رحل السعدنى آخر أمراء السخرية وأمير دولة الظرفاء، رحل آخر الصعاليك النبلاء، ورحل صحفيا كبيرا ومصريا نبيلا، لا يمكن فهم شخصية السعدنى إلا بفهم ظاهرة الشعراء الصعاليك، الخارجين على القبيلة والمقيمين بجوار مضاربها، الذين ليسوا من هؤلاء ولا هؤلاء، والذين يقولون أجمل الشعر وأعذبه ولكن رواة القبائل لايروون قصائدهم لأنهم ليسوا الشعراء الرسميين للقبيلة. هو أيضا حفيد (الشطار) والعيارين والحرافيش الذى كان يهرب من صحبة المسئولين الحزبيين والأمنيين ليصاحب أرباب الحاجات والعاهات والعاديين والظرفاء، ذلك أنه كان يشبههم ويشبهونه. فى الفترة التى احترف فيها السعدنى الصحافة - بدايات أربعينيات القرن الماضى - كان الصحفى غالبا ما يشبه مصادره من ساسة البلد يرتدى بدلة شاركسكين، ويسعى إلى النوادى الراقية، ويجالس الباشوات، ويحرص على أن يحكم طربوشه قبل أن يقابل مصادره، بعدها بقليل ظهر نوع من المثقفين (الثوريين) الدين احترفوا الصحافة من باب الإيمان بالأفكار الكبيرة واليسارية غالبا وكان هؤلاء يرتدون طرابيش أيضا ولكنها طرابيش فكرية فى هذه المرة، لكن السعدنى لم يكن من هؤلاء ولا من هؤلاء، كان صحفيا من حوارى الجيزة ولعل أعظم ما فيه أنه ظل حتى يوم وفاته عاشقا لحوارى الجيزة التى ذرعها شبرا شبرا وذراعا ذراعا. كتاباته عن هذه الفترة هى تاريخ بديع لعالم الصحف الصغيرة فى مصر قبل الثورة، وأجمل ما فيه أن الصحافة بالنسبة له كانت جزءا من الحياة وليست هى الحياة، طاف السعدنى بعشرات الصحف وقابل نصابين من كل نوع ونصب ونصب عليه بفتح الصاد وكسرها، لكنه كان فى كل الأحوال شريفا وصادقا وصعلوكا ساح فى قرى مصر ونجوعها وموالدها متابطا ذراع زكريا الحجاوى حينا ووحيدا حينا وفى صحبة الآخرين حينا آخر، وصلت به سياحته إلى الإسماعيلية حيث حركة المقاومة الوطنية وكان برفقته صعلوك نبيل آخر هو سعد زغلول فؤاد، من كتاباته عن هذه الفترة تشعر أنه كان يفعل حزمة من الأشياء معا، كان يغامر ويتصعلك ويلعب ويشاهد أشياء ويفعل أشياء ويحب مصر أيضا، لكنه كان يحب مصر على طريقة الحرافيش وليس على طريقة الانكشارية ولا الأفندية. حين قامت ثورة يوليو ابتسم الحظ للسعدنى وعمل مع الرئيس السادات الذى تولى رئاسة تحرير الجمهورية وكان السادات صديقا له وللحجاوى من أيام الصعلكة، ومن القاهرة انتقل لبيروت فى أيام العدوان الثلاثى وأصدر بمفرده طبعة خاصة للجمهورية من بيروت وبما أن السعدنى هو السعدنى يحب مصر على طريقته فقد أصدر عدد الجمهورية يوم العدوان على مصر وهو يحمل مانشيت يقول: (مليون متطوع صينى فى طريقهم لقناة السويس)! ولأن الله سبحانه وتعالى قد شاء أن تكون حياة السعدنى مثل موهبته فصولا من الفكاهة المرة، فقد ساقه الحظ العاثر للمعتقل، حيث كان يعمل مراسلا للجمهورية فى دمشق بعد الوحدة وجمعته ليالى دمشق بمجموعة من العراقيين طلب أحدهم منه أن يحمل رسالة لعبدالناصر فانشكح السعدنى على حد تعبيره الشهير وحمل الرسالة على الفور وسلمها للسادات صديقه الوحيد من بين أهل السلطة، ولم تكن الرسالة سوى رسالة تهديد واعتراض من الحزب الشيوعى العراقى أو السورى لعبدالناصر وهكدا عرف السعدنى الطريق إلى المعتقل أو الطريق إلى (زمش) وهو اسم واحد من أمتع كتبه، اعتقل السعدنى مع الشيوعيين وهو ليس منهم واعتقلته ثورة يوليو وهو أقرب لها بكثير، لكنها حياة السعدنى المبنية على المفارقات، ولك أن تتأمل كيف كان ابن البلد هذا نبيلا وساخرا وساحرا يتحمل سخافات بعض مدعى الثورية والحنجوريين على حد تعبيره أيضا، لكنه يبقى صابرا مع رفاق السجن لا يعاديهم ولا يخاصمهم إلا بقدر ما تحكم النكتة، وهى كثيرا ما حكمت وحبكت مع السعدنى فى السجن، يشكل كل تنظيم شيوعى مجموعة لمساجينه يرمز لها بالحروف الأولى (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى) تصبح حدتو، طليعة الشيوعيين المصريين يصبح طشم وهكذا ولما كان السعدنى ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء فقد أسس مع مجموعة من رفاقه تنظيم (زمش) وكان الاسم مشتقا من الحروف الأولى لعبارة زى ما أنت شايف!! يخرج السعدنى من السجن غير حاقد ولا ناقم ويواصل العمل مع الثورة التى أخلص لها حتى مماته وكما دخل السجن عام 61 فى حركة فإنه يدخله عام 71 فى نكتة، حيث كان السعدنى يهاتف أحد أصدقائه ممن وصفوا فيما بعد بأنهم من مراكز القوى وحبكت النكتة مع السعدنى فأطلقها، وكانت النكتة هذه المرة على الرئيس السادات وكان التليفون مراقبا فشرف الرجل للسجن مرة أخرى. وفى السجن تحبك معه النكتة مرة ثانية وعاشرة ولا يشعر أبدا بالمرارة، حيث تصادف أن كان يقف فى فناء السجن مع وزير الداخلية السابق شعراوى جمعة ليأتيه أحد أصدقائه من المساجين الجنائيين طالبا منه أن يفهم ويشير إلى مجموعة من المساجين السياسيين الذين سجنوا فى أواخر عهد عبدالناصر ويسأله: -هما دول مسجونين ليه؟ فيجيب السعدنى الذى لاحت له النكتة فى الأفق دول مسجونين عشان كانوا ضد شعراوى جمعة! فيشير السجين لمجموعة أخرى ويسأل: ومين دول؟ فيجيب السعدنى دول مسجونين عشان كانوا مع شعراوى جمعة! فيسأله السجين: ومين اللى أنت واقف معاه ده، فيجيب السعدنى: ده بقى شعراوى جمعة!!! رحم الله السعدنى الذى خرج من السجن فى رحلة منفى وسعى فى البلاد العربية حاملا حبا لاينتهى لمصر وابنة مريضة رحلة أعظم ما فيها أنه رغم معارضته للرئيس السادات ظل محبا لمصر وظل ينفر من الذين حاولوا الارتزاق باسم المعارضة المصرية فى الخارج، بل إنه فضحهم وسخر منهم وأسماهم حزب الكهربا، وأنبل ما فيه أيضا أنه ظل يرفض وهو فى أحلك الظروف أن يستخدمه نظام أو حزب أو جهاز مخابرات ضد بلده لأنه مثل كل الصعاليك العظام، كان نبيلا من داخله وقد حملت له مصر الجميل وعاد لها مع تولى الرئيس مبارك معززا مكرما وأتيحت له الفرصة أن يكتب لتعرفه أجيال أصغر وتحب مصر على طريقته ومن خلاله، رحم الله السعدنى وأبقى نكاته، الصفحات التى كتبها حية لاتموت.