بعد أن استغرق الكتاب والفنانون بالمرحلة الرومانتكية في ينابيع الخيال، وملّ الناس والجمهور الأحاديث الخيالية المترعة بالشخصيات الأسطورية والكائنات الميثيولوجية، ظهرت الحركات الواقعية والطبيعية كرد فعل على ذلك الإغراق فى الخيال. فعمد الكتاب والفنانون إلى تصوير الحياة بكل تفاصيلها بدقة شديدة ومبالغة. وتزامن هذا مع البعد عن الدين وانتشار الغنوصية والإلحاد بين الأوروبيين، لا سيما طبقة المثقفين والأدباء والفنانين. وفي ظل الانقطاع عن العالم الميتافيزيقي، انحصر فكر هؤلاء الكتاب فى حيز الواقع المكاني والزماني الضيق، فلم تلبث الحركة الواقعية والطبيعية حتى ضاق بها الكتاب والجمهور ذرعا، لكنهم لم يخرجوا من الحيز الواقعي الضيق إلى رحاب ما ورائية أوسع وأرحب، بل ظلوا فى نفس النطاق يمارسون فنهم وكتاباتهم. فقاموا بتفكيك الواقع وإعادة ترتيب مفرداته وفقا لرؤاهم الشخصية النسبية الذاتية. من هنا بدأت تظهر الحركات السريالية والتعبيرية والرمزية (أو الرمزانية) في الأدب والرسم على حد سواء، ولكن فن الرسم قطع شوطا أطول من ذلك فتمخضت السريالية عن الدادية، وظهرت الفنون التجريدية والتكعيبية التي بلغت أوج نضجها على يد بيكاسو، وظهرت الانطباعية ثم ما بعد الانطباعية، وهنا نجد أن الصيرورة أخذت تدب إلى جسد الحياة الثقافية، فلا يلبث شكل من الأشكال الفنية أو الأدبية فى الظهور حتى يتم تجاوزه والتمرد عليه والبحث عن شكل آخر جديد، وهذه هى السمة العامة فى عصر الحداثة والتى كشفت عن وجهها بشكل أكثر فجاجة فى عصر ما بعد الحداثة. أرى أن هذا قد نتج عن قطع الحبل السُري الذى كان يصل الأرض بالسماء، والاكتفاء بالمادية كنموذج تفسيرى ترد إليه الظواهر كلها بما فيها المجردة، وهو ما أدى إلى إنزواء الإنسان داخل مجال ضيق للغاية ومحدود للغاية، مما يذكرنا بقول الله تعالى: ".. وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم". هذا الضيق وهذه الحالة من الضجر والملل أصابت قطاعا عريضا من الفنانين والأدباء الذين تمرغوا بين الوجودية والغنوصية والبوهيمية، ففقدوا القدرة على الثبات وتاهوا فى دوامات الصيرورة ونالت الثقافة الاستهلاكية من الثقافة العامة. فما أن تبدأ نظرية أو تيار فني أو أدبي في الذبول والخمول، حتى يتم البحث عن آخر جديد يحقق الرضا للجمهور المتعطش للجديد. ومن هنا، بدأت تتحكم آليات رأسمالية السوق في توجيه الفن والأدب، الذي أصبح مجرد سلعة يتم تنميقها وتهذيبها وفقا لمعايير العرض والطلب.