قبس آخر من روح مصر يرحل. محمود السعدني يغيب بعد سنوات من الصمت الذي فرضه عليه المرض. هكذا تفقد مصر بالتدريج تلك الشخصيات التي غاصت في الروح المصرية وخرجت لنا بأسرارها. بدأ السعدني كاتبا للقصة القصيرة، وكان كاتبا مجيدا ومبشرا بقوة. حين صدرت مجموعته القصصية "خوخة السعدان"، في الخمسينيات، توقع نقاد أن يكون منافسا قويا ليوسف إدريس، لكن حياة السعدني وكتاباته أخذت مجري آخر، إذ أدرك أن الروح المصرية ساخرة بطبعها ، وأن المجتمع يحتاج السخرية ليتغير للأفضل. الكتابة الساخرة ليست سهلة، هي ثورة وتمرد ، لأنها أعلي مراحل الجدية ، هي سلاح الشعب الضعيف في مواجهة جلاديه، تحتاج إلي ثقافة عالية وأناقة في التعبير، وأيضا تجر الكثير من المشاكل علي صاحبها. لم يكن نموذج عبد الله النديم بعيدا عن ذهن السعدني وهو يكتب، ولا نماذج أساتذته زكريا الحجاوي وكامل الشناوي. أدرك السعدني أن السخرية سلاح من لا سلاح له وهراوة في يد الضعيف ، أن الساخر في كل مكان هو عدو السلطات التقليدية، وخصم للتسلط لأنه إن لم يفعل ذلك يتحول إلي مهرج حول الموائد. وهكذا جاءت كتابات السعدني. صادق السعدني الزعماء والهلافيت، النجوم والصعاليك، ولكنه وجد نفسه أكثر في التعبير عن روح هذا الشعب. كانت كلماته سياطا ، لا يكتب وإنما يجلد، يسخر سخرية مريرة من هؤلاء الذين تصوروا أنهم أوصياء علي الشعب. وهكذا جرّت عليه الكتابة العديد من المشكلات ، كان ضيفا دائما علي سجون السلطة الناصرية ثم في عهد السادات، وفصل من عمله مرات عديدة وظل منفيا في العديد من البلاد العربية, قبل أن يستقر في لندن حتي عودته في أوائل الثمانينيات. يحكي صديقه الراحل يوسف الشريف أن الرئيس السادات كان يخشي السعدني كثيرا ولكنه لم يتورع عن فصله مع الكاتب الشاعر الفنان عبدالرحمن الخميسي وآخرين عندما كان رئيسا لتحرير صحيفة "الجمهورية"، ثم عاد وفصله من رئاسة تحرير مجلة "صباح الخير" مع السجن لسنوات متهمًا إياه بالضلوع في ما سمي آنذاك بمؤامرة مراكز القوي، ثم عاد يستقبل السعدني بالبشاشة والود خلال زيارته للكويت، وكان السعدني يعمل آنذاك في صحفها بعد خروجه من السجن، وطلب منه العودة إلي مصر وهو يقول: هيه أمك ما وحشتكش يا سعدني؟ لكنّ السعدني لم يطمئن لنيات السادات ولا نسي له موقف الردة علي كل ما دعا إليه جمال عبدالناصر من المبادئ التي ناضل ورحل من أجلها، ولا كان بوسعه أن ينسي له زيارة إسرائيل والصلح معها منفردًا من دون العرب وعلي حساب القضية الفلسطينية، ومن الكويت إلي لندن، حيث احتشد السعدني لفضح سياسات السادات مع صديقه محمود نور الدين الدبلوماسي السابق وقائد تنظيم ثورة مصر فيما بعد، حيث أصدرا معًا مجلة "23 يوليو" تحت رئاسة تحرير السعدني! اسهم السعدني في تخليص الكتابة الساخرة من بلاغتها التقليدية ، وكان من أوائل من نحتوا ألفاظا تجمع بين العامية والفصحي، بل استخدمها عناوين للعديد من كتبه، لا أحد ينسي " الحنجوريين" وهي الكلمة التي أطلقها علي أصدقاء يساريين له لا هم لهم سوي النضال بالكلام، عندما شاهدهم يتحدثون عن أم كلثوم باعتبارها إحدي الوسائل التي يستخدمها عبد الناصر لإلهاء الشعب عن همومه الحقيقية، وأيضا " زمش" وهي تلخيص لفلسفة المصريين " زي ما أنت شايف" .. امتدت سخريته حتي إلي نفسه عندما وصف نفسه في إحد كتبه بالموكوس. لم تكن السخرية هي الشاغل الوحيد للسعدني ، أدلي بدلوه في العديد من المجالات في الدراما والمسرح ، كما أن كتابه " ألحان السماء" يكشف عن معرفته بعلم قراءات القرآن ، وإلمامه بطبقات أصوات المقرئين، وصحبته لهم من أول الشيخ محمد رفعت حتي الشيخ الطبلاوي الذي كان له دور في اكتشاف موهبته بقدر اهتمامه بكرة القدم وتشجيعه لفرق وأبطال نوادي الأقاليم. بالتأكيد رحيل الولد الشقي خسارة فادحة..ولكن تظل كتاباته وأعماله مثلا يتتلمذ عليه الكثيرون.