يدخل إلى المسجد في صلاة الفجر، يشعر برهبة كبيرة وأحاسيس متناقضة! لم يصل الفجر في المسجد، بل لم يدخل المسجد لسنوات طويلة .. أجواء رائعة وسكون غريب .. يحمل سنوات عمره التسعة عشر، عمر قصير وذنوب كثيرة وقلب قلق ومريض! المسجد الذي كثيراً ما شاهده من الخارج أو في صلاة الجمعة يدخله الآن في صلاة الفجر بعد أن ضاقت به الدنيا، وضاقت عليه نفسه، وقادته قدماه المتعثرة له! يصلي الفجر ويستشعر كل كلمة قرأها الإمام، يسجد فيشعر باطمئنان واقتراب ورغبة في البكاء! يسلم الإمام، يجلس صاحبنا لا يدري مايفعل. ماهذه الوجوه المنيرة الهادئة الطيبة؟! أغلبهم «لحيته طويلة ومرسلة»! من أين أتيتم وكيف لم أركم من قبل وأنا جار المسجد؟! يتعرف عليه أحدهم، ويتحدث معه ويدعوه إلي الحضور في كل الصلوات .. لا أحتاج إلي دعوة، فأنا قد وجدت نفسي «التائهة»، وعرفت الطريق «الحق»، ودخلت إلى ذلك العالم الرائع الذي يشرح الصدر، ويهدئ القلب، ويطمئن الروح! شباب ورجال رائعون، أصحاب دين وخلق. بعد أسابيع قليلة، دعاه أحدهم إلى بيته في منطقتهم «الراقية»، كان بيته بسيطاً من ناحية الأثاث، لكنه كان «مبهراً» من ناحية السكينة والطمأنينة. دخل إلى بيته وجلس في الصالون. كان القرآن ينساب من جهاز التسجيل بصوت خافت، وذهب صديقه «الجديد» وأحضر الشاي والحلوى، وجلس يتحدث معه، ثم جاءت صغيرته تزحف وتصعد على ركبته بوجهها الهادئ المتناغم مع هذا البيت الهادئ. كان صاحبنا حديث عهد بالبيوت «المطمئنة» على كثرة البيوت «الفخمة» الصاخبة التي دخلها فيما مضى، وسهر فيها مع الأصدقاء. لكن كان هذا بيتا مختلفا! بيت بسيط لكن كان ليدفع عمره كله ليحصل على مثله في هذا الوقت. ومازال صاحبنا منبهراً في هذا العالم «المختلف»! من هؤلاء الشباب الرائع «الملتحي»؟ من هم فعلاً؟ يحفظون القرآن ويراجعون الأحاديث، يرتدون «الجلاليب» البيضاء، ويتطوعون في عمل الخير! نجلس معاً .. فلا نسمع إلا الطيب من الكلام، تقوم وتتركهم فلا يتحدثون عنك إلا بكل حب وود! يحبونك فعلاً بلا أي مصلحة! لا أحد يخونك أو يسبك أو يعتدي عليك! مازال يذكر تلك الأيام الرائعة .. صلاة الفجر، والأذكار، وحفظ القرآن، وأحياناً يفطرون معاً، نوم قليل، مذاكرة وقراءة، ثم لقاء في المسجد قبل المغرب، ذهاب إلى درس علم أو زيارة صديق أو مريض أو مقرأة، نتعلم فيها أحكام القرآن! حتي «أفراحهم» مختلفة، عندما تم دعوته إلي زواج شاب منهم، كان «الفرح» علي سطح أحد المنازل: الرجال في ناحية والنساء في ناحية أخرى! لم يعتد صاحبنا هذه «الأفراح»، وسمع بأذنه أحد أقارب العريس عندما رأى كم الشباب الملتحي، يقول «هو ده فرح ولا ميتم؟!». بعد انتهاء «الفرح» لا أعتقد أن صاحبنا شعر بمثل هذه السعادة في أي من الأفراح «الراقية الصاخبة» التي حضرها! لا أحد يسخر من ملابس «العروسة» ولا من رقص «العريس» .. لا أحد يعيب الطعام، ويسخر من كل الحاضرين! بساطة ومحبة من القلب وسعادة حقيقية في «أبسط» الأشياء، إنه «فرح» حقيقي داخل القلب، وليس «مأتما» يا صديقي .. لكنها «الغربة»! لم يحدثه أحد عن «غض البصر». رآهم «يغضون أبصارهم» فتعلمه منهم، وجدهم لا يغتابون أحداً من الناس فتوقف لسانه، عهدهم لا يسبون احداً أبداً، فلم يملك إلا أن يكون مثلهم، ألفهم يقولون الصدق، فألهمه الله قول الصدق، كانوا دائماً يجتهدون ويعملون ويستذكرون، فتغيرت حياته وصار حريصاً على النجاح والاجتهاد. رأى منهم من يتصدق في الخفاء، ويصلي في الليل بعد أن يناموا فتعلم الإخلاص! وجدهم بجانبه دائماً في أفراحه وفي أحزانه، حتى عندما تعرضوا للبلاءات والتشديدات الأمنية، كانوا هناك دائماً يدعمون ويدعون بإخلاص ويحاولون قدر ما يستطيعون! بشر كغيرهم من البشر لهم أخطاؤهمم وعثراتهم، لكنهم كانوا في الأغلب أصحاب أرقى الأخلاق وأنبلها .. كانوا في الأغلب يحبون الخير للناس .. كل الناس. ويكرهون الظلم ويحفظون الغيبة ويصونون الأعراض ويحبون الله ورسوله! أحب «ابن القيم» و«ابن تيمية» و«ابن كثير»، وعاش مع كتب التربية للإمام «أبو حامد الغزالي»، وانبهر بكتابات «ابن الجوزي»، وسهر مع «البخاري» و«مسلم»! حتى عندما اعترضوا على قراءاته ل«سيد قطب» و«محمد الغزالي» و«يوسف القرضاوي» و«محمد قطب» و«عبد الوهاب المسيري» وغيرهم واختلفتوا ساعتها. كان يعلم أنهم يحبون الخير له من وجهة نظرهم، لكنه عشق القراءة وأحب التنوع. التيار الإسلامي– بدون تعصب-هو تيار رائع ومتنوع، تعيش معه أحلى أيام العمر. فتحفظ القرآن وتطلب العلم وتعيش مع السلف الصالح ومجاهداتهم وعباداتهم مع السلفيين، تتعلم الدعوة واللين والرحمة والغوص في قصص الصحابة ومحبتهم مع التلبيغ. وعندما تصادق شباب الإخوان، تفهم الواقع وتتعلم السياسة وتنبهر لنظامهم ووعيهم السياسي وبذلهم للجهد والتربية لمن هو أصغر منهم بكل تضحية ويقين، تحس بهموم غيرك من المسلمين، وأن الأمة أمة واحدة مع التيارات الحركية والجهادية. وتتعلم مجاهدة النفس ودوام الذكر ومحبة الله ورسوله من المتصوفة «الحقة». وحتى من أهل المساجد غير المنتمين لأي تيار، تتعلم حسن الخلق و «الدين المعاملة». وجدتهم في الأغلب راغبين في الخير محبين للغير باذلين جهدهم ومالهم في سبيل مايعتقدونه! أغلبهم أصحاب دين وخلق ولا يطعنونك في ظهرك ولا يخونونك أبداً ويصدقونك القول وتأمن على نفسك ومالك وأهل بيتك بينهم، مع بقاء زلاتهم وأخطائهم لكن في الأغلب الأعم كانوا رائعين، وقد اعتدت الإنصاف وعدم الغلو في حكمي على الأخرين. الإسلام هو لحمي ودمي، أعشق ديني وأفهمه بلا تعصب ولا تطرف وأكره الغلو! شخصياً، دخلت هذا العالم الرائع، وتعرفت عليه في مرحلة التسعينات عبر شباب من أروع مايكون، ساروا عكس التيار وقتها عندما كان الكل يهاجم التدين، وكان كل ملتح إرهابي أو متطرف، كانت «تغريبة» حقيقية داخل الوطن وكان التدين «مغرما» ولم يكن «مغنما» بلغة المصالح! لكنه كان كل «المغنم» بلغة الآخرة والقرب من الخالق! رأيتهم يدعون إلى الله، ويسعون في تزكية أنفسهم، رأيتهم يعتقلون بلا أي ذنب، ويخرجون كما هم بنفوسهم الزكية، رأيتهم يحاربون في أرزاقهم، ويمنعون من وظائفهم، فيصبرون ويبتسمون ويدفعونك لفهم «الرضا بالقضاء والصبر» بلا أي خطب أو مواعظ! لم يكونوا عملاء لأمن الدولة أو مسبحين بحمد النظام! كانوا يخافون على الشباب الصغار، فيتجنبون الاصطدام في وقت كان من يذهب لا يعود ولا بواكي له! كانوا قدوة رائعة وأصدقاء حقيقيين ونماذج مشرفة، لذلك عندما أسمع الآن من يعمم في الحكم عليهم فيقول: رجعيين، متطرفين، وهابيين، إرهابيين، متشددين، منغلقين، طلاب دنيا، عملاء، متأسلمين، إلخ...! أتعجب أشد العجب وأقول بدون أي تعصب: نعم قد يوجد بهم نماذج سلبية كغيرهم، وقد تجد فيهم من يدعي أنه منهم، وما هو منهم خاصة في هذه الأيام. لكنهم في الأغلب الأعم كانوا من أروع من قابلت في حياتي -على عثراتهم وأخطائهم واختلافي مع بعضهم- لكن ليس من سمع كمن عرف .. وليس من عاش الحقائق كمن قرأ عنها! الآن وأنا أقترب من الأربعين، وعندما أذكر هذه الأيام، ينشرح الصدر ويقشعر البدن وينفتح ألف باب للسعادة، أتذكر أول مرةً سمعت فيها: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا»، وقفت منبهراً ومندهشاً أمام الآية وقلت لهم أنا أعرف ما هي المعيشة «الضنك» ولا أحتاج لتفسير! فقد كنت أعيشها قبل أن يمنحني ربي تلك الفرصة الهائلة! مازلت أحاول السير إلى الله بجسدي المنهك وخطواتي المتعثرة، بقلب شاب عشريني أراد الله أن يغير حياته، وبجسد رجل يقترب من الأربعين يحمل صحائف أعماله، يستمع خجلاً إلى كلام ربه: «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى»، «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى»، «وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى». نعم يارب كنت يتيماً فآويتني، وكنت ضالاً فهديتني، وكنت عائلاً فأغنيتني، ومازلت أذكر فضلك علي ورحمتك بي وبغيري من عبادك، وأخجل من عطاياك، وأخاف من الوقوف بين يديك، ولاعزاء لي إلا أن رحمتك سبقت غضبك، وأنك وعدت التائبين بالعفو والستر، وأنك ستدخل الناس الجنة برحمتك، وأنا أحسن الظن بك وأحاول السير إليك، وأحب الصالحين وأفرح بالحق، وأكره الظلم والظالمين، لكنني كثيراً ما أتعثر، كثيراً ما أتعثر!