فى البدء كان الرسم، لم يكن الإنسان فى الكهوف الأولى قد عرف الكتابة بعد، فكان الرسم وسيلته للتعبير عن احتياجاته وللتواصل مع أقرانه. خرج الإنسان من كهفه وتبلور الرسم ليصبح فنا رفيعا يتطور عبر القرون، يقترن مرة بالطقس الدينى، ومرة أخرى بالدنيوى، يحاكى الطبيعة حينا، ويتمرد عليها حينا آخر. وفى رحلته الطويلة من مجرد نقوش على الجدران إلى اللوحات التجريدية، أصبح الرسم بالنسبة للكثيرين هو فن الخاصة والصفوة الذى لا يعرف أسراره إلا العالم الخبير. لهؤلاء القرّاء المحبين للفن، الذين لا يعرفون كيف يسلكون دروبه الصعبة، وإلى الناشئة الذين لا ينبغى أن يفوتهم التطور الهائل لفن الرسم الذى برع فيه أجدادهم الأوائل، يقدم هذا الكتاب «قصة الرسم» القصة كاملة فى شكل مبسط من الكهوف إلى الكلاسيكية، ومن عصر النهضة إلى تكنولوجيا اليوم. صدرت عن دار الشروق الترجمة العربية لقصة الرسم وهو من إعداد «أبيجايل ويتلى»، وقامت بتحريره أميرة أبو المجد وترجمته نوران إبراهيم، ورسوم «إيو ماير» و«إيان ماكنى». قصة تطور فن الرسم يقدم الكتاب تطور فن الرسم فى صورة قصة مثلما تروى حكاية شيّقة على مستمعيها، أو بشكل أدق، كما تقدم اليوم المعلومة عبر الوسائط المتعددة لنرى خلفياتها والشكل الموضح لها عبر شاشة جذابة تتفاعل مع أسئلة المتلقى، على الرغم من أنه لا يتعدى الصورة المعروفة للكتاب. يبدأ الكتاب بجملة «لا يعلم أحد على وجه التحديد أين ومتى بدأت قصة الرسم»، فالمعلوم أن الناس بدأت فى رسم النقوش والعلامات منذ عشرات الآلاف من السنين، ثم محيت آثارها وطمستها عوامل الطبيعة، وأصبح الدليل الأول على وجود «رسامين أوائل» هو الرسوم التى وجدت فى أعماق الكهوف منذ ما يقرب من 30 ألف سنة. وكشفت رسوم الحيوانات التى وجدت على الصخور أنها ليست من صنع رسامين، بل كانت رسوم صيّادين يعيشون على صيد الحيوانات، ويرجح أنها كانت نوعا من الطقس السحرى المرتبط بالصيد. وبينما ترجع الرسوم الجدارية الأولى إلى ما يقرب من 8000 عام، حين لجأ الناس لبسط مادة الجص على واجهات بيوتهم ثم تزيينها ورسمها، يرجع الفن المصرى إلى ما يربو على 5000 عام حين شرع المصرى القديم فى رسم صور ملونة شديدة الدقة على جدران المعابد والمقابر والقصور، وكان الرسم التفصيلى للحياة العائلية ومسيرة المتوفى فى حياته اليومية ورصد ميزان أعماله مرتبطا بمعتقدات راسخة لدى قدماء المصريين «أن صورهم تمتلك قدرات مذهلة، فكان يتم تصميم رسوم المقابر لتساعد روح الميت فى العبور بسلام للآخرة، وهى المكان السحرى الذى يفترض أن يعيش فيه الأموات فى سعادة أبدية». تأثر الرسم اليونانى القديم بأفكار وأساليب المصريين القدماء التى انتقلت إليهم عبر حياة البحارة ثم تطور الرسم اليونانى ليعرف بالأسلوب الكلاسيكى الذى لا يكتفى بمحاكاة الواقع ولكن يضيف إليه ويعطيه بعدا مثاليا. وظل الإغريق لقرون طويلة «عباقرة العالم القديم» عبر إمبراطوريتهم الواسعة، وظهر الفن الرومانى منذ 2000 عام، فاعتمد على تقنية «الفريسكو» أو التصوير الجصى الذى برع فيه الإغريق وقدموا حلولا عديدة للصباغات وتوصلوا إلى طلاء مضاد للمياه. وبالرغم من أن فترة العصور الوسطى شهدت صراعات وحروبا ضارية فى أوروبا لم تتسع لنشر الفنون والثقافة، فإن الهدوء النسبى فى مدينة قسطنطينية شجع الرسامين البيزنطيين على الإبداع، فاستخدموا نفس تقنيات الرومان فى صنع رسوم مسيحية على الألواح الخشبية تصور القديسين. وعرفت هذه الرسوم بفن الأيقونة وهى كما يرد فى الكتاب المرادف اليونانى لكلمة «صور». كما شهدت العصور الوسطى تحولا فى النظرة إلى الفن وأصبح الرسم من أجل الربح، حيث دفع الملوك والنبلاء أموالا طائلة للحصول على اللوحات لتجميل قصورهم أو تزيين كنائسهم، وظهرت فى تلك الفترة «ورشة الرسام» التى تعتمد على مساعدين للفنان حتى يلبى حاجات السوق المتسارعة، وبدأ الرسم فى عبور الحدود منذ عام 1300 فى قلب العصور الوسطى أيضا حين تعرف الملوك والأثرياء على أنماط مختلفة من الرسم عبر تنقلاتهم فى التجارة عبر أوروبا وقاموا بدعوة الفنانين الأجانب للعمل لديهم وتوظيف الأساليب الجديدة فى أعمالهم، «وكان الرسم فى طريقه ليصبح تجارة عالمية بحق». والمعروف أنه حتى القرن التاسع عشر كان العامل الدينى ملهما ومؤثرا فى العديد من الأعمال الفنية، فأثناء الاضطهاد الرومانى للمسيحية، سجل المسيحيون الأوائل مشاهد من الإنجيل على جدران مخابئهم وأقبيتهم، حتى إذا انهارت الإمبراطورية الرومانية كانوا هم الحافظون على فن الرسم. أما البيزنطيون فقد أضفوا على لوحاتهم قدسية خاصة معتقدين كما يوضح الكتاب «أن بعض تلك الصور كانت مرسلة من الله إلى الأرض، قام الرسامون بنسخ وتقليد تلك الصور مرارا وتكرارا، كما ألصقوا الذهب عليها لإظهار مدى قيمتها». اكتشاف ألوان الزيت وعمق اللوحة ثم شهد عصر النهضة، فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ثورة فى الفن والثقافة الأوروبيين، وكانت من إنجازاته الاحتفاء بالقيم الكلاسيكية، والتوصل إلى تقنية ألوان الزيت التى ظهرت فى هولندا فى القرن الخامس عشر، بعد أن كان المنتشر هو طلاء «تمبرا البيض» سريع الجفاف. «كانت النتيجة هى ألوان الزيت، التى تجف ببطء. مما يعنى أن الرسامين قد أصبحوا الآن قادرين على إدخال التحسينات والتغييرات على الصورة أثناء رسمها.» وأصبح لدى فنانى النهضة الإيطاليين خاصة هوسا كلاسيكيا، فاستلهموا من التماثيل الكلاسيكية واستعانوا بالقصص الإغريقى والرومانى ولكن بأسلوب مفعم بالحياة وانتشر هذا الهوس فى أوروبا كلها. كما تأسست خلال عصر النهضة القواعد الجمالية لفن الصورة التى استقرت لقرون بعدها، مثل ما يعرف ب«المنظور» الذى يعطى إحساسا بالعمق فى اللوحة. «اكتشف معمارى فلورنسى يسمى فيليبو برونيليشى» ما يعرف بالمنظور، وهو طريقة مضمونة لرسم المسافات بطريقة مقنعة للغاية، وذلك حتى تبدو اللوحات مثل المساحات الحقيقية، وليس كالأسطح المنبسطة...». بدايات التمرد ورسم الحياة اليومية وعلى عكس الكتب التعريفية التى تقدم أوليات ومبادىء الفنون أو العلوم إلخ، يستعرض «قصة الرسم» تاريخ هذا الفن فى شكل قصصى، فلا يتبع التسلسل التاريخى المألوف ليقص لنا حكاية فن الرسم. ولكن كل ما يحيط به من ظواهر تعد مدخلا للتعرف على ملامحه فى فترة ما، ويتضح ذلك من عناوين الفصول ذاتها (من الكهوف إلى الكلاسيكية، العصور الوسطى، عصر النهضة، صخب الحياة وهدوئها، الثورة، العصر الحديث، حقائق). فيتناول فصل «صخب الحياة وهدوئها» مرحلة الإصلاح منذ 1520 وتورط الفنانين فى انشقاق دينى هائل قسّم أوروبا، واعترض البعض على مظاهر البذخ والاستعراض التى كان يترف فيها الزعماء الدينيين، وانفصل المعترضون وأقاموا كنائس خاصة بهم وسموا بالبروتستانت (أصحاب الكنيسة الإنجيلية التى تمردت على الكاثوليكية). على هذه الخلفية، لم يتتبع الكتاب ملابسات هذا الانقسام ولكن انعكاساته على أشكال فن الرسم. «فى أوروبا الشمالية، أثارت فكرة فساد الزعماء الدينيين قلق بعض الناس، لذا فقد أقاموا كنائسهم الخاصة بقواعد جديدة صارمة، وحظروا كل الصور الدينية. فى نفس الوقت فى أوروبا الجنوبية كانت الصور لاتزال تملأ الكنائس، وأجبر الرسامون فى كل مكان على التأقلم، ففى الشمال، رسموا المزيد والمزيد من الصور غير الدينية ومشاهد الحياة اليومية، بينما استمروا فى الجنوب فى رسم الصور الدينية بشكل أكثر جرأة وإثارة». فالتفت الفنانون إلى موضوعات أخرى مثل البورتريه والمناظر الطبيعية الكلاسيكية. بينما استمر فنانو الجنوب فى رسم الصور الدينية وأظهروا فى لوحاتهم رفضهم للمذهب البروتستانتى الوليد «وأسبغوا على الشخصيات فى الصور إيماءات عنيفة ومظاهر متجهمة». مع حلول القرن الثامن عشر وظهور الاختراعات الحديثة وانطلاق السكة الحديد، وجد الفنانون حاجة ملحة «فى مجاراة خشونة وإثارة هذا العصر الجديد. وبدأ رسامو المناظر الطبيعية فى عمل لوحات تحتفى بالتكنولوجيا الحديثة والجمال الطبيعى فى آن واحد، وبرع فى هذا المزج الفنان البريطانى «جوزيف تيرنر» «الذى وضع القوارب والقطارات البخارية فى لوحاته جنبا إلى جنب مع السحب المنذرة بالعواصف أو مشاهد الغروب الرائعة»، وظهرت فى لوحاته رغم ذلك رؤية حنينية تتحسر على انقضاء زمن الأشياء الجميلة. وجاء القرن التاسع عشر ليمثل نقطة عبور مهمة إلى بداية الفن الحديث، فقد تم اكتشاف التصوير الفوتوغرافى، وظهرت الرومانسية والتعبير عن المشاعر فى اللوحات، فبعد قرون من البذخ ومحاكاة الطبيعة أصبح هناك ميل للرمزية والإبداع من وحى الخيال، ثم ظهر بعدها الفنانون «الانطباعيون» الذين أحدثوا تمردا هائلا فى استخدام الفرشاة بجرأة وفى الوصول إلى إنجازات دقيقة فى توازن الضوء فى اللوحة. ويعرف الكتاب التقنية التى استخدمها الانطباعيون قائلا: «فقد بدأ بعض الفنانين فى استخدام لمسات أكثر جرأة للفرشاة، بحيث يضعون الطلاء على القماش فى رقع غير منتظمة من الألوان. مقارنة بالأسطح المصقولة المتساوية للوحات الماضى، بدا ذلك للعديد من الناس أمرا فوضويا وناقصا، ولكن عند النظر إليها من بعيد قليلا، تمتزج تلك الرقع معا لتكون مشاهد يمكن تمييزها». وتمخضت هذه التيارات الحديثة والنزعة الفردية لتتفجر فى القرن العشرين الذى شهد تغييرات جوهرية تأثرت أساسا بالحربين العالميتين وبالتطور المذهل فى عالم الاتصالات. يستعرض الكتاب المدارس العديدة التى شهدها الفن الحديث من التكعيبية إلى التجريدية ومن الدادية إلى السريالية هاتان الحركتان اللتان ظهرتا كرد فعل لوحشية الحرب وعدم منطقيتها وتم اضطهادهما على يد النازيين ثم ظهور الخدع البصرية وتأثر الفن بوسائل الدعاية والإعلان وأصبحت هناك صيحات تنادى بالفن الشعبى «البوب» أى الفن الذى ينزل من عليائه ليصبح فنا للجميع، وكان رائد هذا الاتجاه هو الأمريكى «آندى وارهول» الذى صنع صورا باستخدام الملصقات الإعلانية حتى يستطيع تكرار الصور كيفما يشاء، وكسر بنجاحه الساحق صورة الفنان الملهم والفن المقدس. ويختتم الكتاب بإشارة بسيطة عن الفن اليوم ولا يتطرق للفن المعاصر، كما يكتفى بتقديم تاريخ الفن الأوروبى دون الإشارة إلى البدايات الأولى التى شهدتها منطقة آسيا وأمريكا اللاتينية. هل يتجاوز المتن الهامش أم العكس؟ يزخر «قصة الرسم» بالعديد من اللوحات المصاحبة لكل مرحلة فى تطور فن الرسم وبعض أعمال أعلام المرحلة، بالإضافة إلى الهوامش التى تفصّل المعلومة وتعمقها، فضلا عن تقديم تفصيلات دقيقة مقتطعة من بعض اللوحات ثم تقديمها كاملة، كما لو كانت محاولة مستميتة للتبسيط للمتلقى ولجذبه فى منطقة يخشى الدخول فى معتركها. هل النص المكتوب لا يستقيم بدون اللوحة المصاحبة؟ وهل تعد الهوامش أكثر أهمية من المتن فى بعض الحالات التى تتناول كتبا نوعية؟ فالأمر يصبح مختلفا فيما يخص الكتابة بالحروف عن فن الصورة، إذ تتضافر العناصر الإخراجية جميعها لتقديم صورة مبسطة لقصة الرسم منذ بداياتها حتى اليوم. بالإضافة إلى الطباعة الفاخرة للوحات زيتية شهيرة مثل «فيرمر» أو «ليوناردو دافنشى» أو «فيلاسكيز» أو «فان آيك»، يظهر الهامش فى كل قطع بشكل رأسى، موضحا ما قد يخفى على المتلقى فى شكل توضيحى مصحوبا بالرسم الكاريكاتورى المحبب. ففى جزء الرسم الفرعونى، توضح الرسوم الكاريكاتورية البسيطة عملية بسط الجص على الجدار، أو رسم سريع للمقياس الشبكى الذى صممه المصرى القديم ليحدد المعايير الدقيقة التى يجب الالتزام بها فى رسم الأشكال. كما تكرس الهوامش فى مواضع كثيرة من الكتاب فى استعراض تقنيات الرسم المختلفة مصحوبا بالرسوم مثل الصبغات التى استخدمها الرومانيون من الصخور وبعض المعادن، ثم خلط الصبغة بالبيض للحصول على طلاء سريع الجفاف، ثم مزجها بالشمع لعمل طلاء مضاد للمياه. أو كيفية استخدام الرسامين البيزنطيين للذهب الخالص المعروف باسم صحائف الذهب ولصق الرسم مستخدمين الصلصال السائل إلخ. إلام تشير قصة الرسم؟ عبر صفحات الكتاب، وبالرغم من صيغته المبسطة، فإنه يثير عبر تاريخ تطور الرسم العديد من الخلاصات. أولاها: أنه على مر التاريخ وعلى مر العصور، هناك دائما فترات من التعسف الفكرى والاضمحلال يؤثر على الفنون والثقافة، مثل تناول الكتاب قصة «محطمو الصور» فى العصر البيزنطى التى لا تختلف عن الجماعات المتطرفة التى تنتشر بعد ألف وخمسمائة عام، إذ يحكى أن: «فى عام 730م، بدأ القلق يساور الإمبراطور البيزنطى حول شغف الناس الشديد بالأيقونات مع عدم تفكيرهم الكافى فى الشخصيات المقدسة التى تظهر فيها، لذا فقد بعث رجالا عرفوا باسم محطمو الأيقونات أو «محطمو الصور» لتدميرها. كانت هناك مشاهد مروعة، حينما كان محطمو الصور يندفعون إلى داخل الكنائس، غير عابئين بالحشود المعترضة، حيث كانوا يمزقون اللوحات، أو يقومون بتلطيخها بالطلاء الأبيض». ثانى هذه المشاهدات أنه فى فترات الحروب والقلاقل، لم يكن الدين بعيدا عن جوهر الفن رغم تاريخ التحريم الذى شهده فى الأديان المختلفة، فقد لعب الرهبان المسيحيون دورا مهما (كما يذكر الكتاب تحت عنوان الرسم والصلاة) فى الحفاظ على نظام دقيق يجمع بين التعبد والدراسات اللاهوتية والرسم، وزاد من الاهتمام بالتدقيق واكتساب مهارات فائقة فى الفن أنه لم يكن قد تم اختراع الطباعة، فكان الرهبان يقومون بعمل كتبهم بأنفسهم ونسخ الكلمات والصور يدويا. وكانت الصور الموجودة فى مخطوطاتهم تسمى ب«الزخارف المضيئة» لألوانها الزاهية. كما ارتبط الرسم منذ العصور الوسطى بالدعوة الدينية حين كان الناس يجهلون القراءة والكتابة، فلجأ الرهبان والقساوسة إلى اللوحات لتوصيل رسالتهم «وقاموا بدفع المال للفنانين مقابل رسم صور من القصص المسيحى فى جميع أجزاء كنائسهم.. على الجدران والأسقف، على الألواح الخشبية، وحتى على زجاج النوافذ». وأخيرا بدا الرهان الأكيد عند تصفح قصة الرسم عبر العصور هو إعلاء قيمة الفن الذى صارع التوترات والحروب والانغلاق الفكرى.