وسعياً لوضع حد لأعمال العنف هذه، رأت الحكومة أنه من الضروري إعلان حال الطوارئ للمرة الأولى منذ 50 عاماً (أي منذ الثورة الجزائرية)، وهي الحال التي تمنح الحكومة تلقائياً حق فرض حظر التجول. هل تقف فرنسا على حافة الحرب الأهلية؟ الجواب \"لا\". ولكن من الواضح أن هذه الأحداث تبرز أزمة سياسية واجتماعية عميقة لم يكن يتوقعها المسؤولون السياسيون أو وسائل الاعلام. \r\n بدأ كل شيء مع وفاة شابين كانا هاربين من الشرطة، ولجآ الى مقر تابع لشركة كهرباء فرنسا (إلكتريسيتي دو فرانس)، حيث تعرضا لصعقة كهربائية أودت بحياتيهما. في بادئ الأمر، أعلنت السلطات أن الشابين جانحان مُنتهكان للقانون، لكن سرعان ما اتضح أنهما، على العكس من ذلك، شابان يتصرفان بشكل طبيعي تماماً. وكرد فعل على ذلك، تم تحميل الشرطة مسؤولية وفاتهما من قبل أصدقائهما، وتلا ذلك ليلة من العنف سرعان ما اتسعت رقعتها. وكان للعبارات القاسية التي استخدمها وزير الداخلية نيكولا ساركوزي بحق مرتكبي أعمال العنف، وتحديداً كلمة \"أوباش\"، وقع شديد، حيث كانت بمنزلة الشرارة التي أضرمت الحريق. لقد شعر شباب الضواحي أنهم أيضاً مستهدفون بهذه الكلمات، حتى إن ليليان تورام \"ليليان تورام\" اللاعب الشهير في الفريق الوطني الفرنسي لكرة القدم، والذي تعود أصوله إلى جزر الأنتيل، وأحد أبناء هذه الأحياء الفقيرة، أدان استخدام تلك \"العبارات الجارحة والكلمات النابية\". علماً أنه من النادر جداً أن يتدخل رياضي مشهور في جدل سياسي حساس إلى هذه الدرجة. من ثم، إمتدت الحركة المعارضة بدوافع الغضب، والرغبة في التقليد، وكذا حب الظهور على شاشات التلفزيون. وقد تفاقمت حوادث حرق السيارات في العديد من المناطق، حتى إن وزير المدن سابقاً ورجل الأعمال برنار تابي وصف ذلك بعبارة \"بطولة فرنسا للسيارات المحروقة\". \r\n قيل الكثير في شأن تجسيد الأزمة نهاية النموذج الفرنسي للاندماج، الذي يفخر به الفرنسيون. فقد ولى العهد الذي تلا فوز فرنسا بكأس العالم في 1998، حين احتفلت بفريقها الوطني الأبيض والأسود والأسمر، الذي كان يضم عناصر عرقية مختلفة من بيض وسود ومغاربيين، ولكنها مندمجة في فريق واحد منسجم. كما بدا أن فرنسا، التي كانت تحب إبراز نموذجها الجمهوري كمثال معاكس لإخفاقات الاندماج الاجتماعي في الولاياتالمتحدة وبريطانيا، وقعت في الفخ ذاته. لقد دأبت فرنسا على مدى القرن العشرين على استيعاب مجموعات متتالية من الأجانب المتوافدين الى أراضيها؛ من بينهم بولونيون؛ وإيطاليون؛ وإسبان؛ وبرتغاليون؛ وغيرهم. وتمكن معظمهم تدريجياً من الاندماج في النمط الفرنسي، بفضل المدرسة، والانخراط في الحياة العملية في مرحلة كانت فيها البطالة منعدمة. \r\n وسجل العام 1975 نهاية السنوات الثلاثين المجيدة التي شهدت نمواً اقتصادياً متواصلاً، إذ لم يعد الاندماج بواسطة العمل مفيداً كما كان في الماضي. ولهذا السبب، لم يتمكن الوافدون الجدد، ومعظمهم مغاربيون وأفارقة، من الاندماج. \r\n في الواقع، المشكلة ليست مع المسلمين كما يريد البعض تصويرها، ولكنها بالأحرى مشكلة مع العاطلين عن العمل، وأولئك الذين يرون ألا مستقبل لهم في فرنسا، والذين يشعرون بالحرمان، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. المشكلة تكمن أيضاً في أن رد الفعل الشديد أثار التباساً في المفاهيم، خاصةً أن هناك من يربط بين الإرهاب والمسلمين على الصعيد الدولي، ومن يربط بين المسلمين والجنوح والخروج على القانون على الصعيد المحلي. \r\n خلال سبعينيات القرن الماضي، كان المهاجرون يعتقدون أن أبناءهم سيعيشون حياة أفضل من حياتهم. لكن منذ الثمانينيات من القرن نفسه، تغيّرت الأمور تماماً، فقد سجلت فرنسا معدل بطالة نسبته 10% في المتوسط، ويرتفع هذا المعدل في الأحياء التي تشهد غلياناً اجتماعياً هذه الأيام، ليبلغ 30%. \r\n وقد زادت الليبرالية الاقتصادية من حدة هذه المشكلة، من خلال تعزيز الفروق الاجتماعية، في حين ساهمت وسائل الإعلام في إبرازها أكثر فأكثر. وبالتالي، فإن هؤلاء الشبان يتمردون على مجتمع لا يقدم لهم أي منفذ أو بصيص أمل، لأنهم يدركون تماماً أنهم لن يستفيدوا من الارتقاء الاجتماعي على غرار أجيال المهاجرين السابقة. إن سياسة تقليص الميزانية، التي انتهجتها الحكومة منذ العام 2002، زادت من عمق المشكلة (التي لا تعتبر جديدة، حيث إن الحكومات السابقة تتحمل هي أيضاً جزءاً من مسؤوليتها)، من خلال إلغاء الدعم والإعانات للجمعيات التي كانت تؤدي دور الوسيط بين هذه الشريحة السكانية وباقي المجتمع. وما يؤكد ذلك هو ردود الفعل الأولى للحكومة التي، إلى جانب قيامها بنشر قوات الأمن بشكل مكثف، سارعت إلى استئناف تقديم هذه الإعانات إلى الجمعيات، منتهجة بذلك سياسة العصا والجزرة. \r\n كان من المفروض ألا تستمر هذه الاضطرابات طويلاً، لكنها استمرت، وانتقلت إلى دول أوروبية أخرى، يبدو أن لديها الأسباب نفسها التي تؤدي إلى النتائج نفسها. على أي حال، فإن هناك مسائل مهمة مطروحة يتعين على المرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية للعام 2007 الاهتمام بها بقوة، ووضعها على رأس أولويات برامجهم الانتخابية. \r\n ومن هذا المنطلق، يجب التفكير فيما يمكن عمله لإرساء المساواة في الفرص من جديد بين جميع المواطنين الفرنسيين مهما كان أصلهم الاجتماعي والعرقي. إن قمع الشبان الجانحين ضروري، لكنه غير كاف. بل يجب فتح أبواب الأمل أمام هؤلاء الشبان، الذين يثورون على مجتمع يشعرون بأنه يرفضهم. \r\n في انتظار ذلك، ما زال قطاع الرياضة وقطاع الفن (وتحديداً السينما والمسرح) هما القطاعين المهنيين الوحيدين اللذين ينجح فيهما الشبان المهاجرون. لكن إلى جانب زيدان وتورام، كم عدد الوزراء أو النواب أو الجنرالات أو رؤساء الشركات ذوي البشرة السوداء أو الأصول العربية؟ \r\n على فرنسا أن تعمل على احتواء هؤلاء الشبان وحل مشكلاتهم من خلال إيجاد فرص عمل لهم وتدعيم اندماجهم، وقد تكون تلك الجهود أهم كثيراً من قمع الجانحين والمشاغبين في الشوارع. \r\n \r\n