بدأ يوسف الشريف حياته الصحفية منذ الخمسينيات فى صرح روز اليوسف، هجا النوم معتبره عادة ضارة، اخترق ليل القاهرة المتلألئ بفكاهة وسخرية فنانيها ومثقفيها، بقدرة مذهله على السهر، وكذلك كتب عن هؤلاء الظرفاء ثلاثيته التى بدأها بسيرة كامل الشناوى فى كتاب «آخر ظرفاء ذلك الزمان» ثم القديس الصعلوك عن سيرة الفنان الشامل عبدالرحمن الخميسى، وآخرها كتاب صعاليك الزمن الجميل الصادر عن دار الشروق والذى قام بعرضه وتقديمه الكاتب الكبير الراحل كامل زهيرى الذى رأى فى يوسف الشريف الإخلاص لكل نجم مشهور أو موهوب معتكف، باحثا عنهم فى كل مجالس الظرفاء، وأوكار الفكاهة، فلم يهجر مجلسا من حوش قدم، إلى الباطنية والفيشاوى، ومن القاهرة الفاطمية إلى جزيرة الروضة المملوكية. كانت البداية عندما استوقف «يوسف الشريف» تساؤل مهم من صديقه المستشرق اليابانى «نوتاهارا»، وهو: «لماذا يبدو من حديثكم الاستياء أو الاستنكار من وجود مجرم فى المجتمع أو شرير أو فوضوى أو شاذ الأخلاق أو معوج السلوك؟! فأجاب الشريف: بحكم النشأة أو التربية، وبادر صديقه قائلا: إذن ما موقف الشعب اليابانى من المجرمين وغيرهم من أمثال هؤلاء المنفلتين؟ فقال اليابانى.. نراهم ضرورة وإفرازا طبيعى للعلاقات الاجتماعية والعمل ومشكلاته ووجودهم دليل على حيوية المجتمع وقبوله للآخر ونحن لا نلومهم أو نستنكر أفعالهم، ولا ننبذهم، ونرحب بوجودهم ولا نجرح مشاعرهم ونغفر لهم، واختفاء هذه الأنماط البشرية وسلوكها المعوج دليل على اختلالات فى البيئة الإجتماعية تماما مثل اختلال البيئة الطبيعية مثل ردم البحار أو إبادة الزواحف والحشرات. ربما تأمل الشريف فى هذا التساؤل نقطة انطلاق موضوعه، فأردف به مقدمة هذا الكتاب «صعاليك الزمن الجميل «والذى يضم سيرا لعشرة من ألمع نجوم الصعاليك النبلاء وظرفاء ذلك الزمان الجميل بحق، تجعل قارئه يسهر معهم كل ليلة ويتلمس فيهم الأجواء التى أعطت للقاهرة متعتها وشجنها منذ الثلاثينيات وحتى الآن، بدأها الشريف بحنفى محمود باشا «ريحانة مجالس السياسين والمثقفين الظرفاء»، صاحب أكبر قدر من خفة الظل المصحوبة بإعداد المقالب المحبوكة، التى لم ينج منها الملك فؤاد ذاته عدو حفنى اللدود، والذى كان يكن له كراهية لا توصف على حد تعبير الشريف. ومن بين «المقالب» التى أوردها يوسف الشريف عن حفنى محمود باشا أن الكاتب الشاعر كامل الشناوى كثيرا ما كان يشارك حفنى محمود فى حبك المقالب: وكانا يوما يغادران منزل السيد على المنزلاوى عضو مجلس الشيوخ السابق، حين اعترضهما أحد أبناء الصعيد وسألهما عن فندق يستطيع أن يقضى به الليلة. قال حفنى: أنت غريب؟ فأجاب بالإيجاب فرد حفنى مبادرا: ولماذ لا تقضى ليلتك فى بيت الحكومة؟ وظهرت الدهشة على الرجل فأردف حفنى: أيوه: البيت إللى عملته الحكومة للغرباء بيت عظيم ومريح والمبيت فيه مجانا! وحملا الرجل فى سيارة حفنى وهو فرح أشد الفرح واتجها به إلى بيت المستشار أحمد شرف الدين فى أول شارع الهرم، ولم يكن المستشار هناك ولكن الخادم كان يعرف بالطبع حفنى والشناوى ورحب بهما وقدم له حفنى الرجل الغريب ثم انتحى به يقول إنه صديق للمستشار وبلدياته وأرسله معنا وهو يأمرك أن تعد له الحمام وتقدم له الطعام، وتفتح له غرفة النوم ليستريح! ثم انتحى حفنى بعد ذلك بالرجل يفهمه أن الشخص المشرف على البيت مختل الشعور إلى حد ما، فإذا احتك به أو طلب إليه الخروج فينبغى ألا يكترث له وأن يتمسك بالمبيت فى «بيت الحكومة»، ونفذ الخادم الأوامر وتسلل حفنى وكامل الشناوى خلال ذلك إلى الحديقة وانزويا فى ركن منها ينتظران، ولم يلبث المستشار أن أقبل وسأل الخادم عن الأخبار فذكر له الخادم أنه نفذ أوامره بشأن الضيف الذى أرسله: وبدت الدهشة على صاحب البيت: أى ضيف وأسرع إلى المخدع وهو يحسب أن محتالا قد احتال على خادمه ليسرق البيت ودخل فوجد الرجل على فراشه الوثير متجردا إلا من سرواله التقليدى الطويل وقد ارتفع شخيره عاليا فانقض عليه وهزه فاستيقظ، فصاح به صارخا: من أنت؟ جيت هنا ليه؟ وفتح الرجل عينيه فلم يكد يرى المستشار حتى هب فى وجهه وهو يقول: أنا جالولى إنك مجنون! وضاعفت هذه الإجابة من ثائرة المستشار فأطبق على الرجل يحاول انتزاعه من الفراش فأمسك به الرجل يدافع عن نفسه: إنت مالك ومالى؟ أنا نايم فى بيت الحكومة؟ وظلا يتدافعان حتى وصل الخادم فأخرج الغريب من المخدع ثم من البيت كله عند ذلك أطل حفنى وكامل الشناوى من بين الأشجار، وعرف صاحب البيت أنه كان ضحية مقلب من مقالبهم المختارة. سخر حفنى محمود باشا ثروته على غرار والده فى خدمة الشعب والدفاع عن قضاياه، وعندما جرد الورثة تركته لم يجدوا رصيدا له فى البنوك وأن ما تبقى من أملاكه كان مكبلا بالديون. وكان حفنى محمود لهذا أول الباشوات الذين بايعوا ثورة يوليو من اليوم الأول وكان الباشا الوحيد الذى سار عبدالناصر فى جنازته. ومن الصعاليك الذين يوردهم الكتاب، الكاتب الساخر محمود السعدنى الذى صاحب ال40 مسرحية، والذى اختاره نجيب الريحانى وألح عليه للانضمام إلى فرقته المسرحية، ووافق على العرض بالفعل ويوم استعد لإجراء البروفات لدور فى إحدى مسرحياته كان الريحانى قد ودع الحياة منذ ساعات. يقول الشريف عن السعدنى إنه ليس له نظير فى خبرته التلقائية بصنوف البشر واختبار معادنهم وفرز الخبيث من الطيب، وغالبا ما كانت تصدق توقعاته منذ الوهلة الأولى ويختار محبيه ممن تنطوى سريرتهم على الطيبة والشفافية، أما المجانين والصعاليك فعلى الرحب والسعة فى حين يفر من الأغبياء وثقلاء الظل. وعرض الشريف لأبرز سمتين تميز بهما السعدنى؛ الأولى سخرية السعدنى اللاذعة التى أثارت استهجان البعض، والسمة الثانية أنه كان يملك القبول فى وجهه فما من مشكلة أو مطلب عادل لصديق أو غريب فى محنة إلا وهبّ السعدنى لمساعدته فكان مجرد حضوره الغامر فى مكتب وزير أو مسئول أو قسم شرطة كفيلا بحل الأزمة وتفريج الكربات. ذلك غير ما نقل عن غيره فى مبادرات السعدنى دوما للبحث عن مساكن أو وظائف ومصادر دخل لعدد من الأدباء والصحفين المعدمين ليغنيهم عن ذلك السؤال والحاجة، وعلى الرغم من تعرض السعدنى لألوان من الفقر والإفلاس، لكنه كسب الأموال وتدفقت عليه من غير أن يحتسب، وعرف طوب الأرض كما يقولون من الفلاح البسيط إلى اللص الشرير وحتى الملوك والباشوات والمليونيرات. ويحدثنا الكتاب عن بعض أصدقائه «وفى العزيزية مركز البدرشين بمحافظة الجيزة كان للسعدنى صديق آخر من البسطاء وكان فلاحا ذكيا وصعلوكا نبيلا لا تفارقه الابتسامة أبدا اسمه توفيق أبو ترك، ولا أدرى لماذا كان السعدنى يداعبه دوما على أنه قاتل وصاحب سجل فى الجنايات على الرغم من طيبته ونخوته وحضوره الآسر، والغريب أن يحن السعدنى لزيارته فجأة ونحن برفقته ليلا وإذا به على عادته يجود بكل الموجود من أجل تكريم السعدنى وصحبته، حيث انتهى به الحال إلى العمل بالمقاولين العرب عبر وساطة السعدنى!». وعن الملحن الشيخ سيد مكاوى يقول الشريف إنه كان آخر عنقود جيل الرواد والمجددين فى الموسيقى والغناء العربى فقد استطاع أن يعقد الصلة والرابطة بين القديم والحديث فى هذا الميدان فكانت إبداعاته مزيجا من التراث والمعاصرة ونجح بمهارة واقتدار فى أن يفتح آذان الصفوة من المثقفين ومختلف الطبقات حتى يتذوقوا حلاوة ألحانه بالجمل الموسيقية والغنائية التى حرص على جمع لآلئها المكنونة من البيئة الشعبية ونداءات الباعة والحرفيين والتواشيح الدينية على نحو ما جسده فى أوبريت الليلة الكبيرة. وكان مكاوى حسبما يروى الشريف حكاء بارعا وكان يعده المدرسة الأولى التى تعلم فى أجوائها الكثير من الفنون والثقافات الشعبية ووعيه المبكر بالتراث الغنائى والدينى، فلقد ولد مبصرا حتى أصابه مرض فى عينه ولم يتجاوز بعد من العمر عامين، و«لأنه من أسرة كانت تعانى فقرا مدقعا تولى حلاق الحى علاجه وفقد نور عينيه إلى الأبد، لكنه لم يفقد نور البصيرة التى عمقت إدراكه للأشياء مصفاة من القبح وأرهفت أحاسيسه ومشاعره فكان قادرا فى عتمة الظلام على أن يرى الحقيقة كنور الشمس أو على حد قوله «الظلام قنديلى فى مشوارى الفنى» على أن سيد مكاوى بعد أن غنى له معظم المطربين والمطربات ظل يتطلع إلى القمة الشامخة، إلى أم كلثوم، لكن كيف؟ هل يفاتحها برغبته؟ حتى التقاها يوما مصادفة وقالت له عاوزة أشوفك يا شيخ سيد، فرد عليها: «الله ما أنا قدامك أهوه يا ست أمال أنا شايفك إزاى» وضحكت للنكتة وقالت بجد يا شيخ سيد عاوزه يكون ليه من ألحانك نصيب وقال: «إنت بس اختارى الكلام وأنا جاهز من إمبارح». روى الشريف الكثير من النوادر الممتعة والشيقة عن سبعة آخرين من صعاليكه هم الشاعر محمد مصطفى حمام، ثم الشاعر البائس عبدالحميد الديب، والفنان مدحت عاصم، والشاعر الغنائى مأمون الشناوى، والموسيقى أمين المهدى، واللص الشريف حافظ نجيب، والمفكر القومى محمد عودة، الذى قال عنهم الشريف إنه كان من المستحيل ان تصلنا ابداعاتهم وسخرياتهم لولا أنماط حياتهم العجيبة وتقلباتها المثيرة وخروجهم عن السائد والمألوف فى المجتمع ورؤاهم للحياة على غير ما نراها والتعبير عنها بشكل مختلف.