\r\n ففي اعتقاد هذه الدول أن في مطالبة المهاجرين بالتكيف الثقافي مع ثقافة الدولة المضيفة، نعرة \"عنصرية\"، وضرباً من الاستعلاء القومي والثقافي عليهم، بما يعيد للأذهان، ظلالا وأطيافاً من نعرة استعلاء \"الجنس الآري\" في التجربة النازية البغيضة. \r\n \r\n بل في ذلك ألمانيا ذاتها، حيث كان الانتماء القومي فيها، يعد حتى إلى وقت قريب، ذا طابع عرقي، تم استبعاد المهاجرين تلقائياً من التكيف الثقافي والسياسي. ولطالما سادت النظرة إلى جميع المهاجرين، على اعتبارهم \"ضيوفاً\" عليها، حالما يعودون إلى بلدانهم التي وفدوا منها ذات يوم. لكن الذي حدث هو عكس ذلك تماماً، إذ سرعان ما لحقت الأسر بأولئك المهاجرين، وطالبت بإعطائها الجنسية الألمانية. أما فرنسا فتؤمن من حيث المبدأ بتكيف المهاجرين، سياسياً وثقافياً، مع نمط الحياة الفرنسية. لكنها تستثني من هذا الشرط، المهاجرين العاملين فيها من بلدان شمالي إفريقيا. وفي هذا فهي تشبه اعتقاد الألمان، بأن هؤلاء العمال، ليسوا سوى ضيوف عليها، وأنهم سيعودون إلى بلادهم في نهاية الأمر. ولكن اليوم، فإن هذه الأقلية المسلمة في فرنسا- لم يحصر عددها حصراً دقيقاً، لكنها تتراوح بين 5 إلى 10 في المئة من إجمالي السكان الفرنسيين- باتت تمثل معضلة كبيرة لها. وتحاول فرنسا حلها بتبني استراتيجية تأجيلية، تستهدف بذل جهود التكييف الثقافي والسياسي للأجيال الشابة منهم. \r\n \r\n وعلى أية حال فإن الحالة الهولندية هي الأكثر إثارة للاهتمام، لكون الهولنديين يشبهون البريطانيين في دعوتهم لإنشاء مجتمع متعدد الثقافات والحضارات، يقوم على التكافؤ والندية. وفي هذا الاعتقاد الرسمي، وهمٌ ما بعده، أو فلنقل ضرب من \"النفاق\". ذلك أن في هولندا وبريطانيا، كما هو الحال في بقية الدول الغربية الأخرى، لا يطرق الشك مطلقاً، اعتقاد المواطنين الأصليين للدولة المضيفة، بتفوق ثقافتهم ومعتقداتهم وتقاليدهم الوطنية، على ثقافة وتقاليد ومعتقدات المهاجرين. وقد منح الهولنديون، المهاجرين بعض امتيازات نظام الرعاية الاجتماعية التي يتمتع بها المواطنون الأصليون. وفي اعتقادهم أن المعاناة الاقتصادية والشعور بالتمييز لدى المهاجرين، إنما هو نتاج لابد منه، لخيار الهجرة الذي لجأ إليه المهاجرون. كما ساد بينهم شعور غير واقعي-على رغم حسن النوايا- بأن هولندا، ستصبح يوماً مجتمعاً واحداً، متعدد الأعراق والثقافات والأديان، ومتسامحاً في ذات الوقت. \r\n \r\n لكن ومثلما يبدو للجميع، فقد ظلت هولندا على الصعيد العملي، دولة \"أبرشية\" محدودة، ومجتمعاً \"ما بعد كالفيني\" غير متسامح وضيق الصدر. كما يلاحظ أن المذهب \"الكالفيني\" المسيحي في هذا البلد، قد ارتدى طابع المجتمع التكييفي القسري، وجعل من نفسه، نسخة هولندية أبرشية، من اللاتسامح الليبرالي. ولكل هذه الأسباب، فإن المجتمع الهولندي، لم يكن مرشحاً في يوم ما، لأن يكون مجتمعاً للتعدد العرقي والثقافي. وعلى أية حال، فإنه لم يكن في البال يوماً، أن يؤدي كل هذا، لانفجار مشاعر الكراهية والغضب الاجتماعيين، على الرغم من أن الخضوع الذي توقعه الهولنديون من المهاجرين المسلمين، كان ينطوي دائماً على قهر للمسلمين ولثقافتهم. ومن هنا نشأ النزاع. فقد رفضت أغلبية كبيرة من المهاجرين المسلمين، الشروط الهولندية، لمفهوم التعدد الثقافي. وقد عبر هذا الرفض، عن عناد البعض وتمنعه، حتى في تعلم اللغة الهولندية. \r\n \r\n في هذا العام كان قد جرى عرض الفيلم التلفزيوني الذي أخرجه المخرج \"تيو فان جوخ\"، الذي هاجم فيه معاملة المسلمين للنساء - بمن فيهن المرأة المسلمة- وحقر فيه من شأن تلك المعاملة كثيراً، على نحو تجديفي وخادش للمشاعر الدينية. وقد أردي هذا المخرج قتيلا، في نهاية الأمر، علي يد أحد الشباب المسلمين، المنتمين للجماعات المتطرفة. ولكن تبع ذلك الحدث مباشرة، الهجوم الانتقامي على مدارس المسلمين ومساجدهم. \r\n \r\n يجدر بالذكر، أن منشأ هذه المأساة الهولندية، هو خليط من النوايا الطيبة الحسنة، والافتراضات الواهمة الزائفة، عن الحقائق السياسية والاجتماعية والإنسانية الخاصة بالاختلاف الثقافي. وتعود هذه الأوهام والافتراضات الزائفة، نوعاً ما، إلى ردة الفعل الأوروبية عموماً، للكارثة النازية القائمة على مبدأ التفوق العرقي. وفيما بعد التجربة النازية، فقد عدت التباينات والاختلافات العرقية والثقافية في المجتمعات الأوروبية، مصدراً لإذكاء النزاعات، والتمييز بين أفراد وشرائح المجتمع. ولهذا فإن المجتمعات الأوروبية، لم تكتف بتفاديها فحسب، وإنما عملت على تجاهلها وإنكارها تماماً. رافقت هذه الأوهام عن واقع التمايز الثقافي والعرقي، أوهام أخرى حول \"الإنسان\" نفسه. وقد آثر الأوروبيون، المضي في تصديق هذه الأوهام والعيش عليها، على رغم إثبات حقائق التاريخ لخطئها مراراً. \r\n \r\n وأعني بالأوهام الأوروبية حول الإنسان، اعتقاد الأوروبيين، بأن جوهر القيم السائدة في أوروبا، إنما هو مغروس في طبيعة النفس البشرية أينما كانت. ويتبع ذلك وهم الأوروبيين القائل إن في وسع إكساب الطابع الليبرالي للمؤسسات التعليمية والسياسية والاجتماعية، في المجتمعات التي لم تتبن تلك القيم بعد، أن تتبناها عبر عملية التحول الليبرالي هذه. \r\n \r\n وفي اعتقاد الأوروبيين أيضاً أن البشرية جمعاء، رجالا ونساءً، إنما هي ماضية باتجاه الديمقراطية الليبرالية والعلمانية، أو اللامبالاة الدينية على الأقل. وقد مضت أميركا الشمالية وأوروبا خطوة واسعة في هذا الطريق سلفاً. أما مجتمعات البلقان والعالم الإسلامي -أو ما يسمى بالدول الفاشلة- فقد تعثرت لسبب أو لآخر، في اللحاق بهذا الركب. كما ساد الاعتقاد أيضاً، بكونية القيم السياسية، بل والاقتصادية للغرب أيضاً، وأنها تسري على البشرية، في كل زمان ومكان. تلك هي أعم قيم ومفاهيم عصر التنوير الفرنسي، التي ظل التاريخ يثبت خطأها مراراً، كما حدث مؤخراً في هولندا. فهل حانت لحظة الصحو الأوروبي؟. \r\n \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز\"