فشل الآمال التي علقها كثيرون على لقاء الرئيس محمود عباس وخالد مشعل في دمشق، وتفاقم حدة الفلتان الامني في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين لدرجة الاستهانة بالدم الفلسطيني، وتبادل الاتهامات بالتخوين فيما بين “صقور” فتح وشيوخ حماس، كل ذلك استفز قلق وغيظ واستنكار القطاع الاعظم من نخب وجماهير الامة العربية. وإن كانت ردات الفعل العربية لم تجاوز في غالبيتها الساحقة الانفعال العاطفي، إلا انها تعكس شعورا قوميا يضحد الادعاءات بتراجع الاهمية النسبية للقضية الفلسطينية لدى الشعب العربي، أو افتقاد جماهيره الايمان بوحدة المسيرة والمصير. غير أن هناك من بلغ بهم الغيظ والسخط حد افتقاد القدرة على القراءة الموضوعية للواقع الفلسطيني والتقييم السليم للاحداث، إذ زعم بعضهم أن الشعب العربي الفلسطيني بلغ هاوية الضياع فيما ادعى آخرون أن صدامات “الاخوة الاعداء” شوهت صورة هذا الشعب، عظيم الصمود تاريخي المقاومة، في نظر الآخرين.
وبداية ألاحظ أن احتدام النزاع فيما بين جماعة أوسلو، وبين قيادة حماس، وانجرار كوادر الطرفين لمستنقع تصفية بعضهم بعضا، ليس بدعة فلسطينية أو مسألة طارئة في تجارب حركات التحرر الوطني عبر التاريخ، وإنما هي ظاهرة ندر ان لم تشهدها أي من هذه الحركات. وكثيرة هي الحالات التي قدم فيها عميان المصالح تناقضاتهم الثانوية مع منافسيهم في الحراك السياسي الوطني على تناقض شعبهم العدائي مع محتلي ارضه ومهدري حقوقه الوطنية المشروعة، خاصة عندما يكون الصراع مع العدو ممتدا واحتمالات الوصول فيه لتسوية مشرفة بعيدة، كما هو حال الصراع العربي الصهيوني في فلسطينالمحتلة من النهر الى البحر. ومما يذكر انه في مطلع عشرينات القرن الماضي، وبينما كانت الثورة الايرلندية في اوجها، نجح وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرتشل في شق صفوف الثوار، واستقطاب جناح منهم، وتوظيفه في ملاحقة رفاق الأمس، كما فعلت “فصائل السلام” بالثورة الفلسطينية سنة 1939.
ثم إن النزاع المحتدم بين “صقور” فتح وشيوخ حماس ليس فقط نزاعا سياسيا بين رموز فصيلين من فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، تباينت وجهة نظر صناع قرارهما الى حد التناقض في ادارة الصراع مع العدو الصهيوني، وانما هو ايضا فرع عن الصراع الذي فرضته الادارة الامريكية على شعوب الامة العربية بتوظيف “الفوضى الخلاقة” في تفكيك بنى المجتمعات العربية. فضلا عن الطموح لتحقيق نجاح في الضفة الغربية وقطاع غزة يتيح لادارة بوش الحد من تداعيات فشلها في قهر إرادة المقاومة العراقية، كما ييسر لحكومة أولمرت ضبط مفاعيل خيبتها في العدوان على لبنان. ولم يعد خافيا التدخل الأمريكي والصهيوني لإجهاض كل اتفاق تنتهي اليه حوارات الفصائل الفلسطينية، مما يعني في التحليل الأخير أن ما يجري على الأرض الفلسطينيةالمحتلة له بعده القومي الى جانب بعده الوطني، ولا يمكن عزله عن الصراعات المحتدمة في العراق ولبنان والسودان والصومال.
ثم ان النزاع المحتدم فيما بين “صقور” فتح وشيوخ حماس، انما يدور فيما بين طرفين، التناقض تام بين موقفيهما من الصراع مع الادارة الأمريكية وأداتها الصهيونية. وعليه فإنه من غير الموضوعية ولا الواقعية الحياد في تقويم مواقف الطرفين، واعتبارهما متساويين في المسؤولية التاريخية والاخلاقية عن الاحتكام للسلاح والاستهانة بالدم الفلسطيني، وتجاهل التمايز الكيفي في مواقفهما من الثوابت الوطنية والقومية والصلح والتطبيع مع العدو الصهيوني. بل وتناسي أن تجاهل هذا التمايز الموضوعي انما يؤشر لانحياز غير معلن لجماعة اوسلو، وافتقاد الشجاعة الادبية للتصدي لمن ادمنوا تقديم التنازلات والتفريط بالثوابت الوطنية.
وأن يكون هذا هو التوصيف الموضوعي للنزاعات المتفاقمة في قطاع غزة والضفة المحتلين، فإنه في حكم المؤكد ألا تجدي في وقفها إدانة تجاوز اطرافها المحرمات الوطنية، او مناشدتهم مراعاة الظروف الضاغطة على الصامدين في ظل الاحتلال. كما انه غير مجد التذكير بافتقاد سلطة حكم الذات، المؤسسة على اتفاق اوسلو، ما يستحق النزاع حوله، وافتقاد ما هو مطروح امريكياً وأوروبياً للحد الادنى من تلبية المطالب الوطنية الفلسطينية. ذلك بأن جماعة اوسلو تدرك تمام الادراك طبيعة ما انطوى عليه “اتفاق المبادئ” الذي وقعه الرئيس محمود عباس في حديقة البيت الابيض في سبتمبر/ أيلول ،1993 وما توالى بعده من اتفاقيات، وتعرف اكثر من سواها افتقار المعروض امريكيا ومن “الرباعية” لأي مضمون وطني جدير بالاعتبار، ولكنها جماعة منتفعة باتت اسيرة مصالح وطموحات تبرر لديها كل ما قدمته من تنازلات وما هي على استعداد لتوالي تقديمه.
ولما كانت احداث الاسابيع الاخيرة قد اظهرت أن فتح لما تزل تمتلك قدرة التأثير في الشارع الفلسطيني، وأن “صقورها” الأشد تأثيرا في صناعة قرارها، وبالتبعية قرارات السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقد ادركت عجز حصار التجويع عن تفجير الساحة وإسقاط حكومة حماس، لجأت للسلاح لعلها تفجر الحرب الأهلية المطلوبة امريكيا وصهيونيا. ومن هنا تتضح اهمية اتخاذ ما من شأنه لجم انفلات “الصقور” من عقالها، ومحاولة تفعيل المكون النضالي الذي لما تزل تختزنه القيادات الفتحاوية المغلوبة على أمرها والكوادر المتحررة من الارتباط التبعي لجماعة اوسلو. ولما كان المجتمع الفلسطيني، كنتيجة للنكبة وتداعياتها، يفتقر لهيئات المجتمع المدني الفاعلة والقادرة على ضبط المسار، فإنه بات من مسؤولية النخب الفكرية والسياسية والشخصيات الاجتماعية الفلسطينية المشغولة الفكر والوجدان بالهم الوطني التحرك لإيجاد الكتلة التاريخية الوطنية الملتزمة بالثوابت والقادرة على التأثير وطنيا، والتفاعل قوميا مع قوى الممانعة والمقاومة على مدى الوطن العربي.
وآفاق العمل الوطني للنخبة الفلسطينية غير مسدودة، ولا مجالات تفاعلها مع العمق الاستراتيجي العربي محدودة. إذ لما يزل لفلسطين وشعبها وقضيتها رصيد غير محدود عند جماهير الشعوب العربية والاسلامية، التي لم تسلم يوما بمقولة “نقبل بما يقبل به الفلسطينيون” لعميق ايمانها بمسؤوليتها التاريخية القومية والشرعية عن فلسطين ومقدساتها الاسلامية والمسيحية، وعمق إدراكها بأن “اسرائيل” انما هي أداة ضمان مصالح القوى الاستعمارية بإعاقتها تحرر العرب وتقدمهم وتكاملهم القومي. ولا زالت في كل قطر عربي وإسلامي قوى مؤهلة لدعم الكتلة التاريخية الفلسطينية في حال قيامها. وهذا هو التحدي الذي يواجه النخب الفلسطينية في الوطن المحتل والشتات العربي والدولي.