يواجه الشعب العربي الفلسطيني في الوطن المحتل والشتات العربي والدولي مأزقاً يراه كثيرون الأشد خطورة في تاريخه الممتد. ذلك لأن تداعيات نزاعات سلطة محمود عباس وحكومة اسماعيل هنية لم تقف عند حدود اسقاط اتفاق مكة والتشرذم والصراع واحتراب أخوة المصير حتي داخل الأسرة الواحدة، وتعدد الممارسات غير المسؤولة وامتهان حقوق الانسان من قبل الأدوات التنفيذية في الضفة والقطاع المحتلين، وانما تعدي ذلك كله علي خطورته الي حد تصويت مندوب منظمة التحرير الفلسطينية الي جانب مندوب اسرائيل لاسقاط قرار مجلس الأمن باعتبار منطقة غزة منكوبة، في سابقة لم يقترفها أي مندوب عربي لدي المنظمات الدولية علي الرغم من أن أكثر من نظام عربي عقد صلحاً مع الكيان الصهيوني أو طبَع معه. ويبدو جلياً أن سؤال ما العمل بات القاسم المشترك الأعظم لحوارات ونقاشات وأدبيات النخب الفكرية والسياسية العربية في الوطن العربي والمهجر الأمريكي والأوروبي. ولقد تباينت وجهات النظر الي حد التناقض في تفسير وتعليل ما هو جار في الضفة والقطاع المحتلين، كما في تحديد المسؤولية التاريخية والأخلاقية عن التجاوزات فيهما. وهناك من نشط بالدعوة لعقد مؤتمر وطني عام للبحث في آلية تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني بالانتخاب حيث أمكن ذلك، وليتولي وضع آليات اعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية . وهناك من يدعون لعقد مؤتمر تأسيسي لتشكيل ما أسموه منتدي فلسطين . وذلك باقامة تنظيم سياسي جديد يشكل رجال وسيدات الأعمال عموده الفقري، يجسد الفريق الثالث المتمايز عن كل من فتح وحماس، ليس فقط باستناده لقدرات عناصره المالية وعلاقاتهم العربية والدولية، وانما أيضاً بافتقاد غالبية الداعين له لتاريخ نضالي كما في حال فتح أو التزام بنهج المقاومة كما هي حال حماس. وهناك من يعيبون علي طرفي الصراع انخراطهما في نزاع حول سلطة فاقدة السيادة في ظل الاحتلال، ويدعونهما للحوار وصولاً لاعادة وحدة الصف، باعتبار ذلك في رأيهم الاستجابة الفاعلة للتحدي المصيري الذي يواجهه الشعب العربي الفلسطيني في وطنه المحتل والشتات. والاحظ بداية أن الانقسام والتشرذم في الساحة الفلسطينية ليسا جديدين، ولا هو بالطارئ علي الحراك الوطني الفلسطيني تبادل الاتهامات بالتفريط والتوريط، وغلبة الانفعال علي الموضوعية، وتقدم التعصب الفئوي علي الولاء الوطني، ولا حتي الاستقواء بالمحيط الاقليمي والمراهنة العبثية علي حلول يجود بها رعاة المشروع الصهيوني وحماته التاريخيون. فكل ذلك مما اعتادته الساحة منذ بدايات الحراك الوطني الفلسطيني مطلع عشرينيات القرن الماضي. وهي مسألة لا تعود لعلة في ثقافة ووعي الشعب العربي الفلسطيني كما يذهب الجاهلون بطبيعة التحدي المفروض علي شعب الممانعة التاريخية والمقاومة الأسطورية، وانما هي من بعض افرازات واقع موضوعي متمايز كيفياً عنه في بقية نواحي الوطن العربي ونصف الكرة الجنوبي. فشعب فلسطين العربي انما يواجه استعماراً استيطانيا عنصرياً اجلائياً يستهدف الأمة العربية باعتباره حجر الزاوية في استراتيجية القوي الاستعمارية لتأصيل تجزئة وتخلف وتبعية الوطن العربي ليتواصل استغلاله موقعاً وموارد وأسواقاً وقدرات بشرية. ولتيسير نجاحه اعتمدت تلك القوي وأدواتها الاقليمية منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين في كانون الاول (ديسمبر) 1917 اشاعة النزاعات فيما بين النخب السياسية والفكرية الفلسطينية وتصنيفها بين متعاونين واقعيين وبين متطرفين مثاليين وتقديم الأولين، وخصهم بفتات المكاسب الاستعمارية، مقابل اقصاء الآخرين والتحريض عليهم. ويعلمنا تاريخ الصراع الممتد أن كل محاولات تصفية القضية الفلسطينية تكسرت علي صخرة ممانعة ومقاومة وصمود شعب عصيت ارادته علي الاستلاب، كما يعلمنا بأن الملتزمين بثوابته الوطنية هم وحدهم الخالدون في ذاكرة أجياله المتوالية. وثاني ما الاحظه أنه، مع ادانة التجاوزات اللامسؤولة في كل من الضفة والقطاع، هناك تمايز كيفي بين دوافع وغايات طرفي الصراع، وليس من الموضوعية والعلمية في شيء اعتبارهما في المسؤولية الوطنية والتاريخية والاخلاقية سواء. ذلك لأنه من وجهة النظر الوطنية والقومية والانسانية لا يستوي الملتزمون تاريخياً بنهج أوسلو برغم وضوح حصاده المر، والمؤمنون بالمقاومة خياراً استراتيجياً. ولا خلاف أن تأصيل الثقافة الديمقراطية وتأكيد الالتزام بحقوق الانسان والحريات العامة والخاصة في أولويات ما يحتاجه المواطن العربي لانتشاله من حالة اليأس والاحباط والعزوف عن النشاط العام، إلا أنه بالنسبة لمواطني الضفة والقطاع المحتلين تتقدم مقاومة الاحتلال والحصار المفروض علي الصامدين والتصدي لمشروعات التصفية التي تلوح نذرها في الأفق علي كل مطلب آخر رغم أهميته وضرورته لأن تحرير التراب الوطني هو المقدمة الطبيعية لتوفير الحريات واحترام الحقوق في كل زمان ومكان، ودون ذلك عبث واهدار للوقت والجهد دون طائل. ويذكر ستيفن والت وجون ميرز هايمر، الأكاديميان الأمريكيان، في تقريرهما المعروف بتقرير هارفرد (ص 10) في تعليل اقدام حكومة رابين علي اعتماد نهج أوسلو ان الضغط من قبل العنف الفلسطيني المتطرف، والنمو السكاني للفلسطينيين قد أجبرا القادة الاسرائيليين اللاحقين (لبن غوريون وغولد مئير) علي ان يتخلوا عن بعض الأراضي المحتلة وأن يبحثوا في أمر تسوية اقليمية! غير أنهما سرعان ما يعقبان في ذات الصفحة قائلين ولكن لا توجد حكومة اسرائيلية تتطلع أو ترغب في أن تقدم للفلسطينيين دولة يستطيعون العيش فيها لوحدهم. وحتي العرض الذي اعتبر كرماً من رئيس الوزراء ايهود باراك في كامب ديفيد في تموز (يوليو) 2000 فقد أعطي للفلسطينيين فقط مجموعة من الأراضي المتناثرة للعيش فيها، ولكن بدون سلاح وتحت قيادة اسرائيل واقعياً . وفيما قاله ستيفن والت، استاذ العلاقات الدولية والعميد السابق لكلية الحكومات في جامعة هارفرد وزميله جون ميرز هايمر استاذ الكرسي المميز لقسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، يغني عن كل حديث مستفيض حول طبيعة الصراع الذي فرض علي الشعب العربي الفلسطيني، وما يدل دلالة قاطعة علي اجماع صناع القرار الصهيوني علي عدم الاستعداد لتقديم أي تنازل عما اغتصبوه الا تحت ضغط المقاومة الوطنية الفلسطينية. مما يعني في التحليل الأخير أنه بالمقاومة وليس بالتنازلات تنتزع الحقوق. وبالتالي فالحوار غير المؤسس علي التزام استراتيجي بالمقاومة فكراً وعملاً ليس بجدي في رأب الصدع وتعزيز الوحدة الوطنية علي قاعدة الالتزام بالثوابت التي تأسست عليها منظمة التحرير الفلسطينية. وفي ضوء حقائق الصراع وتاريخه الممتد ينبغي النظر في كل الطروحات والمبادرات والمواقف الشائعة في الساحات العربية كافة وليس الفلسطينية منها خاصة.