«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجزء الثانى من (رحيق عمر) جلال أمين
نشر في الشروق الجديد يوم 08 - 01 - 2010


عندما كان إنجاب الأولاد وثيقة تأمين ضد الطلاق
شعرت أمى بالنجاح عندما أنجبت ثمانية أولاد ظلت تباهى به حتى ماتت
المحافظة على حياتنا كان رسالتها الخالدة
طعامها الجيد أصابنا بالبطر
أمى وأولادها
ما أسهل أن أصف للقارئ كيف كانت حياة أمى: نوع اهتماماتها وترتيب أولوياتها، ومستوى تعليمها، ونظام حياتها اليومية، وأسلوبها فى الحديث، والزى الذى ترتديه، وطبيعة علاقتها بأبى وأولادها.. إلخ، كانت أمى فى كل ذلك نموذجا يمثل تمثيلا جيدا نساء الطبقة الوسطى المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين. لقد ولدت أمى قبيل بداية القرن بسنوات قليلة وماتت فى نحو الستين من عمرها، قبل أن تطرأ على مصر تلك التحولات الاجتماعية السريعة التى حسنت بشدة من مركز المرأة المصرية وحررتها من كثير من القيود.
امرأة يصعب تخمين عمرها بسبب تغطيتها شبه المستمرة لشعرها، وردائها الأسود الواسع الذى يغطى كل جسمها ولكنه لا يغطى وجهها، وعدم استخدامها لأى نوع من طلاء الوجه ووسائل تجميله الشائعة الآن، باستثناء الكحل حول عينيها فى مناسبات قليلة جدا. كانت تبدو دائما أكبر بكثير من سنها الحقيقى بسبب ما ترتديه من ملابس، فضلا عن بطء حركتها، وميلها إلى الحزن، واعتيادها كبت عواطفها.
كان المصدر الأساسى حينئذ «أم لعله الوحيد؟» لشعور المرأة المصرية المتزوجة بالرضا عن حياتها وبالاعتزال بنفسها هو أولادها. فإذا عرفنا بعض المعلومات البسطة عن الحياة الاجتماعية فى مصر فى ذلك الوقت تبين لنا كيف أن هذا كان أمرا محتوما. كان حظ المرأة المصرية من التعليم قريبا من الصفر، وفرص العمل أمامها خارج البيت إذا كانت من سكان المدن، شبه معدومة، والزواج يتم دون تعارف بين الزوج والزوجة، وبل وفى العادة دون أن يرى أحدهما الآخر. إذن فاحتمال افتقاد الحب المتبادل بين الزوجين احتمال كبير، واحتمال الطلاق إذا لم ترزق الزوجة بأولاد، كبير جدا أيضا.
والخطر الاقتصادى الذى يهدد الزوجة إذا تنكر لها الزوج لأى سبب، خطر مؤكد، لعدم قدرتها على كسب العيش من أى عمل خارج البيت. الأولاد إذن وثيقة تأمين ثمينة للغاية: ضد الطلاق، وضد المعاملة السيئة من جانب الزوج، وضد الفقر، ومادام الأولاد يؤدون للزوجة هذه الوظيفة فهم أيضا مصدر لرضا المرأة عن الحياة والاعتزاز بالنفس، وكذلك للتفاخر والتباهى أمام غيرها من النساء.
هكذاد كان حال أمى بالضبط، ومن ثم استطعت عن طريق استخدام الحيل أن تكون لها ثمانية أولاد، ستة من الذكور وبنتان، بعد أن فقدت ولدين قبل أن يتمّا سنة واحدة.
وكان من حسن حظها أنها لم تفقد أيا من هؤلاء الثمانية ولا أصاب أحدهم مرض خطير طوال حياتها، ولا حتى فشل أحدهم فى الحصول على وظيفة محترمة، فظلت تتباهى بنا حتى ماتت. تقول بفخر إن نعيها عندما يجيئها الموت سوف يتضمن ذكر وظائف الأولاد، واحدا بعد الآخر، وتعلن مبتهجة أن أصغر أولادها، وتؤكد على كلمة «أصغر» بمعنى أنه أقلهم شأنا، موظف فى مجلس الدولة، «إذ هكذا كنت فى سنواتها الأخيرة» فما بالك بالآخرين؟.
كان من الطبيعى، والحال كذلك، أن توجه أمى أكبر جهدها لرعاية هؤلاء الأولاد. ولكن هذه الرعاية كانت تعنى بالنسبة لأمى شيئا مختلفا تماما عما تعنيه لأمهات اليوم. إنها لا تشمل العناية بالمظهر الذى يبدون به أمام الناس، ولا مساعدتهم على النجاح فى الامتحانات أو التفوق فى الدراسة.
ولا الاهتمام بتنمية قدراتهم العقلية باختيار أحسن الألعاب التى تنمى الذكاء أو الكتب الملائمة لسنهم، ولا بتنمية قدرتهم على أداء لعبة رياضية أو موهبتهم الموسيقية، كالذى نراه من أمهات اليوم، وهن رائحات غاديات لاصطحاب أولادهن إلى هذا النادى أو ذاك، أو إلى المدرس الخصوصى ثم العودة بهم بعد انتهاء الدرس.. إلخ، بل ولا كان مما يشغل بال أمى كثيرا محاولة إدخال البهجة على نفوس الأولاد بالتفنن فى اختيار الهدايا المناسبة لهم فى أعياد الميلاد، أو التودد إلى هذا الصديق أو ذاك من أصدقائهم، تشجيعا لهم على استمرار العلاقة بينهم.. إلخ.
لا لم يكن الجهد الفائق الذى تبذله أمى لرعاية أولادها يرمى إلى هذا أو ذاك، بل كان يرمى إلى شىء واحد بسيط وواضح للغاية وهو مجرد «المحافظة على الحياة». وقد يبدو هذا القول مدهشا ولكنه صحيح، كما أنه كان يتفق تماما مع نمط الحياة التقليدية التى نشأ فى ظلها ذلك الجيل من الأمهات المصريات: نمط حياة ملىء بالصعوبات التى تعترض إشباع الحاجات الأساسية، وفكرة الموت فيه أقرب كثيرا إلى الذهن، ووقوعه أكثر احتمالا منه الآن.
والخوف مما يمكن أن يأتى به المستقبل حاضر دائما. فى ذلك النمط من الحياة التقليدية كانت نوبة من الضحك كثيرا ما تنتهى بقول أحد الضاحكين «اللهم اجعله خير..»، وكأن المرء لم يكن يصدق أن السرور يمكن أن يستمر طويلا، أو كأنه يشعر بأن هذا المرح الشديد لابد أن يكون مجرد تمهيد لحدوث شىء غير سار، ربما كعقوبة على مجرد الاسترسال فى المرح.
فى ظل شعور دفين كهذا بالخوف من المستقبل، كان من الطبيعى أن يكون الخوف مما يمكن أن يصيب الأولاد شعورا مستمرا وفى كل الظروف. فالولد تأخر فى العودة إلى البيت، فما الذى أصابه فى الطريق؟ والبنت لم ترسل خطابا منذ فترة، فهل هى مريضة؟ وفى أيام الشتاء لابد أن يرتدى الولد طبقة فوق أخرى من الملابس، ويستحسن أن تستبدل بالفانلة القطنية فانلة من الصوف.
ولو ظلت تؤلم الود بشوكها طول اليوم. وإذا سافرت الأسرة إلى الإسكندرية للاصطياف، وأراد الأولاد الاستحمام فى البحر، فهل هذا ضرورى حقا؟ وإذا سمعت أمى عن غرق شخص فى البحر انزعجت انزعاجا شديدا وسيطر عليها الخوف من أن يحدث نفس الشىء لأحد أولادها، فإذا ذهب الولد للاستحمام وكانت جالسة على الشاطئ ترقبه، ورأته يدخل بضعة أمتار فى البحر عاتبته عند رجوعه لأنه ذهب إلى أبعد من اللازم. وهل للتوغل فى البحر إلى هذا الحد أى ضرورة؟ ومادام الغرض هو الاستحمام أليس «جوه زى بره؟» كانت كثيرا ما تقول لنا هذه الجملة «جوه زى بره» بمناسبة النزول إلى البحر، وقد التصقت هذه الجملة بذاكرتى إذ إنى وجدت فيها عندما كبرت، الكثير من الحكمة.
وهى نفس الحكمة التى عبر عنها الشاعر الهندى طاغور فى مقطوعته التى يتكلم فيها عن كثرة سفره وترحاله وصعوده إلى أعلى الجبال ثم نزوله إلى أعمق الوديان، دون أن يلتفت إلى ورقة صغيرة من العشب تعلوها قطرة من الندى بجوار باب بيته. ولكن طاغور عندما كتب هذه المقطوعة لطفل هندى صغير وناولها لأم الطفل، قال لها إنه لن يفهمها الآن ولكنه سيفهمها قطعا عندما يكبر. وهذا هو ما حدث معى بالضبط. لم أفهم عبارة أمى «جوه زى برة» فى صغرى، عندما كانت رغبتى قوية فى إثبات الذات وتجربة المجهول، ولكنى فهمتها قطعا عندما كبرت.
من قصص أمى المفضلة التى كانت تعيدها على سمعى من حين لآخر ما فعلته لإنقاذ أخى حافظ من الموت. كان حافظ فى الثالثة أو الرابعة من عمره، وكانت تسير معه فى شارع قريب من بيتنا فى مصر الجديدة، عندما ترك يدها فجأة وجرى ليعبر الشارع وحده أثناء قدوم سيارة مسرعة كانت سوف تصدمه لا محالة، لولا أن أمى تصرفت بسرعة ملهمة ومدفوعة بالفطرة وحدها، إذ اندفعت وراء حافظ لتعبر الشارع هى الأخرى وهى تشعر «هكذا قالت لى» بأن السيارة ربما لن ترى حافظ لصغر حجمه بينما ستراها هى قطعا فتفرمل فى الوقت المناسب. كان هذا بالضبط ما حدث، وشعرت هى منذ ذلك الحين بالفخر لما صنعته، وهو فخر فى محله تماما.
روت لى أمى أيضا «وكررته أكثر من مرة» أنها ذهبت مرة إلى جارة لها كانت تسكن فى البيت المقابل تماما لبيتنا وكنا نسميها «زوجة العمدة». ذهبت أمى إلى زوجة العمدة لتشكو لها من أبى، ويظهر أن سبب الشكوى فى هذه المرة كان أخطر من المعتاد، إذ قالت أمى لجارتها إنها قررت أن تتركه وتطلب الطلاق.
استفظعت الجارة المخلصة ما تقوله أمى، وعاتبها بشدة على التفكير على هذا النحو، وقالت لها ما معناه: «ألا ترين القطة تقفز إلى النار لإنقاذ صغارها إذا كانت النار قد أمسكت بأحدهم؟» هدأت أمى وعدلت عن فكرة الطلاق، وظل مثل القطة التى تقفز فى النار لإنقاذ أولادها يعود إلى ذهنها المرة بعد المرة وتعيد ذكره لى.
كل هذه الأعمال والاحتياطات التى كانت تتخذها أمى كان هدفها مجرد المحافظة على حياتنا إذ إن أى شىء آخر يمكن أن يحدث لنا كان يبدو لها قليل الأهمية. وأظن أن هذا هو أيضا تفسير اهتمامها الشديد بطعامنا. كانت كثيرا ما تقول لنا وهى تقدم لنا الطعام، إذا كانت فى حالة مزاجية جيدة: «إنما نطعمكم لوجه الله» وقد تضيف «لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا». ولكن أمى كانت لديها عدة أفكار تبدو مدهشة الآن، عما يحقق هذا الغرض وما لا يحققه، ولم تكن تشك قط فى صحتها. فالسمن والزبد الحيوانى ضرورى جدا، وأى سمن أو زبد مستخلص من النبات لا نفع فيه. ،اللحوم ضرورية جدا أيضا ولا يغنى عنها أى شىء آخر. كانت تعتذر اعتذارا صادقا، إذا قدمت إلينا عدسا فى وجبة الغذاء، إذا أرادت التوفير فى ذلك اليوم، أو إذا بحث أحدنا عن بيض فى وقت الافطار فلم يجده. ولكن لا هذا ولا ذاك يتكرر كثيرا.
لم تكن تأبه بالفول ومشتقاته، ولا تعلق أهمية كبيرة على الخضراوات، وكأن المنتجات الحيوانية هى الشرط الضرورى والكافى للصحة الجيدة. كان الطعام، وبالذات اللحوم، هى وسيلتها الأساسية فى إكرام ضيف عزيز عليها، وهو أهم ما يشغل تفكيرها إذا عرفت أن أحد أولادها سيعود من الخارج بعد غيبة طويلة. هنا تظهر أنواع من المأكولات التى لم نرها منذ فترة طويلة، إذ لابد فى هذه الحالة من ديك أو فرخة رومى أو أكثر، والأرز لابد أن يكون «بالخلطة»، أى أن يشتمل فضلا عن المكسرات والزبيب على قطع صغيرة من الكبد.. إلخ.
أدى اعتيادى على مثل هذا المستوى من الطعام، إلى إصابتنا «أو على الأقل إصابة البعض منا» بالبطر، والإصرار على المحافظة على هذا المستوى تحت أى ظرف من الظروف، حتى إن بعضنا كان يرتكب أحيانا حماقات بالغة إذا اكتشف أن الطعام أقل من المستوى المتوقع. أذكر أن أخى محمد ذهب إلى حد إلقاء صينية بطاطس فاخرة بأكملها «أم أنها كانت صينية سمك؟» من الشرفة لغضبه عليها لسبب أو آخر.
القصة شهيرة فى عائلتنا ولكنى لا أذكر سبب غضبه بالضبط. هل كان السبب أنه كان يتوقع طعاما آخر؟ أم أن الغذاء فى اليوم السابق كان يتضمن صينية بطاطس أو سمك مماثلة؟ المهم أن هذا قد حدث، وأذكر قطع البطاطس والطماطم وهى عالقة بأوراق شجرة الجوافة، ومحاولة أمى تهدئة أخى. نعم، كان المدهش فى الأمر أن والدتى لم تنهر أخى محمد أو توبخه على فعلته هذه البالغة الحماقة، والاستهتار، بل قبلت الإهانة ووعدته بألا تعود إلى مثل هذا مرة أخرى. وربما كان أكثر ما أثار قلقها، فى تلك اللحظة، هو احتمال أن يؤدى غضب أخى محمد الشديد إلى الإضرار على نحو ما بصحته.
أمى وعمتى
كان هذا الخوف الشديد من احتمال أن يلحق أى أذى بأى من أولادها، الذكور أو الإناث، لابد أن يؤدى بأمى إلى الخوف الشديد من الحسد. عندما أتذكر الآن كم كانت كلمة «الحسد» تتردد على أسماعنا فى صباى، وألاحظ شبه اختفائها تماما الآن فيما يدور من حديث فى عائلتنا، أتعجب من عمق التغير الذى طرأ على حياتنا الاجتماعية، ومن طول المسافة التى تفصل بين طريقة تفكير أمى وجيلها من النساء المصريات وبين تفكير أولادى وجيلهم، إذ لا أذكر أنى سمعت كلمة «الحسد» ترد على لسان ابنتى أو أحد ولدى، إلا على سبيل المزاح، بل ويندر هذا أيضا.
على العكس كان اعتقاد أمى وجيلها فى الحسد شيئا جادا جدا ولا يحتمل المزاح. لقد كتب أبى فى مذكراته أنه عندما ولد له ابنه الأكبر جاءه من يقول له: «إن الله رزقه ببنت جميلة»، منعا لانتشار خبر وصول ابن ذكر فيصيبه الحسد. لم تكن أمى تبالغ فى الاعتقاد بالحسد مثلما كان غيرها من نساء العائلة، ولا كان استخدام البخور يعتبر ضروريا فى بيتنا كما كان فى غيره، ولكن أمى كانت تميل قطعا إلى كتمان الأخبار السارة أو التقليل عمدا من أهميتها، وإلى التأكيد على الجوانب السلبية فى حياتها أو حياة أولادها، ذرا للرماد فى الأعين الحاسدة.
من القصص المشهورة فى أسرتنا والدالة على قوة اعتقاد أمى فى الحسد، ما حدث مرة وكاد يؤدى إلى طلاق أخى حافظ من زوجته. كنا جالسين لتناول الغذاء أنا وأمى وحافظ وأحمد وحسين، عندما سمعنا دقا على الباب وكان القادم رجلا ذا مهنة مهمة جدا فى تلك الأيام «منتصف الخمسينيات» وهى «إصلاح بابور الجاز» لم نكن نعرف فى ذلك الوقت مواقد الغاز أو الكهرباء، ولا كان فى البيت فرن توضع فيه الصوانى وتشوى فيه اللحوم، بل كان مثل هذا يحتاج إلى إرسال الطعام إلى فرن عام، فيحمل الخادم أو الخادمة الصينية بالطعام إلى الفرن ثم يذهب مرة أخرى لإحضارها كانت وسيلة الطهى الوحيدة وكذلك غلى الماء لعمل الشاى أو غيره.
أو تسخينه للاستحمام فى الشتاء هو «بابور الجاز» وهو جهاز بسيط للغاية ولكنه خطر للغاية أيضا، إذ تكفى حركة بسيطة غير مقصودة لسقوطه وإشعال النار فى أى شىء قريب منه، ومع ذلك فلم يكن من الممكن الاستغناء عنه. ولهذا السبب، فضلا عن سهولة إصابته بالعطب، نشأت هذه المهنة المهمة «إصلاح بابور الجاز» التى كثيرا ما كان القائم بها يدور فى الشوارع صائحا «نصلح بابور الجاز» دخل الرجل البيت وقادته أمى إلى المطبخ ليفحص البابور.
وأثناء سيره فى الصالة لمحنا ونحن جالسون إلى المائدة فسأل أمى سؤالا فظيعا «هل كل هؤلاء أولادك؟» كان السؤال فظيعا فى نظر أمى إذ إن معناه المؤكد الحسد، وما يمكن أن تؤدى إليه «عين الحسود» من أذى للأولاد. فأجابت أمى بطريقة تلقائية بالنفى، وأشارت إلى حافظ قائلة: «هذا الولد أمه طليانية» كانت الإجابة فى نظرنا مضحكة للغاية واستمرت كذلك لسنوات كثيرة.
إذ كيف خطرت ببال أمى هذه الإجابة الغريبة بهذه السرعة؟ وما هذه الحاجة الماسة للكذب؟ ثم لماذا حافظ بالذات؟ كان من السهل الإجابة على السؤال الأخير، إذ كان لحافظ بعكس بقية الإخوة، شعر ناعم جميل ينسال أحيانا على جبهته فيجعل من الممكن أن يظن من يراه أنه أوروبى. هكذا تعاملت أمى مع المشكلة ولابد أن الرجل صدقها، وكذلك الخادم «حمامة» الذى سمع السؤال والجواب، واحتفظ بهذه المعلومة فى نفسه.
ثم تزوج حافظ وسكن مع عروسه الجديد فى منزلنا حتى يتم إعداد بيت الزوجية، وخرج حافظ مرة لعمله فإذا بحمامة يقول للعروس الجديدة: «تعرفى يا ست مها، سى حافظ مش أخو سى حسين ولا سى أحمد ولا سى جلال! «فانزعجت زوجة أخى بشدة وسألته باستغراب عما يعرفه عن هذا الأمر فأجابها بدون أن يعترى كلامه أى نبرة شك «سى حافظ أمه طليانية..!» كان من الصعب جدا على حافظ إقناع عروسه بغير ذلك، إذ ما الذى يمكن أن يدفع الخادم إلى اختراع شىء كهذا؟.
كان من المألوف أيضا أن يخشى المرء الذى يؤمن إيمانا عميقا بالحسد بعض العيون أكثر مما يخشى غيرها، وكانت أشد ما تخشاه أمى فيما يتعلق بالحسد هى عين عمتى «أم زكى» وهى شقيقة أبى الكبرى ولكن لهذه العمة وعلاقتها بأمى قصة لابد أن تروى.
كانت عمتى «أم زكى»، «هكذا كنا نسميها ولا نعرف لها اسما آخر» امرأة قوية الشخصية ذكية، يعمل لها حسابا كل أفراد أسرتها، ويعاملها أبى باحترام يزيد عما يعامل به أخته الصغرى منه (أم محمود). وقد ساءت علاقة عمتى (أم زكى) بأمى منذ البداية، بل حتى من قبل أن يتم زواج أمى بأبى، إذ كانت العادة أن يرسل الرجل الراغب فى الزواج، بعض نساء أسرته للتعرف على أسرة الفتاة المرشحة له، ورؤية الفتاة نفسها وفحصها جيدا، ثم رفع تقرير مفصل للزوج المحتمل، عن كل ما رأوه وسمعوه مصحوبا برأيهم فى ملاءمة الزواج أو عدم ملاءمته. ذهبت عمتى وزوجة عم لى كان قد مات منذ زمن.
لرؤية أمى وكانت النتيجة إيجابية. ولكن المشاكل بدأت عندما ذهبت المرأتان لتفقد بيت الزوجية الذى سوف ينتقل إليه أبى وأمى بعد الزواج، للتحقق من أن المهر الذى دفعه أبى لأهل العروس قد أُحسن استخدامه، وأن «الجهاز» يحتوى على كل ما يحتاجه أبى من وسائل الراحة. رجعت عمتى إلى أبى ساخطة لأنها لم تجد «كنكة» للقهوة من بين أدوات المطبخ، وتساءل عما يمكن أن تظنه تلك الأسرة بأخيها إذ تحرمه من هذه الكنكة الضرورية لحياته. ظلت أمى تذكر قصة «الكنكة» هذه، وتحكيها لنا ضاحكة مرة، وعابسة مرة، كلما تذكرت عدد المرات التى حاولت فيها عمتى إيقاع الأذى بها.
كانت الغيرة والشقاق بين أم الزوج وشقيقاته من ناحية، وبين الزوجة من ناحية أخرى، أمرا يعتبر من قبيل المسلّمات فى صباى، ومن أكثر الموضوعات التى يتندر بها الكاريكاتير فى الصحف والمجلات، وهو أمر يعكس أيضا جانبا من حالة النساء المصريات فى ذلك العصر، كان مما يعتبر من المسلمات فى ذلك الوقت أن الأخ مسئول عن تقديم كل أنواع الدعم لشقيقاته كلما احتجن إليه، خاصة إذا كانت الأخت (كما فى حالة عمتى) قد فقدت زوجها.
وأقل يسارا بكثير من أخيها. والأخت التى تنظر إلى أخيها هذه النظرة لابد أن تعتبر زوجة الأخ خطرا يهدد علاقتها هى به، وهى علاقة مهمة اقتصاديا بصرف النظر عن أى رباط عاطفى. فإذا كان الأخ ثريا واسع الرزق، فإن وجود زوجة الأخ لابد بالضرورة أن يقلل مما يمكن أن ينال الأخت من خير بسبب هذا الثراء وكثرة الكسب. كان هذا أيضا سببا قويا للغيرة والحسد، خاصة فى مجتمع فقير يخلو من أى نوع من تأمين الحياة لدى فقد الأب أو الزوج، أو لدى حدوث كارثة من أى نوع. لم يكن من الغريب إذن أن تظل علاقة أمى بعمتى من البداية إلى قرب النهاية، سيئة للغاية، حتى ولو راعت كل منهما الحد الأدنى من الأدب فى معاملة الأخرى، خوفا من غضب أبى الذى لم يكن لديه صبر على مثل هذه الأمور.
ذكرت لى أمى غيرة عمتى منها بسبب كثرة أولادها الذكور. فعندما وصل الأمر إلى حد أن تحمل أمى للمرة الثامنة (وكنت أنا المحمول فى هذه المرة)، بل العاشرة إذا أضفنا الولدين المفقودين، هزت عمتى رأسها ومصمصت شفتيها (على الطريقة الشائعة بين النساء فى ذلك الوقت، أو كما كان يقال «تصعّبت») وقالت لأبى «إحنا يا خويا حانفضل نقول لك مبروك لغاية إمتى؟». لم تنس لها أمى هذه الجملة، وربما كانت من أسباب إصرارها على مقاومة محاولات أبى لإجهاضها.
لم يكن سبب الغيرة فى هذه الحالة هو أن عتمى لم ترزق بأبناء ذكور، فقد رزقت بأربعة أولاد عاش ثلاثة منهم حتى تجاوزوا الثمانين. وإنما كان الأمر أشبه بالحرب الخفية الدائمة، أى انتصار يحرزه أحد الطرفين يعتبر خسارة للآخر. وقد كان هذا الشعور يقترن أحيانا بدرجة لا يستهان بها من القسوة، ولكنه قد يتخذ أحيانا صورا بالغة الطرافة.
زارتنا عمتى مرة فى الإسكندرية، وقررت أمى أن تستيقظ مبكرا للذهاب للاستحمام فى البحر، أو بعبارة أدق مجرد النزول إلى الماء وتغطية نفسها به لبضع دقائق. لم يكن من المألوف وقتئذ أن تنزل امرأة إلى البحر بملابسها كاملة كما نرى كثيرا اليوم. إذ مهما بلغ حرص المرأة على الاحتشام فى ذلك الوقت، كانت تخلع ملابسها وترتدى لباس البحر.
وإن كان هذا يقترن باحتياطات مبالغ فيها. كان «الاستحمام فى البحر» يعنى الاستيقاظ عند أول مطلع للشمس والوصول إلى الشاطئ عندما يكون خاليا من الناس تماما، ومن ثم لا يمكن أن يرى أحد أمى و هى تخلع الروب البشكيرى (البرنس) وتعطيه للخادمة التى جاءت بصحبتها لهذا الغرض بالضبط، أى أن تقف عند نقطة ملامسة البحر للشاطئ لتتسلم هذا البرنس منها قبل أن تختفى أمى بسرعة فى الماء. ثم تعود الخادمة فتدخل بضع خطوات أخرى فى الماء لتعيد البرنس إلى أمى حتى تغطى نفسها قبل أن تخرج تماما من الماء.
أرادت عمتى مرة أن تفعل نفس الشىء مع أمى، وأتت معها بنت أخيها المتوفى التى كانت تحمل لعمتى شعورا مماثلا لما تحمله لها أمى. خرجت أمى من البحر وجلست على الشاطئ بجوار ابنة عمى تراقبان عمتى وهى واقفة فى الماء. ثم فوجئنا بعمتى وقد أرادت الخروج من البحر تسير فى الاتجاه المعاكس بسبب ضعف بصرها، وإذا بها تتوغل بعيدا عن الشاطئ ظنا منها أنها تقترب منه. صاحت أمى بها لتخبرها بأن الشاطئ فى الناحية الأخرى، فأنقذتها بهذا من غرق محقق. ولكن المرأتين الشريرتين استغرقتا فى الضحك قبل أن تصل عمتى إليهما. وإذا بابنة عمى تقول لأمى وهى فى غاية المرح «كنتى تسبييها»!.
أذكر أيضا أمى وهو مستغرقة فى الضحك فى مناسبة أخرى، عندما سمعت أن عمتى فتحت فمها وهى تتثاءب لم تستطع إغلاقه، وظلت على هذه الحالة حتى صحبها ابنها إلى الطبيب فضغط بيده على جانبى الوجه فتحرك الفك واستطاعت عمتى أن تغلق فمها. من السهل طبعا أن يخمن القارئ ما يمكن أن يصدر من أمى من تعليقات أثناء استغراقها فى الضحك، على فتح الفم وغلقه فى حالة عمتى بالذات، إذ ما أكثر ما عانت أمى من فتح هذا الفم بلا ضرورة، وكم كانت تتمنى لو ظل مغلقا.
كانت أمى أيضا مغرمة بتقليد عمتى وهى تحاول التظاهر بأنها ضعيفة الصحة كثيرة العلل، بينما هى فى نظر أمى قوية شديدة البأس ليس بها أى علة على الإطلاق. كنت كثيرا ما أسمع عمتى عندما تأتى لزيارتنا وهى تشكو من ضعف رغبتها فى الأكل، فإذا قضت الليلة فى بيتنا كان أول ما تقوله فى الصباح «والنبى أنا ما شفت النوم بعينى». كان الهدف من هذا الزعم وذاك هو بالطبع منع الحسد، ولكن أمى كانت تتساءل بمجرد انصراف عمتى «من أين إذن جاء ذلك الشخير الذى لم ينقطع طوال الليل؟». وكانت أمى تؤكد لنا أيضا أن عمتى تنهى غذاءها، عندما تكون وحدها، بالتهام ما لا يقل عن عشرين برتقالة، وأن هذا هو سر تمتعها المستمر بالصحة والعافية.
ثم حدث ما أدى إلى تدهور علاقة أمى بعمتى تدهورا خطيرا. ذلك ان ابن عمتى هذه تقدم لأبى ليخطب منه أختى الصغرى. كان مثل هذا الزواج شائعا فى ذلك الوقت أكثر بكثير منه الآن: أن يتزوج الشاب ابنة خاله أو عمه.
وافق أبى دون تردد، ولكن أمى انزعجت لذلك انزعاجا شديدا وإن لم يكن لديها أى أمل فى إثناء أبى عن رأيه. كانت متأكدة من أن عمتى هى صاحبة هذه الفكرة، وأنها هى التى دفعت ابنها دفعا للتقدم للزواج، وكان معنى إتمام هذا الزواج أن تحصل العمة على سلاح جديد مهم فى معركتها المستمرة مع أمى، إذ إن البنت الآن واقعة فى دائرة نفوذها، ويمكن عن طريقها التأثير فى الأب وإغاظة الأم.
كظمت أمى غيظها رغما عنها، إذ لم يكن أمامها طريق آخر، ولكنها ظلت طول حياتها تسىء معاملة زوج ابنتها فى كل فرصة تتاح لها، وانعكس هذا بالضرورة على علاقتها بأحفادها من هذا الزوج بل وعلى علاقتها بابنتها نفسها. فالبنت، وإن كانت كثيرا ما تأتى لأمها لتشكو من زوجها لسبب أو آخر، كانت فى قرارة نفسها تتمنى ألا يصل العداء بين أمها وزوجها إلى هذا الحد. كان الأمر فى نظر أمى لا يزيد على أن أختى قد انضمت بزواجها إلى معسكر الأعداء، وهو أمر يستدعى الأسف بالطبع، ولكنه أيضا يستدعى توسيع دائرة القتال.
ولكن الزمن فى النهاية هو بلسم جميع الجراح. فمع تقدم أمى وعمتى فى السن انشغلت كل منهما بصحتها أكثر من انشغالها بالتنغيص على الأخرى. وقد نجحت عمتى فى الاحتفاظ بصحة جيدة لوقت أطول كثيرا من أمى، وظلت أمى تشير إلى هذا الفارق بغيظ أيضا. وسألت الطبيب مرة لما ترى بعض النساء اللاتى يتقدم بهن العمر (وهى تقصد عمتى بالطبع) يحتفظن بصحة جيدة، بينما هى، وهى الأصغر كثيرا، تتردى صحتها عاما بعد عام؟ رد عليها الطبيب ردا لم يعجبها، إذ قال لها إن هناك أيضا من النساء من هن أصغر منها سنا وأسوأ صحة.
عندما مات أبى فقدت عمتى أهم وسيلة يمكنها عن طريقها التنغيص على والدتى، واستمرت العمة فى زيارتنا حتى بعد وفاة أبى، تأدية لواجب أو حتى للتسلى بالحديث. وقد صدرت منى مرة جملة قلتها لأمى ومعناها إنه يسرنى رؤية عمتى من حين لآخر لشدة شبهها بأبى، فهى تذكرنى به. ونقلت أمى فى لحظة صفاء، هذه الجملة لعمتى وإن كانت قد صاغتها بطريقتها فقالت إن جلال يقول.. «لأنك من ريحة أبويا»، وهو ما سرت العمة بالطبع بسماعه.
تدهور صحة أمى بعد وفاة أبى بسرعة، إذ شعرت بالوحدة بعده مع تفرق أولادها فى كل مكان. كان أخى محمد يدرس فى جامعة الإسكندرية، ويعيش هناك مع زوجته وأولاده ولا يأتى إلى القاهرة إلا لماما، وأخى عبدالحميد كان يحضر دكتوراه ثانية فى ألمانيا، وأحمد يتمرن فى شركة سيموندس فى ألمانيا أيضا، وفاطمة مع زوجها فى لندن، حيث كان يعمل فى مكتب البعثات، وحسين فى لندن أيضا يعمل فى الإذاعة البريطانية.
كان مازال ثلاثة من أولادها بجوارها فى مصر، أنا وحافظ ونعيمة، وكنت أنا الوحيد منهم الذى لم يتزوج بعد، ولكنى كنت قد تخرجت وتوظفت ولم أعد فى حاجة إلى رعايتها المستمرة. مع ازدياد شعورها بقلة أهمية الوظيفة التى تؤديها فى الحياة زاد إهمالها لصحتها. واشتد قلقى عليها، فمع وفاة أبى وتدهور صحتها شعرت باقتراب الموت من أمى، وكنت أستيقظ أحيانا مذعورا من فكرة أنى قد أفقد أمى أيضا. حاولت فى السنتين الأخيرتين أن أجد طريقة أو أخرى لتسليتها.
ولكنها أصبحت عازفة عن الخروج وتجد عناء فى القيام بأى جهد. نجحت مرة فى إقناعها بالمجىء معى إلى رأس البر حيث اتفقت مع صديق لى على الذهاب وجاءت هى معنا، ولكنها أصرت على عدم النزول فى الفندق الفاخر الذى نزلت وصديقى فيه، وكانت حجتها أنها لن تجد فيه من تستطيع أن تكلمه، وفضلت فندقا شعبيا ومتواضعا للغاية وجدت فيه سيدتين فى مثل سنها يمكنها أن تتبادل معهما الكلام. وكنت أمر عليها قرب المغرب من كل يوم بعد انتهاء الاستحمام فى البحر، وأحاول أن أقنعها بالتمشية معى على النيل، فإذا قبلت كانت تطلب منى التوقف كل بضع خطوات لالتقاط الأنفاس أو الجلوس على أحد المقاعد المرصوصة على الطريق.
كانت أمى على هذه الحال عندما سافرت فى بعثتى إلى إنجلترا فى يناير 1958، بعد وفاة أبى بثلاث سنوات، ولم تستطع النزول لتوديعى وأنا أركب السيارة للذهاب إلى محطة القطار. واكتفت بالتلويح لى من الشرفة. تصورت ما يمكن أن يدور بخلدها فى تلك اللحظة. «ها هو الابن الأصغر يسافر هو الآخر، فى سلسلة طويلة من الوداع والاستقبال، ولكن يبدو أن هذه هى المرة الأخيرة».
كانت بالفعل هى المرة الأخيرة التى رأيتها فيها. ظلت لأكثر من عام وأنا فى إنجلترا أتلهف على خطاب منها، وهى لا تكتب إلا على مضض استجابة لإلحاحى عليها بالكتابة بنفسها وعدم الاكتفاء بما يقوله أخى حسين عن صحتها. وهى إذا كتبت تكتب خطابا قصيرا للغاية وإن كان بخط جيد وواضح. وتكرر عبارتها المعتادة «كل شىء على ما يرام، ولا ينقصنا إلا رؤياك»، مع التأكيد على أن أحترس من البرد.
جاءنى خبر وفاتها فى مايو 1959 فى خطاب حزين من حسين. ولابد أن أعترف. مع ذلك، بأنه على الرغم من كل ما كنت أشعر به من قلق وخوف عليها قبيل وفاتها، جاءنى الخبر وأنا فى حالة مختلفة تماما. كنت قد دخلت قبل وصول الخطاب بنحو أسبوع فى علاقة حميمة مع فتاة إنجليزية، بعد حرمان طويل، أشعرتنى بثقة كبيرة فى نفسى، فلما علمت بالخبر كان وقعه على أخف بكثير مما كنت أتوقع. ظللت سنوات طويلة، بعد هذا، أشعر بالذنب لضعف استجابتى لمشاعر الحزن لوفاة والدتى، وقد كانت ملاحظتى لضعف استجابتى لهذا الخبر هى أول ملاحظة سلسلة طويلة من الملاحظات التى أكدت لى أن الإنسان هو فى أعماقه كائن وغد. وأظن أن هذا الشعور بالذنب استقر فى اللا شعور إلى ما بعد عودتى إلى مصر من البعثة، إذ تكرر قيامى من النوم منزعجا ومكتئبا جدا.
ربما ثلاث أو أربع مرات خلال ما يقرب من عشر سنوات، بسبب حلم فظيع كان يتكرر كما هو بالضبط فى كل مرة، رغم ندرة ما أذكره من أحلام طوال حياتى. كان الحلم يسير كما يلى: «عدت من البعثة وسكنت وحدى لسبب غير واضح، فى شقة بعيدة عن البيت الذى تعيش فيه أمى، وحدها أيضا. وفى كل يوم أقول لنفسى يجب أن أزور أمى اليوم، إذ إنى لم أزرها منذ عودتى من البعثة، ثم لا تتحقق الزيارة، ويتكرر هذا يوما بعد يوم حتى ماتت دون أن أراها».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.