\r\n وقد أيقظت هذه الحوادث العنيفة خوفاً قديماً لدى السلطات الفرنسية من أن تؤدي المواجهات إلى اندلاع أعمال عنف واسعة وتمهد الطريق لإشعال فتيل مظاهرات عارمة تعيد إلى الأذهان الأحداث الأليمة التي عصفت بضواحي بعض المدن الفرنسية قبل سنة من هذا التاريخ. فرغم مرور كل هذا الوقت على أحداث العام الماضي وإخماد العنف الذي رافقها مازال المسؤولون الفرنسيون يتوجسون من عودة العنف في ظل وضع مرشح للانفجار. \r\n ولتفادي انتشار أعمال العنف وتطويق شرارتها الأولى عبأت السلطات الفرنسية أكثر من أربعة آلاف شرطي لتسيير دوريات منتظمة في المناطق التي يطلق عليها الفرنسيون \"الأحياء الحساسة\". وهي الأحياء الفقيرة والمهمشة التي تنعدم فيها الخدمات والواقعة في الضواحي المحيطة بالعاصمة. ويعيش في هذه الأحياء مواطنون فرنسيون ينحدر معظم من شمال إفريقيا، بالإضافة إلى المهاجرين الجدد القادمين من القارة الإفريقية، حيث يتكدسون في بنايات سكنية يطغى عليها البؤس والحرمان. وفي أحد الأحياء الفقيرة، وتحديداً في \"كليشي سو بوا\"، الذي يضم أكثر من 15 ألف ساكن ويبعد بحوالى 15 كيلومترا عن وسط العاصمة باريس، اندلعت شرارة العنف في مثل هذا التاريخ من العام الماضي. وترجع الحادثة إلى وفاة شابين فرنسيين هما بونا وزياد صعقا بالكهرباء لدى احتمائهما في إحدى محطات توزيع الكهرباء في محاولة للاختباء من رجال الشرطة الذين كانوا يطاردونهما. وما أن تناهى نبأ مقتلهما إلى المسامع حتى اندلعت ثلاثة أسابيع من المواجهات العنيفة كانت تدور يومياً بين مجموعات الشباب الغاضب من جهة، وبين رجال الشرطة من جهة أخرى، أسفرت عن إلحاق ضرر كبير بالسيارات التي أحرقت، وبالمباني الحكومية التي تعرضت لهجوم كاسح من قبل المتظاهرين. \r\n وقد سلطت أعمال العنف التي هزت مجموعة من ضواحي المدن الفرنسية وخلقت أزمة حقيقية لدى الأوساط السياسية الأضواء الكاشفة على مسألة عجز النموذج الاجتماعي الفرنسي القائم على إدماج المهاجرين وتحويلهم إلى مواطنين فرنسيين في معالجة الاختلالات الواضحة في العلاقة بين المؤسسة الرسمية وأبناء المهاجرين. بيد أن فرنسا ليست الوحيدة التي فشلت في معالجة مسألة المهاجرين الذين أصبحوا مواطنين يقيمون على ترابها، بل هناك دول أوروبية أخرى مثل بريطانيا وألمانيا وأسبانيا وهولندا والدانمرك وغيرها من الدول التي تستقبل أعداداً كبيرة من المهاجرين القادمين من شمال إفريقيا وجنوبها وباكستان وبنغلادش، فضلاً عن دول المعسكر الشيوعي السابق التي تمر بمرحلة دقيقة من البحث عن أجوبة تعالج المشاكل المترتبة عن تدفق المهاجرين. والسؤال الذي يتعين على دول الاتحاد الأوروبي الإجابة عنه هو كيفية تأمين انتقال سلمي وسلس إلى مجتمعات متعددة الأعراق والثقافات باعتباره النموذج الذي سيسود أوروبا في المستقبل. \r\n ولتخليد الذكرى الأليمة لمقتل الصبيين الفرنسيين، قام والدا الضحيتين، خلال هذا الأسبوع، مصحوبين بعمدة المدينة بتنظيم مسيرة في شوارع حي \"كليشي سو بوا\" شارك فيها ألف شخص على الأقل دون تسجيل أي حادث عنف في دلالة على روح المصالحة التي طغت على المسيرة. يذكر أن المظاهرات العنيفة التي عمت فرنسا العام الماضي أحرجت دومينيك دوفيلبان، رئيس الوزراء الفرنسي، وأحرجت منافسه \"اليميني\" وزير الداخلية نيكولا ساركوزي أحد أشد المدافعين على فرض النظام وبسط سلطة القانون والمتطلع إلى منصب الرئاسة الفرنسية في الانتخابات المقبلة. لكن بسبب الإجراءات الأمنية المتشددة واللغة القاسية التي استخدمها \"ساركوزي\"، تراجعت شعبيته لدى الجاليتين الإفريقية والمغاربية، كما هو الشأن لدى سائر \"اليسار\" الفرنسي الذي بات يخشى من أن تؤدي سياسات \"ساركوزي\" إلى تآكل الحريات المدنية على شاكلة ما يجري حالياً في الولاياتالمتحدة الأميركية. \r\n والأكثر من ذلك يتخوف \"اليسار\" الفرنسي، كما الجالية العربية الفرنسية، من فقدان فرنسا لاستقلاليتها بالقياس إلى الموقف الأميركي تجاه قضايا الشرق الأوسط إذا ما وصل ساركوزي إلى السلطة وتقلد منصب الرئيس. وهي الاستقلالية التي دافع عنها الرئيس الحالي جاك شيراك، وسعى إلى تثبيتها كجزء من السياسة الخارجية الفرنسية خلافاً لساركوزي الذي لم يخفِ في هذا الصدد تقديره للنموذج الأميركي وتعاطفه مع إسرائيل. \r\n ورداً على الوضع المتأزم الذي تشهده الأحياء الفرنسية الفقيرة في الضواحي ذكّر دومينيك دوفيلبان، عن حق، بالجهود الحثيثة التي بذلتها الحكومة الفرنسية خلال العام الأخير لمعالجة معضلة البطالة في تلك الأحياء، فضلاً عن مشكلات أخرى مرتبطة بالسكن وتحسين الظروف الاقتصادية للسكان. فقد أنفقت الحكومة مبالغ مالية مهمة لإعادة تأهيل الأحياء المتضررة ضمن مشروع وطني طموح يهدف إلى تجديد الأحياء في المدن وإعادة الاعتبار لقاطنيها. كما أن البطالة التي كانت قبل سنة تقف عند حدود 10% انخفضت هذا العام إلى ما دون 9%، ومن المتوقع أن تتراجع أكثر مع النمو الاقتصادي السنوي لفرنسا المقدر ب 2.5%، حيث تم خلق 200 ألف فرصة عمل خلال السنة الماضية. وخلال الأسبوع الجاري قال \"دوفيلبان\": \"إن هدفي بسيط ويتمثل في تطبيق مبادئ الجمهورية ذاتها على الجميع في فرنسا؛ الحقوق نفسها والفرص نفسها، لكن أيضاً القواعد نفسها. لن يكون هناك إفلات من العقاب، ولن تترك أي منطقة خارج القانون في جمهوريتنا\". \r\n يشار إلى أن ثمة نسبة لا بأس بها من سكان فرنسا تدين بالإسلام، حيث تعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الأولى فيما يتعلق بعدد المسلمين الذين يصلون إلى خمسة ملايين نسمة بنسبة تبلغ 8% من مجموع السكان. ولابد من التذكير هنا بأن عنف الضواحي الذي ضرب فرنسا العام الماضي لا علاقة له بالإسلام الراديكالي، كما أوضحت ذلك السلطات الأمنية نفسها. فالمتظاهرون ليسوا في الحقيقة سوى مجموعة من الشباب الذين سيطر عليهم اليأس بسبب المشاكل الاجتماعية الحادة التي تخنقهم مثل الفقر والتعليم الرديء، وخاصة البطالة التي تعيق كافة الجهود الرامية إلى إدماج المهاجرين في المجتمع الفرنسي. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n