كنا نحلم بذلك اليوم الذي تكون فيه مصر حرة من أية قيود .. ومفتوحة سياسياً وفكرياً لكل أبنائها بكل انتماءاتهم ماداموا يعبرون عن هذا الانتماء بالوسائل والأساليب السلمية التزاماً بقاعدة "لا تجريم لفكر ولا حجر علي رأي".. وقد حققت ثورة 25 يناير هذا الحلم وجعلته في متناول أيدينا .. لكن ما يحدث اليوم يثير قلقاً متزايداً من ان يتحول الانفتاح السياسي والفكري إلي انفتاح للمغامرين والمتآمرين بدون وعي ولا رقابة. نحن نريد مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة .. تلتزم بالتعددية وتحارب الاستبداد والتمييز والقهر .. لكننا أبداً لا نريدها فوضي مفتوحة لكل المغامرين والمتآمرين .. لمن يدفع ومن يقبض .. لا نريدها لبنان آخر تسقط فيه سلطة الدولة وتعلو سلطة الدولار والرشاش.. ويختلط فيه الحابل بالنابل حتي لا نكاد نميز بين الثوري والفوضوي الذي يحرق المجمع العلمي ثم يرفع يديه بعلامة النصر. مما يؤسف له أن مصر تتعرض الآن لتيارات متلاطمة .. وتتحدث بألف لسان .. ومنابرها الإعلامية والصحفية متقاطعة متناقضة .. وبينما يشكو الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء من أن وعود المساعدات التي تعهدت بها دول عربية وأجنبية لم تتحقق بنسبة كبيرة ولم يصل منها إلا القليل جداً نري ونسمع ان منظمات المجتمع المدني والناشطين والناشطات قد وصلتهم مساعدات ومعونات بأرقام فلكية من جهات التمويل الأجنبية. صارت مصر مفتوحة لكل من يقدم المال ليجد لنفسه موطئ قدم علي أرضها .. وأيضاً لكل من يقدم السلاح والمعلومات والبيانات والمساعدات اللوجستية حتي تظل نارها مشتعلة ولا تهدأ لكي تري الطريق الصحيح وتبني مستقبلها المنتظر. وبكل صراحة .. فقد سئمنا من الكلام الكثير الذي يتردد عن المؤامرات والمخططات والطرف الثالث واللهو الخفي.. والقلة المندسة بينما لا يقدم دليل أو إثبات .. وأيضاً سئمنا من الرد العجيب بأن الكشف عن الدليل والإثبات يضر بأمننا القومي .. وقلنا ولا نزال نقول إن هذا الغموض يزيد الشكوك والريب. المجلس العسكري يتحدث كثيراً عن مخطط للانقلاب علي السلطة وإحراق مصر واسقاط الدولة .. ومصادر مسئولة تتحدث عن تمويل هائل من الخارج وأسلحة واستراتيجيات جاهزة لإثارة الفوضي والانفلات .. وتتردد اتهامات صريحة للرئيس المخلوع وأسرته وبقايا أجهزته ومساعديه ونزلاء طرة وبعض الفلول ورجال الأعمال بالضلوع في مؤامرة كبيرة لتفجير مصر من الداخل .. وتذكر مصادر رسمية ان هناك جهات أجنبية متورطة مع عناصر داخلية لإفساد الانتخابات والوقيعة بين الجيش والشعب. حسناً .. نحن أيضاً نشعر بذلك .. ولكن المجلس العسكري وأجهزة الدولة ليست مثلنا .. ويجب ألا تتحدث مثلما نتحدث .. وإنما عليها ان تتحري وتبحث وتقبض علي المشبوهين وتقدم الأدلة والإثباتات .. وتحيل القضية إلي العدالة لتأخذ مجراها. إن التخويف من المخططات والمؤامرات لن يحل المشكلة بل يزيدها تعقيداً.. لأننا بصراحة نشعر ان الدولة غير قادرة علي ضبط الإيقاع العام وتطبق القانون وتقوم بدورها في تأمين حدود مصر الافتراضية ضد الأموال الرهيبة التي تقتحمها بغزارة لتنفيذ مخطط السقوط والفوضي. يضاف إلي ذلك ان جنرالات الفضائيات الليلية قد أرهقونا بصراعاتهم وتحليلاتهم وتناقضاتهم التي يقذفوننا بها كل مساء .. ورؤساء الأحزاب والمرشحون والمتحدثون باسم الائتلافات الثورية والمرشحون المحتملون للرئاسة والرافضون والمؤيدون والصادقون والكاذبون والفائزون والساقطون .. هؤلاء جميعاً يطلقون علينا أعيرتهم الكلامية بلا رحمة وبلا ضمير فنفقد صوابنا. عناوين الصحف ومانشيتاتها تنقض علينا هي الأخري في سباقات الطريق المعاكس .. كل لون يدافع عن نفسه ويتهم الآخرين .. ووسط هذا المهرجان "المأتم" تضيع الحقيقة .. وتضيع المهنية .. وتقتل الموضوعية قتلاً. الجنزوري في بيانه أمس لا يدين أحداً لكننا ندين الجميع .. فنحن نري بأعيننا حجم الكارثة ولا نستطيع ان نوقفها .. ونري حجم المؤامرة ولا نعرف لماذا لم تكشف خيوطها وتعلن حقائقها .. ويا أيها السياسيون والمسئولون والمثرثرون رفقاً بمصر التي انفتحت للجميع ولا أحد يريد أن يرحمها.