مثل الآلاف من جيلي والأجيال التالية لي قرأنا محمود السعدني وفتنا به.. بسخريته شديدة المصرية وثقافته الإنسانية والأدبية والتاريخية العالية وسيرته بين الكتاب واختياره لغير المألوف في الكتابة والحياة، فهو الذي عاصر رؤساء وزعماء واقترب منهم لم يبتعد أبدا عن الصعاليك. من السهل جدا أن أحدثك عن الأهمية الثقافية والفنية لكتب محمود السعدني في السيرة مثل الولد الشقي بجزأيه والولد الشقي في السجن والولد الشقي في المنفي والطريق الي زمش، وهي كتب يمكن إجمالها في عبارة «إنها وهي تعكس سيرته تعكس أيضا سيرة الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في مصر قبل الثورة وبعدها». ومن السهل أن أحدثك عن مقالاته التي قدمت صورا للكتاب والمثقفين ورجال ونساء من الشعب ومطاعم ومقاٍه وبلاد عربية وأفريقية وأوروبية وأمريكا أيضا مثل صور متنوعة وملاعيب الولد الشقي والسعلوكي في بلاد الأفريكي والموكوس في بلاد الفلوس ووداعا للطواجن وأمريكا يا ويكا ومسرحية عزبة بنايوتي ورواية قهوة كتكوت وكتابه الخارق الجمال "مصر من تاني" الذي يعيد فيه قراءة التاريخ الحديث من خلال شخصيات مصرية لم يقف عندها المؤرخون وكان لها دور كبير في صناعة النهضة والتحرر. هذا كله سهل ولا يحتاج إلا بعض الوقت لإعادة القراءة وهذا هو المعتاد في مثل هذه الحالات حالات رحيل الابطال والمشاهير لكني سأحدثك عن هذه الحالة التي أري السعدني يمثلها أعظم تمثيل وهي حالة غير التوافق مع المجتمع.. هذه الحالة التي تجعل الكتاب والفنانين غير داجنين وفي حالة استعصاء علي السياسة العامة للحكام حتي لو بدا في لحظات أنهم توافقوا مع الأنظمة وعملوا من خلالها في صحف أو مجلات أو مواقع ثقافية. السعدني الذي شارك شابا صغيرا في الكفاح ضد الإنجليز والملك كان يمكن جدا أن يكون نظام يوليو هو جنته، وبالفعل بعد تجارب مع صحف أهلية قبل الثورة وبعدها مثل الكشكول مع مأمون الشناوي والمصري لحزب الوفد والهلال ومجلة ساخرة مع طوغان لم تصمد وجد السعدني له مكانا في صحيفة الجمهورية التي أصدرتها الثورة لكنه سرعان ما استبعد منها مع عبدالرحمن الخميسي وبيرم التونسي.. ليس المهم هنا أن نعرف التفاصيل لكن المؤكد أنه كان عصيا علي التدجين. واذا كان مؤمنًا بما تفعله الثورة فلا يعني هذا أنه بوق.. هو كاتب وفنان منطلق العقل والروح لذلك يتم استبعاده مع كاتبين من أجمل ما عرفت مصر. بيرم وعبدالرحمن الخميسي، لاحظ أن الثلاثة صعاليك كبار لا يمكن أن يروا الدنيا إلا شوارع متسعة يرمح فيها الخيل، والثلاثة محبون مجانين للحياة. يعمل السعدني بعد ذلك في «روزاليوسف» قبل تأميمها تحت رئاسة تحرير إحسان عبدالقدوس الذي لم يكن ليفعل ذلك لولا إيمانه بموهبة وكتابة السعدني. لكن هذه المرة لا يتم استبعاد السعدني بل سجنه لعامين تقريبا، أما السبب فهو عبثي جدا إذ كان في زيارة الي سوريا وأعطاه قادة الحزب الشيوعي هناك رسالة لعبدالناصر لم يفتحها، كيف يفتحها وهي رسالة للزعيم. وفي مصر أعطاها للسادات الذي بدوره أوصلها لعبدالناصر فإذا بها رسالة تهديد للزعيم. كيف فات السعدني أنه يمكن أن يكون ضحية للعبة ما، السعدني الفنان هنا صاحب الروح الوثابة لم يفكر أبدا في أن أحدا يمكن أن يخالف الزعيم، خرج من السجن ليعمل في «روزاليوسف» التي أممت هي و«صباح الخير». لا مكان إلا ذلك لمن يريد العمل لكنه يسجن مرة أخري مع الشيوعيين في الستينيات من فضلك اقرأ" الطريق الي زمش" وزمش تعني زي ما انت شايف، لقد كان هناك الكثيرون اتهموا بالانتماء للتنظيمات الشيوعية وكانت إجاباتهم حين يسألهم السعدني عن انتمائهم زي ما انت شايف، وكان هو منهم، يخرج كما خرجوا ويعمل كما عمل اليساريون في صحف الدولة وهيئاتها وينضم للتنظيم الطليعي ليتفادي به أي اعتقالات ممكنة ويموت عبد الناصر وتحدث الوقيعة بين السادات ورجال عبدالناصر ويتم القبض علي السعدني معهم.. هو الآن مع شعراوي جمعة وزير الداخلية الذي لم يكن يتخيل السعدني انه سيتم يوما القبض عليه. ويخرج بعد عامين ممنوعا من الكتابة وممنوعا أن يذكر اسمه في صحيفة، حتي لو مات لا يأتي اسمه في نعي. وتبدأ رحلة المنافي. في بيروت يعمل في جريدة «السفير» ثم يسافر إلي ليبيا ولا يوفق مع القذافي ثم إلي أبوظبي وتتسبب إيران في رحيله لأنه يتحدث عن الخليج العربي لا الفارسي ومن أبوظبي إلي الكويت ومنها الي العراق ومنها إلي لندن التي طال فيها مقامه أكثر من غيرها وأصدر هناك مجلة 23 يوليو بدعم خفي من حاكم الشارقة ومعه محمود نور الدين، هل تذكرونه؟ الذي جاء الي مصر بعد ذلك وأسس تنظيم ثورة مصر وحوكم وسجن بسبب التخطيط والهجوم علي الجناح الإسرائيلي في المعرض الصناعي، وكان معه أيضا فهمي حسين وصلاح الليثي، لكن النظم العروبية التي ترفع شعار القومية العربية تحارب المجلة، يا إلهي، ويقتل السادات فيعود السعدني إلي مصر عام 1988 ويقابله الرئيس مبارك ويستمر في الكتابة ولا يقترب من صناع القرار ولا يقتربون منه. وهكذا حتي اعتزل الكتابة بسبب المرض عام 2006 . من يختار لنفسه هذا العذاب غير شخص صاحب موهبة جبارة لا تعرف الاستقرار؟! شخص لا يمكن أن يتوافق مع المجتمع لأنه يريده دائما أفضل.. هؤلاء هم حراس الأمم وضمائر الشعوب الذين تصبح عذاباتهم دروسا للحق والخير والجمال.. طوبي لمحمود السعدني وللغرباء في كل زمان ومكان.