّ.. كنت مازلت أعدو خلفه، تجاوزت في طريقي كلبين ذكرا وأنثي يتزاوجان بينما جرو صغير يتطلع لهما لاهيا وقد تدلي لسانه إلي الخارج.. واصلت عدوي.. كان الرجل مازال أمامي.. ويقترب من نهاية الشارع.. ويكاد يدلف إلي الميدان الكبير.. والمسافة بيني وبينه تضيق.. ثم فوجئت به توقف ويلتفت ناحيتي فتوقفت متسمرا في مكاني.. أتطلع إليه مسلوب الإرادة.. بينما كان يرمقني بنظرة حادة.. جعلتني لا أقوي علي مواصلة النظر إليه.. وعندما عاودت متابعته بعيني كان قد اختفي من الشارع وعرج ناحية الميدان... 8 علي ناصية الشارع تلفت في كل الأنحاء بحثا عنه.. ولكنه كان قد اختفي تماما ومسحت مداخل الشوارع الثلاثة التي تطل علي الميدان.. لكنني لم أعثر له علي أثر في أي منها.. فوليت عائدا من حيث جئت.. محبطا.. منهكا وقد نال مني التعب.. وأجر ساقي جرا.. ولم أجد في طريقي الكلبين اللذين كانا يتزاوجان.. ولكني رأيت الجرو وحده يلهو ويتقلب علي أرض الشارع... 9 بعدها لم يأت الرجل مرة أخري.. وتلاشي أريج عطره من شارعنا... ندي في السجن سألت عنها كل من يأتي من هناك، وسألت شقيقي الذي يصغرني بأعوام طويلة وسألت زوج أختي الذي يكبرني بعام، الكل أجمع علي أنهم لا يعرفون عنها شيئا، رغم أنها تعيش بينهم في بلدة واحدة.. صغيرة وناسها يعرف بعضهم بعضا، رجالا كانوا أو نساء، قالت خالتي العجوز التي أقعدها المرض ولا تغادر البيت منذ سنوات بعيدة: "ندي بنت عبد اللطيف، أعرفها، ولكن منذ زواجها من الشيخ علي، لم يعد يراها أحد أو يعرف عنها شيئا" بينما قالت أمي بصوت واهن: "المرة الوحيدة التي رأيتها فيها بعد زواجها من الشيخ علي، عندما ذهبت للعزاء في الحاج عبد اللطيف وكان ذلك من سنوات".. هي موجودة وحية ترزق، إذا لماذا يستعصي علي أن أراها.. أو أسمع عنها كلما ذهبت إلي البلدة.. جاء ابن شقيقتي لزيارتنا ومعه زوجته التي لم أرها من قبل، عرفت أنها بنت ثابت عبد اللطيف وأن ندي هي عمتها.. أدهشني أنها تشبهها إلي حد التطابق وأن اسمها ندي، سألته عنها فقال لي متعجبا: "هل تصدق يا خالي أن عمة زوجتي هذه لم أرها غير مرة في ليلة زواجنا.. لحظات قليلة ثم صحبها الشيخ علي وانصرفا.. وعندما ذهبنا لزيارتهم في بيتهم، استقبلنا الشيخ واصطحب زوجتي إلي قاعة مغلقة حيث توجد عمتها، أدخلها فيها وعاد ليجلس معي في قاعة الضيوف وانصرفنا دون أن أقابل العمة".. فقلت لنفسي: "لابد أن ندي مقيدة الحرية، مغلوبة علي أمرها.. وإلا ما كان يحدث لها ذلك".. وقالت أختي طويلة اللسان، متهكمة في مزاح كعادتها معي دائما: "ماذا تريد منها يا عجوز..؟.. أفق لنفسك، لم تعد في سن يسمح لك بتلك المراهقة، أنت عجوز وهي أيضا.. وأولادكما يفوقونكما طولا وعرضا".. كان ما تقوله أختي حقيقة، لكني قلت مكابرا لأغيظها: "ولو.. الوردة الجميلة تظل رائحتها فيها حتي بعد أن تذبل أوراقها".. وتحكي أمي من ذاكرتها وهي تضحك: "الفارق بينك وبين ندي يومان، كانت أمها حبلي.. وأنا أيضا وكنا عندما نتقابل، تتصادم بطنانا الممتلئتان فتقول لي ضاحكة: "حاسبي، ولدك نطح البنت".. فأرد عليها مازحة: "بل قولي أن ولدك أنت نطح بنتي لأن ما في بطنك ليس بنتا، فمن أدمنت إنجاب الذكور لا تنجب إناثا".. فتلوم أمي علي قولها: "حرام عليك ما تقولين يا أختي، لقد سئمت من الذكور وأريد بنتا".. وتستطرد أمي: "وكان لأم ندي ما تمنت وأنجبت البنت.. وولدت أنت قبلها بيومين".. وكانت دارنا ملاصقة لدارهم وسطحهم يرتفع عن سطحنا بمقدار درجتين وكان سهلا أن نعبر إليهم أو يعبروا إلينا.. ومن بين ما تحكيه أمي أني عندما كبرت قليلا كنت أتركها أمام فرن الخبيز فوق السطح وأحبو في اتجاه السطح الآخر وأتساند علي الدرجتين الفاصلتين وأشب واقفا فيبدو رأسي في مستوي سطحهم، فتنسل ندي من جوار أمها وتسرع وهي تحبو نحوي حتي تلتقي رأسانا وتتناطحان، هي منبطحة علي بطنها بينما أقف أنا علي حافة السطح.. وعندما تتنبه أم ندي، تصيح علي أمي مازحة: "ابعدي ولدك عن بنتي حتي لا يفسد أخلاقها".. ثم تضحكان حتي تدمع عيونهما، هذا ما تذكره أمي، أما ما أتذكره أنا فهو أن ندي كانت رفيقة الطفولة والصبا وحب العمر وعشق الأيام البعيدة، كنا نلتقي دائما علي السطح، فوق أكوام الحطب وعيدان البوص الجافة، نتناجي وتتعانق مشاعرنا وتذوب أحاسيسنا وتلتحم وننهل من وعاء الحب الذي يفيض، كانت تهمس لي: "أحبك.. أحبك أكثر من أي شيء في الدنيا" وكنت أقول لها في نشوة وأنا الثم وجنتيها "وأنا أعشقك، بل وأعشق الأرض التي تقفين عليها" وكنا نقول الكثير والكثير ولا يتخيل أحدنا أن يأتي يوم نفترق فيه.. وكما كانت ندي هي حب العمر الذي لا يندمل أبدا، عندما وشي رفاق السوء بي عند أخيها ثابت وفوجئت به يقبض علي أذني يفركها بقوة، وهو يحذرني بأن أبتعد عن ندي.. وإلا سيكون في ذلك نهايتي، كان هناك من أوغر صدره ضدي وكنت صغيرا، فبكيت كما لم أبك من قبل ولفني الحزن وفوجئت بسطح دارهم يختفي ويشيد علي حافته جدار شديد الارتفاع، حال دون رؤيتي لها وكنت أصعد إلي السطح وألصق أذني بالجدار لعلي أسمع صوتها، لكني سمعت ثابت وهو يقول لأمه: "بنتك حولت سطح بيتنا ساحة عشق يا أمي مع هذا الولد الذي يسكن في البيت المجاور" ثم سمعته وهو يقسم لها أنه سوف يزوجها من أول طارق للبيت يطلب الزواج منها وكان هذا الطارق هو الشيخ علي وكان يكبرها بأكثر من خمسة عشر عاما ويعمل مدرسا في المعهد الديني، فانطويت علي نفسي وانعزلت عن الدنيا وعزفت عن كل شيء فيها وكنت قلقا عليها، خشية أن تفعل شيئا في نفسها وكانت قد قالت لي يوما وهي ساكنة مسترخية علي صدري: "لن يفرق بيني وبينك غير الموت" ولكن لم يمض وقت طويل حتي كانت تزف إلي الشيخ علي وتنتقل إلي بيته لتعيش فيه وكل يوم يمر يزداد شوقي لها وحنيني لرؤيتها.. ودائما أعرف أنها في سجن الشيخ علي لا تغادره، ولا يعرف أحد شيئا عنها، وتمر الأيام سريعة متتالية وأنا ألزم عزلتي وعزوفي عن العالم من حولي ولا أري أمامي غير ندي في آخر لقاء تم بيننا وأجتر ذكرياتي معها وتلاءم الجميع مع الوضع الذي أنا فيه، ضقت ذرعا من هذا الشيخ علي وكرهته كراهية شديدة، حتي وددت لو أني أستطيع قتله لأحرر حبيبتي من سجنها، لكن الأقدار كان لها رأي آخر في هذا الأمر، فقد جاءت أمي إلي وأبدت قلقها من الحالة التي أنا عليها ورغبتها في زواجي خاصة أن العمر يتقدم بي وإخوتي الأصغر مني يرغبون في إتمام زواجهم، ثم استطردت باكية: "أريد أن أري لك ولدا أو بنتا قبل أن أموت".. وكانت تعرف جيدا أن أهم نقاط الضعف فيّ هو حبي لها وخوفي عليها واختارت هي العروس، كأنها هي التي ستتزوجها.. وبالفعل هي التي تزوجتها، فما زالت حتي الآن تدين لها بالولاء.. وحاولت قدر ما أستطيع أن أمنحها حبا وحنانا واشملها برعايتي بشكل مبالغ فيه في بعض الأحيان، حتي لا يتسرب الشك إلي نفسها بأني أحب أخري غيرها، أما ندي فقد ظلت دائما في القلب والوجدان.. وفجأة حادثني ابن شقيقتي من البلدة عبر الهاتف ليخبرني أن الشيخ علي قد مات.. وقبل أن اسأله عن ندي استطرد في حزن بدا واضحا في صوته بأن الحاجة ندي لحقت به بعد ساعات قليلة، ثم عقب "كانت تحبه إلي حد الهوس".