هكذا كانت امي قوية شجاعة عندها رأي ولها موقف وقرارها مثل موقفها نهائي وكنت اعجب بأمي كثيرا وان كنت لا أعرفها بالضبط ما الذي يجعلها تقول: لا.. وتقول:نعم والكلمة كلمتها والقرار لها.. لم اسمع ابي وامي يتناقشان او يتحاوران او يتخانقان كل ذلك ملم وراء ابواب مغلقة بعيدة عن أذني وعيني ولذلك فالعلاقة بين ابي وامي خاصة جدا بعيدة عني جدا.. لم اتهم طول حياتي قلق ابي وأمي علي فأنا تلميذ مجتهد وليست لي مشاكل ولا مطالب من اي نوع وراض بأي شئ.. اي طعام.. اي شئ اي مكان انام فيه.. اذاكر فيه. وكل ما تسألني امي: تحب اجيب لك ايه اقول: ولا حاجة. كنت ارتدي احذية وملابس اخوتي الاكبر مني ولم ألاحظ الا مرة واحدة انني خرجت في بدلة اخوتي وحذاء اخي لم اشعر ولكن اجد زميلا من التلامذة ينبهني بسخرية اضحكت بقية الزملاء وكانت مشكلة ماذا اصنع ولم اجد ما اصنعه فذهبت الي المدرسة في اليوم التالي وقد حشرت جوربا في مقدمة الجزمة حتي لا تتحرك قدمي وحتي لا تفك قدمي من الجزمه.. وان كان قد حدث ففي احدي مباريات كرة القدم في المدرسة كنت اضحوكة المدرسة ورثائها في نفس الوقت قدمت الكرة طارت الكرة والجزمتان.. من الذي لا يضحك في هذا اليوم ولم يطل الضحك فأنا تلميذ متفوق والقي احتراما من الاستاذ وحقدا من الطلبه. وعدت حزينا الي البيت ولم اقل شيئا. هل لانهم يرون شيئا مختلفا في وبينهم - اما لاشي مختلفا الا انني مجتهد وليست لي مشاكل من اي نوع.. ولا اذكر ان ابي او امي قالا لي مرة: توضيت.. صل.. ذاكر.. اقرأ.. اكتب.. أفعل ذلك وزيادة اعمله واضيف اليه مزيدا من الدراسات والتساؤلات بعد وصرت وانا علامة استفهام وصرت بعد ذلك علامة تعجب.. والان انا احاول ان اضع نقطة في نهاية سطر في حياتي ولكن الشعور لاينته والكلمات تسبقني الي النهاية بلا نهاية والحمد لله علي ما وهبني من الصبر الجميل واحتمال كل ما هو افضل ومن اجل ان اعرف يهون كل شئ واي شئ.. عندما انتهت الامتحانات سألني ابي: الاول ان شاء الله قلت: ان شاء الله وتحصل علي مرتبة الشرف الاولي: ان شاء الله. ويسكن ابي ممدا في فراشه ويتقلب ويعود لوجهه المضئ وعيناه الخضراوان وصوته الجميل ويقول متي ان شاء الله.. ويضع يده علي رأسي ويقول: اللهم بارك لنا فيما اعطيت.. وفي اليوم التالي ذهبت الي والدي.. وياليتني ما رحت ولا جيت. وجدت ابي نائما ولكن لم يكن يشعر بي حتي اعتدل في السرير وبخفة دمه اقترب مني وقال: خير ان شاء الله فقلت الحمد لله يا بابا.. الاول نعم مع مرتبة الشرف الاولي نعم الحمد لله ومات أبي. يعني ايه مات؟ يعني اعمل ايه يعني انه لم يعد هناك احد اسمه ابي ولا يتردد لانه تردد علي هذا المكان.. انه بيت احد اخوتي اذهب هناك فلا اجد ابي ولم يكن هذا هو السبب الحقيقي فان اخي هذا لم يفلح في ان اجده فجاءت الوفاة تضع نهاية تصيبني ولكن ماذا بعد ذلك؟ الباقي الذي لا اعرفه قد تولاه وربما امي لا اعرف فلم امش في جنازة ابي لماذا؟ لا اعرف ولكن قررت الا اسير.. واحسست كأنني مقسوم ثم اصبحت قوساً فقد وقعت وايدي عاجزة عن اشياء كثيرة عن عمل شئ وهل يستطيع احد ان يعمل شيئا امام الموت. ولا اعرف كيف ولا اين دفنوه ولا من كان في الجنازة هل ابي مات هل جئت ابي فتركته يموت وحده.. انا اول من رآه واول من اختفي عنه ولم اجد في عيني دموعا رغم حزني عليه وصدمتني فيه اين الدموع اين مظاهر الحزن هل كنت كاذبا عندما اذكر دائما ان امي وابي مثالا رفيعا في الصبر والسماحة والايمان العميق بالله والحب العظيم للنبي صلي الله عليه وسلم ابي اسمه لانه اكبر اخوته وهي عادة مصرية ان يكون الاول اسما من اسماء النبي: محمد.. احمد. مصطفي.. طه.. عبد الرسول.. عبد النبي.. وفي البيت لا امي سألتني ولا انا سألتها ولا معني للسؤال فالاب مات والزوجة بلا زوج بلا عائل ومفروض ان اكون العائل كيف؟ مش عارف ما الذي اعمله فورا والآن. استطاع اخي الاصغر ان يحل هذه المشكلة ويعمل وينفق علينا انا وامي ونعمة كبيرة جدا لم انسها له ولاولاده واحفاده من بعده.. ولكن ما الذي اعمله.. في ذلك الوقت كنت حائرا وقد تلخبط كل شئ.. اساتذتي يريدوني ان ابقي في دراساتي الفلسفية وكيف؟ وامي؟ وانا لا اعرف الاشياء واحدا ان افقد امي من الضياع.. ولا حاجة لي وقدرة علي تحمل ان تعود امي الي بيت ابيها فلم يعد لها بيت. كان ابي يعمل ناظر زراعة عدلي باشا يكن رئيس وزراء مصر وبعد وفاته عمل مع اخيه عز الدين بك يكن ولما مات عمل مع اخته نعمت هانم يكن.. وكان ابي يتنقل ونحن وراءه.. وعرفت معني المثل اللاتيني: الحجر المتحرك لا ينبت عليه العشب.. لا العشب ولا اي شئ اخر وكنت هذا الحجر المتحرك وكانت امي تربط هذا الحجر من حين الي حين بالحكايات والروايات والقصص والخرافات وكنت اصدق كل ما تقوله امي.. ورغم دراساتي الفلسفة والسبيل في شئ طريق طويل الي اليقين حتي كانت تقول امي هذا اليقين دون شك.. ومن نصائح امي: لا تكلم البنات. لا تلعب مع واحد يشرب سجائر. لا تصدق كل ما يقال لك من السيدات جاراتنا واقاربنا واذا تكلموا عن الزواج فلاحظ انك طفل وانك لا شئ فاسمع من هنا واترك ما تسمعه.. يخرج من هناك.. فلا اقترب من الناس ولا الصبيان هناك محاذير حفظتها ولم تر اقصي ابي منها فكل ما يحدث يقتضي ذلك بل ان امي كانت تصف سلوكي بانني مثل البنت اضع رأسي في الارض ويحمر وجهي ولا اقول شيئا وكنت افعل ذلك.. هل انا افعل ذلك وامي لاحظت ام ان امي قالت النصيحة وانا اسمع نصيحة انه الظن انها كذلك.. فأنا ادرس الفلسفة واتأمل كل شئ في الله والكون وألوانه والنبي والحياة بعد الموت والعبث والنشور داخل شأنها بعيدا عن الايمان ولكن في اعماقي ما تقوله امي وهو اقوي من اليقين.. في سن متأخرة بدأت اصدق وأؤمن علي كل ما قالته امي السيدة الامينة الطيبه الجميلة.. اجمل خلق الله نعم. لقد تعرفت وما يحدث بي بعد وفاة والدي ماذا حدث؟ تعبت في حياتي تتسرب الحياة.. وإذا كانت حياتي فضاء من الماء يبدأ الماء يتسرب الي اين؟ ولماذا؟ بل ان ثقبا بدا في وجودي كله ولابد ان املأ هذا الفراغ.. ولم اطاوع احدا ذهبت الي صديق خريج قسم الفلسفة ازوره عرض ان اعمل صحفيا ولا اعرف يعني ايه صحفي وكل ما اعرفه هو ان اكتب قصصا او اترجمها وانشرها.. فوافقت فورا.. وتناوبت اساتذتي يسألون د. عبد الرحمن بدوي: اسمه في دراسة الفلسفة.. د. لويس عوض خليك مع بدوي واستاذي دكتور شوقي ضيف هو اول من قال انني سوف اكون شيئا مهما والبقية معروفة في كثير من كتبي وفي مقالاته هو فقد طلب مني وكنت في السنة الاولي بحثا عن الشاعر ابي تمام فكتبت ولا ازال اذكر عنوانه: (الزاميه والموضوعية في شعر ابي تمام) وجاء موعد توزيع الابحاث فسأل: من هو الطالب الذي نسي ان يوقع باسمه علي بحث عن الزاميه والموضوعيه في شعر ابي تماما فرفعت يدي وطلب مني ان اقرأ بحثي علي زملائي وقال: اتوقع لك مستقبلا عظيما! ولما حصلت علي جائزة الدولة التقديرية سنة 0991 كتب د. شوقي ضيف مقالا في الاهرام ذكر فيه بانني سوف اكون شيئا. ولم يخطر علي بالي ابدا انني سوف اكون مشكلة للدكتور شوقي ضيف فقد رشحت سنة 9991 لجائزة مبارك في الاداب والفنون وتساوت اصواتنا واحتجبت الجائزة لاول مرة ولما اعيدت علي استاذي د. شوقي ضيف وكتب يقول انه سعيد ان يتفوق عليه واحد من ابنائه! لقد ابتعدت كثيرا عن الحديث.. كان في اعماقي رغبة كبيرة ان ابعد عن وفاة ابي انا لا اعرف ماذا جري ابي كان مريضا؟ نعم عنده سكر ومضاعفات اخري ما هي لا اعرف وكان مصابا باغماء السكر ولا يقول وكان ابي اقل تأوها من امي اما لانه الراجل اما خجلا من امي.. او حرصا علي ارباك حياتي اكثر لان حياتي قد ارتبكت تماما ولا اعرف كيف مضيت ولا اقول فعلت شيئا انا لم افعل الذي لو قلت مادمت وصرت شخصا لا شئ من ذلك فأنا قدري وقبلت هذه الكارثة علي انها حقيقة متوقعة والمفاجأة. يوم حدوثها - ولكنها متوقعة كنت اتوقعها - اكذب لو قلت كنت ابدا دائما ما صدفت حياتي حتي حياتي هذه لا اعرف ما هي . ما هي حياتي اين حياتي هذه.. من البيت للجامعة ومن الجامعة للبيت لا اري ولا اسمع ولا اتكلم اعمي؟ نعم. أطرش؟ نعم. وهل هذه حياة؟ هذه حياة حياتي واندهش للذين يقولون انهم خططوا ودبروا وسارت حياتهم من احلامهم.. لا استطيع ان امضي في ذلك لانني لا اعرف كيف تكون وفي نفس الوقت لا اصدق ولا يهم انني صدقت او لم اصدق ولكن ان كانت هذه حياة فهي مثل حياة الكلاب الضالة في الشوارع والدجاجة وكثير من الحشرات حياة والسلام فما الذي كان ينقصني لا اعرف ما الذي عند الناس وليس عندي لابد ان لديهم ما هو اكثر وانا لا اعرف ولو عرفت فما الذي اصنعه ولا حاجة انا راض بكل ما عندي وهو قليل ولا اعرف انه قليل او كثير انا اجلس ويجئ طعام لا اعرفه وتمد يدي التي لا يراها وهي تدخل فمي ويذهب الطعام واخرج الي الجامعة وفي الطريق لا رأيت ولا سمعت ولا لاحظت انني اخوض جهنم ليلا ونهارا وطريقي الي البيت في مدينة امبابة يمر باوان البول ويخرجون منها ترابا اسود كالفحم اذا سرت فوقه انكشفت نارا تكون مخيفة في الليل ولا يطمئن الا صوت قلب من بعيد جدا ويدهشني انه سمعني رغم المسافات التي بيننا ولكن هذا ما يحدث كل ليلة ولا عرفت طريقي ولا شكوت ولا مللت انا الذي اوقفت هذه المشاعر اوقفتها عند صرختها فاذا كان لها حد فما هو حدي انا لا حد لي في اي مكان انا ولا حاجة.. ادخل البيت ولا حاجة واخرج ولا حاجة واعرف انني عند امي حاجة كبيرة. ولكن ما هذه الحاجة؟ الحب - الاحتياج لا اعرف لم افكر ولكني لابد ان انفصل عن امي واخفيها امامي بعيدا واتأمل واقول واتصور ولكن امي ليست بعيده فأنا اسمعها ولا اراها ولا اسمعها. او اسمعها حتي لو تتكلم.. لقد ابتعدت كثيرا جدا عن فجيعتي في ابي.. وعملت ليس في صحيفة واحدة بل في عدة صحف في وقت واحد وكنت اعطي امي مجموعة مرتباتي واكتفي بخمسة جنيهات افطر واتغدي واتعشي بها الي نهاية الشهر.. وليس مبلغا قليلا في ذلك اليوم وامي تسألني: يا ابني وانا ماذا اعمل بهذه الفلوس واقول لها: وانا ايضا لا اعرف! وتسكت في اقناع اخي الاصغر ان يتوقف عن العمل وان يكمل دراسته..