جاء الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري في أبريل الماضي بعدم إلزام مصلحة الأحوال المدنية بتغيير بيانات "54" مسيحيا أشهروا إسلامهم ثم عادوا للمسيحية طالبين إثبات عودتهم لديانتهم مرة ثانية في البطاقات الشخصية في أعقاب التعديلات الدستورية التي أصبحت بمقتضاها المادة الأولي من الدستور تنص علي أن "جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة ..." إلا أن هذا الحكم الذي استند علي المادة الثانية من الدستور وعلي فهم معين للشريعة الإسلامية قد أصاب مبدأ المواطنة بأضرار كبيرة، وقدم برهانًا عمليا علي صحة ما سبق أن قلناه أن اختلاط الدين بالسياسة يفسد كل من الدين والسياسة، وأن عدم تعديل المادة الثانية من الدستور يحمل تناقضا سوف يؤدي حتما إلي مزيد من الارتباك والمشكلات، فهذه المادة متناقضة مع روح الدستور ومع نصه، كما أن الإكراه في الدين يخالف الإسلام والدستور وحقوق الإنسان. فالإسلام يؤكد علي حرية البشر في أن يؤمنوا أو أن يكفروا، وفي المقابل فإن مسئوليتهم تجاه هذه الحرية تتجلي يوم الحساب حيث سيحاسبهم الله سبحانه وتعالي علي اختيارهم، يقول تعالي: _ "وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يسْتَغِيثُواْ يغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً" (الكهف 29). وينص الدستور المصري في المادة (46) منه علي أنه "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية". كما نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة (18) منه علي أنه "لكل شخص الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة وأمام الملأ أو علي حدة". لقد اعتمد حكم المحكمة علي تقرير هيئة مفوضي الدولة الذي جاء به "إن الدولة عقيدتها "الإسلام" وفقاً لما نص عليه الدستور في المادة الثانية منه، وأن ارتداد المسلم عن دينه ليس أمراً فردياً يمكن أن تتسامح فيه شريعة الإسلام ودولته كحق من حقوق الأفراد، وأن دخول الفرد في الإسلام يجبره علي الالتزام بأحكامه، ومنها أحكام الردة"، وأضاف التقرير "أن الشريعة الإسلامية وضحت جميع العقوبات لمن يدخل في الإسلام ثم ينقلب عليه حيث جاءت بقتل الرجل المسلم الذي يرتد عن الإسلام ولا يرجع إليه ثانية بعد ردته" وبناء علي ذلك "فإن الفرد الذي دخل في دين الإسلام بكامل إرادته وحريته واختياره دون أي ضغط أو إكراه، فيجب عليه الالتزام بأحكامه ومبادئه ويكون له ما للمسلمين من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات" وانتهي التقرير إلي أن "الدخول في الإسلام دون إكراه أو إجبار ثم الخروج منه مرة أخري يعد تلاعباً بالأديان وهو ما يهدد الوحدة الوطنية بالدخول والخروج في الأديان حسب الأهواء". تكرر السطر التالي في جميع هذه الأحكام: "قبول رجوع الخارج عن الدين الإسلامي إلي هيئة دينية أخري اعتداء علي الديانة الإسلامية التي دخل فيها"، وقد شكلت كلمة (التلاعب) ومشتقاتها الكلمات الحاكمة ليس فقط في نص الحكم القضائي وإنما أيضاً في خطاب جميع من أيدوا الحكم، وتعبير "التلاعب بالأديان" لا أصل له في القانون وبموجبه أصبحت ممارسة مواطن لحقه الدستوري والقانوني _ وقبلهما الإنساني _ في تغيير ديانته إلي تلاعب بالديانتين السابقة واللاحقة. يهمني أن أوضح في عجالة ما يلي: 1- لا يوجد في الإسلام ما يقر فرض العقائد بالقوة والغصب، ولو كان هذا مشروعا في الإسلام لما بقي في مصر مسيحيون، ولما بقي في دولة الإسلام التي امتدت من حدود الصين شرقا إلي أسبانيا غربا مسيحيون ويهود وصابئة وزردشت ومجوس وهندوس وبوذيون. 2- لا يوجد في القرآن الكريم أي أحكام دنيوية تتعلق بالردة، والآراء الواردة في الردة خلافية وليس متفقًا عليها، فالقرآن الكريم ذكر موضوع الردة تحديداً في أربعة مواضع ولم يجعل فيها للمرتد عقوبة يقيمها عليه الحاكم، بل أوكل أمره لله تعالي يعاقبه في الدنيا والآخرة، وعلي سبيل المثال جاء في سورة البقرة الآية (217) قول الله سبحانه وتعالي محذرا المؤمنين من محاولات المشركين لاضطهادهم وفتنتهم "وَلاَ يزَالُونَ يقَاتِلُونَكُمْ حَتّي يرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيا وَالآخِرَةِ وَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"، وجاء معني الردة في القرآن كثيراً في الحديث عن المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم، وعلي سبيل المثال جاء في سورة النساء الآية (137) "إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يكُنْ اللّهُ لِيغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيهْدِيهُمْ سَبِيلاً" وهذا توضيح لما سينالهم من عقاب في الآخرة وإخبار بأنهم سيظلون علي تطرفهم في الكفر إلي أن يموتوا ميتة طبيعية دون قتل بحد الردة. 3- في ظل دولة الإسلام ظهرت ديانات وملل غير إسلامية لم تكن موجودة قبل ظهور الإسلام مثل الأزيدية في العراق والدروز في بلاد الشام وطوائف الإسماعيلية والعلويين إضافة إلي البهائيين ولم يطبق علي أتباع هذه الديانات والملل حد الردة، والإسلام _ في رأيي _ دين عدل ورحمة وهو نعمة كبيرة أنعم الله بها علي البشرية، ولا يمكن النزول به إلي مرتبة فخ إذا دخله إنسان أو دخله أحد أجداده فإنه لا يستطيع منه فكاكا، ولا أعرف من يطبق مثل هذا المبدأ سوي المتعصبين ممن يحاكون عصابات المافيا التي تقتل الخارجين عليها. 4- بغض النظر عن الأسباب التي دفعت هؤلاء المواطنين لتغيير ديانتهم إلي الإسلام ثم العودة لديانتهم الأصلية فإن هذا يدخل في إطار حرية العقيدة وحرية الفكر فمن حق كل إنسان أن يعتقد فما يشاء دون أن يطالب بتقديم مبررات لإيمانه هذا ومن حقه أن يتراجع عنه أيضا دون أن يطالب بتقديم مبررات فالله وحده هو المطلع علي القلوب والنوايا وليس لنا أن نشق عن قلوبهم لاستجلاء الحقائق، وأضيف أن التدقيق في صدق أو كذب ادعاء الفرد باعتناقه ديناً ما، هو في الحقيقة مخالفة للشريعة الإسلامية التي استند إليها حكم القضاء الإداري، ونذكر هنا القصة الشهيرة للصحابي أسامة بن زيد، الذي لحق في إحدي المعارك بأحد المشركين فلما بلغه وكاد يقتله أعلن الرجل إسلامه لينجو من القتل، فلم يصدقه أسامة وقتله، وهو ما أغضب الرسول (صلي الله عليه وسلم) وقال لأسامة: "هلا شققت عن صدره؟"، وبهذا فإن الرسول قد نهي _ في قاعدة شرعية _ عن الحكم علي صدق أو كذب اعتناق شخص ما لديانة ما. 5- جوهر المشكلة ليس في موقف الشريعة من المسألة، وإنما في كون الحكم قد قرر الالتفات عن النص القانوني الصريح وتطبيق ما يعتقد أنه حكم الشريعة استنادا للمادة الثانية من الدستور واعتمادا علي تفسير هيئة مفوضي الدولة، فجميع من أقاموا هذه الدعاوي لم يطلبوا من الدولة أن تقرهم دينياً أو أخلاقياً علي عودتهم إلي المسيحية ، وإنما طالبوا باستعادة أسمائهم وديانتهم الأصلية في شهادات الميلاد والبطاقات الشخصية لكي يتمكنوا من التعامل كمسيحيين في قضايا الأحوال الشخصية كالزواج والميراث ومن تسجيل أبنائهم كمسيحيين لأن هذا سيحدد مادة التعليم الديني الإلزامي الذي سيتلقونه في المدارس. القانون الحاكم لهذه المسألة هو قانون الأحوال المدنية الذي يقرر بمنتهي الوضوح والمباشرة في المادة 47 أن علي من يرغب في تغيير خانة الديانة ببطاقته أن يتقدم لمصلحة الأحوال المدنية بوزارة الداخلية مع الأوراق اللازمة لإتمام التغيير، وتقضي المادة "35" بأنه في حالة ما إذا طرأ تغيير علي أي من بيانات البطاقة يجب علي صاحبها أن يتقدم خلال 3 أشهر من تاريخ التغيير إلي السجل المدني لتحديث بياناته. 6- هناك تضارب وعشوائية في الأحكام علي حسب فهم المحكمة للشريعة الإسلامية، وهي في كثير من الحالات ليست قطعية ومختلفًا عليها بين المدارس الفقهية المختلفة، ففي أول يناير من عام 2005، كانت الدعوي الأولي من مسيحي أشهر إسلامه وعاد ليطالب بعودته لديانته مرة ثانية، تجمعت ثلاثون دعوي أمام إحدي الدوائر تطالب بصدور حكم بإلزام وزارة الداخلية ومصلحة الأحوال المدنية باستخراج شهادات رسمية لهم بديانتهم المسيحية، وفي إبريل 2006، أصدرت المحكمة حكماً لم يأخذ بتقرير هيئة مفوضي الدولة وقضي بإلزام وزارة الداخلية باستخراج شهادات الرقم القومي والميلاد للطاعنين، ولم تطعن الوزارة علي الحكم أمام الإدارية العليا، وانتهت مشكلة 30 مسيحياً، وأخرجوا الشهادات، وتبقي 395 آخرون يبحثون عن حل لمشاكلهم، أقاموا الدعاوي، وتولت دائرة أخري الفصل في الدعاوي وفي أبريل 2007 أصدرت المحكمة حكماً بعدم إلزام مصلحة الأحوال المدنية باستخراج بطاقات ل"45" من بين ال"395"، وفي هذه المرة أخذت المحكمة برأي هيئة مفوضي الدولة الذي خرج صورة طبق الأصل من التقرير الأول، وأوصي بعدم إلزام المصلحة باستخراج البطاقات لهم. في النهاية أؤكد أن إلغاء خانة الديانة في الأوراق الرسمية قد يحل كثيرًا من المشاكل التي أثارتها هذه القضايا وقبلهم قضية البهائيين، ولكن الحل الحقيقي هو مدنية الدولة وحيادها تجاه الأديان وتنقية القوانين المصرية من كل ما يقيد حق المواطن المصري في اختيار الدين الذي يريده، وفي أن يمارس شعائره وفي أن يدعو إليه.