داخل الزنزانة يجلس علي الأرض منصور الحفني "أحمد السقا" مرتديا البدلة الحمراء. منتظرا تنفيذ حكم الإعدام. يمسك بالمصحف الشريف. ويقرأ القرآن.. ثم في مفاجأة لم تكن أبدا في الحسبان يحدث "هجوم كاسح" بكافة الاسلحة علي السجن ويتمكن "منصور" من الهروب وسط جلجلة المدافع والاسلحة وسحابات الدخان وكتل النار والضباب الناجم عن الدمار. علي شاطئ البحر في مدينة الإسكندرية وفي إحدي مناطقها الشعبية "ابو قير" يتهادي "علي" "أحمد مالك" الشاب الصغير ابن منصور الحفني الهارب من الثأر هو وعمه "فضل" نضال الشافعي الذي رباه بعد سجن أبيه. يتهادي وإلي جواره حبيبته الصغيرة "أميرة".. الشابان الصغيران سارحان في قصة حب مع الكلام المكتوب علي أحجار الشاطئ كعاشقين صغيرين لا يتوقعان ما تحمله لهما الساعات القادمة التي حتما ستفرق بينهما. خيطان لا يستقيمان ولا يفترض أنها يلتقيان.. خيط الأب عتيد الاجرام وخيط الابن البرئ الذي يرفض حياة وسيرة ابيه ولا يريد أن يمضي فوق نفس الدرب لكن القوانين القبلية تكسر العاصي. وتروض الرافض. قدر منصور "الكبير" وحلم الحرية المشروط بضرورة الاحتماء والاختباء والتسلح بقوة تحميه من العودة إلي الزنزانة. يفرض عليه هروباً من نوع آخر. من واقع مفروض إلي ماضي يعيد ما كان. الزمن الذي حدده الفيلم "24 يناير 2011 وحتي منتصف 2012" وهو الفترة التي جرت فيها احداث ثورة 25 يناير لا يمكن أن يكون اعتباطياً. والأمر الذي يفرض القراءة السياسية للفيلم علي أن يأتي ذلك لاحقاً. حين يرفض "الابن" الحالم بالحب والحياة السالمة بعيدا عن حكايات الثأر وتجارة المخدرات واستخدام السلاح يجبره "الأب" بحيلة شيطانية علي العودة إلي الجزيرة. ومن ثم الفراق عن محبوبته. وحين تعلم الحبيبة الصغيرة بحقيقة والد الشاب الذي أحبته تصر بدورها علي القطيعة فالطريقان هنا متوازيان واللقاء مستحيل كذلك. منذ البداية الصاخبة المزلزلة التي تلعب فيها المؤشرات الصوتية والبصرية تأثيرا دراميا يستحوذ علي أذن المتلقي ويمسك بتلابيب حواسه جميعا. يضع الاشقاء الثلاثة كتاب السيناريو "محمد وخالد وشيرين دياب" علي اطراف خيوط عديدة في دراما ملحمية يمكن استقبالها بأكثر من زاوية. حيث تحيل ما هو ليس مباشراً في معانيها إلي ما إستقبلناه علي نحو مباشر من خلال الحوار والاشارات والدلالات التي لا تحتاج إلي جهد كبير بالنسبة لجمهور عاش زمن الاحداث وتابع تداعياتها وشاهد في الجزء الاول عام 2007 الجذور التي أنبتت شخصية منصور الحفني بطل الجزء الثاني. الزمن هنا يفرض معطياته السياسية والاجتماعية ويفرض علي المتلقي التفسير الذي يتطابق مع ماجري وكان هو نفسه شاهدا عليه. المرأة القوية فوق "الجزيرة" التي تقع في جنوب الوادي تمكنت "كريمة" "هند صبري" من احتلال مكانة "الكبير" السابق بعد أن نجحت الشرطة في اغتياله إلي السجن.. صارت الحبيبة القديمة هي "الكبيرة" المرأة قوية الشكيمة لا فارق بينها وبين الرجال. وباتت هي الحاكمة بامرها علي الجزيرة بعد أن ضاع "منصور" وحكم عليه بالاعدام. ولكنه أفلت من الحكم. إعادة قدر أحمق الخطي. أفسح مكانا للمجرمين وقطاع الطرق والمطاريد وسكان الكهوف في الجبال الوعرة المحيطة بالصعيد. هؤلاء وغيرهم من مطاريد آخرين نجحوا في اقتحام السجن ونجح منصور في العودة إلي الجزيرة وجمع شتات أعوانه واستعد لاستعادة وملكه القديم واستغل "الشيخ جعفر" "خالد صالح" ظروف الزمن الردئ. وتراخي قبضة حكامه وشرطته للقفز إلي مقدمة المشهد.. ولما لا وهو بدوره يمتلك "جماعة" وحجة قوية يدعمها الدجل باسم الدين. ويمتلك فصاحة وصوتاً جهورياً وأسلوبا ناجحا في التسلل إلي جماعة من الجهل والمغيبين والمسلوبين القدرة علي اعمال العقل. هؤلاء "الرجال" يقول الفيلم عبر الحوار وعلي لسان شيخهم أنهم نعم من سلاله جماعة حسن البنا ولا يختلفون إلا في القليل. يؤمنون "بالطاعة ثم الطاعة ثم الطاعة" أي الطاعة المطلقة للجماعة مثل طاعتهم لله.. والشيخ "جعفر" لا ينطق إلا "بالحق" ولا يؤمن الا بقول "الله" وكلامة قانون هذا هو السائد والمتسيد. وهؤلاء باتوا يشكلون قوة ضاربة.. ويتحولون في ساحات الصدام إلي اسراب جراد أشرس من عسكر التتار يمتلكون المال الحرام والسلاح غير المشروع والسيارات المسروقة ولهم منطقهم القوي وحجتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال. ليس بالضرورة أن يكون "الرحالة" هم "جماعة الإخوان" تحديدا أن هم جميع قوي الإرهاب المطاردة التي لا يقبلها سكان "الجزيرة" ولا يقبلون هم سكانها بدورهم وطموحهم هو التمكين من الجزيرة بأرضها وأهلها والانقضاض علي كامل مقدراتها وهم يتحينون الفرصة لتحقيق ذلك. اذن لا مفر من القراءة السياسية لفيلم "الجزيزة 2" فحين يكون الصراع الظاهر بين قوي الشر من مطاريد العالم سكان الكهوف وتجار الدين ومن ليس لهم أرض ولا عرض ولا عهد ولا جنسية. ولديهم فقط دين للاتجار به والتضليل باستخدامه مع طاعة مطلقة لمن ينتمون لهم. وبين أفراد من جهاز الشرطة يتزعمهم رشدي وهدان "خالد الصاوي" الذي نسفت "الجماعة" سيارته وفيها اطفاله وزوجته وينضم اليه قبيلة منصور الحفني وأهل الجزيزة في معركة كبري لم ينتصر فيها احد في الحقيقة.. أليست هذه المعركة نفسها مستمرة وبين نفس القوي تقريبا. ذلك ما نقلته الصورة وحدها في نهاية الفيلم عندما نكتشف أن احدا لم يمت وأن الاطراف الثلاثة لم يفارقونا بكل ما يحملونه من دلالات وانهم ربما ينفضون التراب ويعدون العدة لمعارك أخري. ولكن وقبل هذه القراءة علينا أن نتعامل مع الفيلم بمعطياته المباشرة كعمل فني جماهيري ناجح يحقق أعلي الايرادات وسط أفلام العيد. نحن أمام فيلم يمتلك مقومات العمل القادرة علي أسر المتفرج وتحريك شهيته والبوح الصريح حول اعجابه بالفيلم. ولعل أقوي المقومات الحبكة البوليسية المركبة المليئة بالحركة والفعل ورد الفعل والمؤثرات المرئية والمسموعة والزخم الشكلي والموضوعي انه حالة من التناغم ينطوي علي خيوط عديدة رئيسية واخري فرعية وتتلاقي في نسيج عريض لعبور مستويات عديدة. للصراع: أولا بين الأب والابن الصغير ثم محاولة اعادة تأهيله ليدخل ضمن القبيلة ويدين بقوانينها ويشارك في صراعاتها. ثم صراع علي مستويين بين "الكبيرة" المرأة العاشقة التي مضي قطار شبابها في عشق "منصور" الذي كان الكبير وصراع علي السلطة ومن يحكم "الجزيرة" وصراع من أجل الارتباط بالاثنين "المرأة والسلطة" لان القانون يحكم بأن الكبيرة يلزمها "كبير". وهناك الصراع علي مستويات تتجاوز الافراد إلي الحكم يشارك فيه قوي كبيرة متضاربة الأهداف والوسائل.. والدوافع.. بين الشرطة وعصابه منظمة. وأخري محلية تتاجر في المخدرات وأقدار الناس. هناك طوال الوقت تلوح قوة "الثأر" فالتقاليد في ثقافتنا الجنونية أقوي من الدين وقوانينها سارية ولكن في هذا الفيلم تتحد القوي المتضاربة ضد قوة واحدة تشكل التهديد الاكبر الا وهي جماعة الرحالة. عناصر الصراع قوية ومتكاملة في اطار فني يحكم بالصورة واللغة المرئية ويختار من كلمات الحوار والتعبيرات أبلغها. صراع طريف وعلي مستوي الحريم هناك صراع أقل ولكنه طريف وجذاب بين "الكبيرة" وصفية "اروي جودة" الاثنان بينهما "رجل" يستحق أن يكون موضوعاً لمعركة "حريمي" وفي النهاية يتحالف الجميع.. في المعركة الكبري.. ويتضمن الفيلم خيوطاً فرعية أقل تأثيراً مثل حكاية الشاب "عمار" الذي ينضم إلي "الرحالة" ويكتشف جوهرها الاجرامي ونفاقها الصادم. وقبل هذا كله هناك مايسترو "شريف عرفه" يمسك بهذه الخيوط جميعاً ويحكم ادارتها وتحريكها وهناك "فرقة" من الممثلين تعزف اللحن المضبوط في اداء محسوب ودقيق يدرك متي يعلو ومتي يهبط ومتي يهمس ومتي يكون حانيا أو شرساً. الجميع يتقدمهم أحمد السقا في دور منصور وخالد صالح طيب الله ثراه في دور "جعفر" افتقدته السينما وافتقدناه كفنان يعرف كيف يذوب مع جمهوره في لحن واحد يجمعهما. هند صبري "كبيرة" فعلا بالاداء والفهم الجيد لابعاد دورها غير التقليدي "واروي" ونضال الشافعي وهذا الشاب الواعد الذي ولد كبيرا أحمد مالك في دور "علي". متعة بصرية فعلا بالتصوير الرائع "ايمن ابو المكارم" والاختيار الموفق جدا لاماكن التصوير والموسيقي التي كست الفيلم بغلالة شفافة تتواصل مع شحنات الفيلم الشعورية.. ثم مونتاج لا يترك مساحة للفجوات أو المطبات رغم الخيوط العديدة. في النهاية تحقق "الجزيرة 2" المعادلة الصحيحة التي تجمع بين الفن والصناعة والتجارة والترتيب مقصود.. وتلغي بالمرة مقولة أن "الجمهور عايز كدة" حجة البليد من تجار الأفلام.