الوقاية خير من العلاج، جملة دارجة ترددها الألسن، وتكتب على جدران المدارس للنشء، غير أنه على أرض الواقع ليس لهذه الجملة محل من الإعراب فى قاموس المسئولين، فعلى رغم تكبد الدولة سنوياً عشرات المليارات نتيجة تقديم العلاج لمن يسكن أجسادهم الأمراض، نتيجة الإصابة بفيروسات قاتلة أو أمراض المعدة والجهاز الهضمى بسبب تلوث المياه والأطعمة، ورغم أن فاتورة دعم العلاج تزداد عاماً بعد الآخر، فإن المسئولين بدلاً من أن يسعوا لتفعيل آليات الوقاية ومحاربة الفاسدين، تركوا يد الإهمال تفترس المواطنين ضحايا انعدام الضمير بمقلب «شبرامنت». عم محمد مواطن من شبرامنت يذهب إلى السوبر ماركت، ليشترى بعض المنتجات الغذائية، ثم يقول للبائع «البضاعة دى من المقلب ولا سليمة»، فيضحك البائع ويرد «سليمة اطمن يا عم محمد»! الحكاية بدأت منذ ستة عشر عاماً، عندما خصصت محافظة الجيزة منطقة بالمحاجر والجبال فى الصحراء، ليتم فيها فرز المخلفات، ومنتجات الشركات، وتدوير ودفن غير الصالح منها، ويعتبر أكبر مقالب القاهرة الكبرى، مخصص لدفن المخلفات وإعدام المنتجات المنتهية الصلاحية على عمق 30 متراً تقريباً، ويبلغ عدد السيارات التى تدخل يومياً المقلب تتراوح بين «200 و500» بواقع 7 أطنان للسيارة الواحدة. يومياً تعود المنتجات الخاصة بالشركات الغذائية التى يجب إعدامها فى مقلب شبرامنت بالجيزة إلى الأسواق مرة أخرى وتباع للمواطنين فى القرى المحيطة والمناطق القريبة من المقلب عن طريق تجار ضعاف النفوس بالمحلات، حيث يتم إعادة فرزها فى مخازن سرية لهؤلاء التجار وبيعها للسوبر ماركت والبقالة خاصة المنتشرة أمام المدارس بأسعار أرخص من ربع سعرها المتعارف عليه، وهكذا يتم جنى الأرباح مقابل الموت والمرض للمواطنين نتيجة أغذية فاسدة لغياب الضمير. هنا منطقة شبرامنت منتجات مجهولة المصدر تباع للمارة والأهالى، والبعض الآخر مدون عليه أسماء كبرى شركات الأغذية الشهيرة أرسلت منتجاتها لتعدم، لكن يتم مقاولة التجار مع بعض القائمين على المقلب ليتم إعدام شكلى أمام اللجنة المخصصة للإعدامات، التى تحضر بموجب محضر رسمى ثم بعد انتهاء اللجنة يتم إخراج وتنظيف المنتجات وبيعها للتجار من قبل العاملين بالمقلب. وتخضع إدارة المقلب لهيئة النظافة والتجميل بالجيزة، أما ملكية المقلب، فتخضع لأحد المقاولين الذى يقوم فى مناقصة علنية بشراء المقلب ومخصصاته. انتقلت عدسة جريدة «الوفد» لتلتقى مع بعض الأهالى والعمال السابقين فى المقلب، وقالت سعاد أيمن -من سكان المنطقة- إن المنتجات الفاسدة تباع بصفة يومية فى الأكشاك والسوبر ماركت والتجار وتشمل جميع الأطعمة، مثل: «التونة - البلوبيف - اللانشون - المربى»، ويدفع الفقر الأطفال وبعض الأهالى للمغامرة بحياتهم وشراء المنتجات وتناولها. وأضافت: «الأطفال أمام المدارس بيشتروا المنتجات الفاسدة، لأنهم بيلاقوها رخيصة وبتتباع مثل الشيبسى والكيك، وهو ما يعرض الأطفال للإصابة بالأمراض. وأكد خالد محمد -أحد العمال السابقين فى المقلب- أن المقلب يتم التنسيق مع التجار بعد مغادرة اللجنة ويتم تسليمهم المنتجات مقابل بعض الأموال تذهب لصاحب المقلب، بالإضافة إلى أن العمال يتناولون المنتجات وأحياناً يستحوذون عليها لإطعام أسرهم. وبخصوص طبيعة عمل العمال داخل المقلب بأن اليومية تتوقف على قدر إنتاج العامل، سواء كان فرز أو دفن قائلاً: «العمال ملهمش تأمين صحى ولا عوامل الأمان داخل المقلب وكمان المنتجات كلها مبتتعدمش وبيدوها لتجار تنزل السوق». وأرشدنا أحد العمال السابقين فى المقلب إلى أحد المخازن المخصصة لإعادة المنتجات الغذائية للسوق وبالفعل ذهبنا إلى هناك، واستطعنا التقاط وتسجيل بعض اللقطات الخاصة بمرحلة إعادة منتجات الإعدامات إلى السوق مرة أخرى. وطالب عزت عويان، محام، من أهالى -منطقة شبرامنت- بتشديد عقوبة الغش فى المنتجات الغذائية قائلاً: «ينص القانون رقم 48 لسنة 1941 والمعدل بالقانون رقم 281 لسنة 1994 والمسمى بقانون قمع الغش والتدليس، معاقبة تجار الفساد والموت، بعقوبات تبدأ من الحبس سنة حتى مدة لا تجاوز 7 سنوات وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تتجاوز أربعين ألف جنيه، أو ما يعادل قيمة السلعة موضوع الجريمة، أيهما أكبر إذا كانت الأغذية أو المنتجات المغشوشة أو الفاسدة أو التى انتهى تاريخ صلاحيتها أو كانت المواد التى تستعمل فى الغش ضارة بصحة الإنسان». وعلى الجانب الآخر، رفض مدير المقلب المهندس نبيل زايد، الحديث عن المشكلة، وأكد أنه موظف تابع لهيئة النظافة فقط ومهمته إدارة المقلب، وأن هناك صاحب «مقاول» المقلب هو المسئول عن كل شىء يخص المقلب. وبشأن مخاطر تناول المنتجات الفاسدة وأثرها، قال الدكتور نبيل عبدالمقصود، رئيس قسم علاج السموم بكلية طب قصر العينى، رئيس الجمعية المصرية لعلاج السموم البيئية، إن المنتجات الفاسدة تسبب العديد من الأمراض، وعلى سبيل المثال منتجات الألبان ومشتقاته تكون ميكروبات تسبب النزلات المعوية الحادة وأمراض المعدة. المعلبات المنتهية الصلاحية، مثل «التونة، الأسماك، اللحوم المصنعة» تحوى من السموم والميكروبات ما يضر الجهازين الهضمى والعصبى، وتؤدى لحدوث نزلات معوية وتسمم غذائى. وأكد محمود دياب، المتحدث الرسمى باسم وزارة التموين، أن هناك حملات تفتيشية يومياً على المخازن لضبط التجار معدومى الضمير الذين يتاجرون فى صحة المواطنين، ويبتاعون سلع ومنتجات منتهية الصلاحية أو قاربت على الانتهاء، لافتاً إلى أن الحملات أسفرت عن ضبط العام الماضى 1350 طن أغذية وأطعمة فاسدة. أما هيئة نظافة الجيزة، فردت بأن المسئول عن المقلب، هو مدير المقلب نفسه، وهو المختص بكل شىء إدارياً بخصوص مقلب شبرامنت. وما بين تنكر المسئولين والجهات المختلفة، يظل المواطنون والأطفال خاصة ضحايا للفساد والإهمال وفريسة لمعدومى الضمير لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة على حساب صحة المواطن.