قبل ساعات قليلة من ختام زيارة ناجحة قام بها عاهل المملكة السعودية لمصر, استغرقت خمسة ايام وحظيت باهتمام شعبي ورسمي منقطع النظير وجرى خلالها التوقيع على عدد ضخم من بروتوكولات التعاون بين البلدين في جميع المجلات, أصدر مجلس الوزراء المصري بيانا حول اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والمملكة السعودية, جاء فيه: ”كان التوقيع على اتفاق تعيين الحدود البحرية بين البلدين إنجازًا هامًّا من شأنه أن يمكن الدولتين من الاستفادة من المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما، بما توفره من ثروات وموارد تعود بالمنفعة الاقتصادية عليهما. وجاء هذا الإنجاز بعد عمل شاق وطويل استغرق أكثر من 6 سنوات، انعقدت خلالها إحدى عشرة جولة لاجتماعات لجنة تعيين الحدود البحرية بين البلدين، آخرها ثلاث جولات منذ شهر ديسمبر 2015 عقب التوقيع على إعلان القاهرة في 30 يوليو 2015. وقد اعتمدت اللجنة في عملها على قرار رئيس الجمهورية رقم 27 لعام 1990 بتحديد نقاط الأساس المصرية لقياس البحر الإقليمي والمنطقة الاقتصادية الخالصة لجمهورية مصر العربية، والذي تم إخطار الأممالمتحدة به في 2 مايو 1990، وكذلك على الخطابات المتبادلة بين الدولتين خلال نفس العام، بالإضافة إلى المرسوم الملكي الصادر في 2010 بتحديد نقاط الأساس في ذات الشأن للمملكة العربية السعودية. وتجدر الإشارة إلى أن الفنيين من أعضاء اللجنة قد استخدموا أحدث الأساليب العلمية لتدقيق النقاط وحساب المسافات للانتهاء من رسم خط المنتصف بين البلدين بأقصى درجات الدقة. وقد أسفر الرسم الفني لخط الحدود بناءً على المرسوم الملكي والقرار الجمهوري المشار إليهما أعلاه عن وقوع جزيرتي صنافير وتيران داخل المياه الإقليمية للمملكة العربية السعودية. والجدير بالذكر أن الملك عبد العزيز آل سعود كان قد طلب من مصر في يناير 1950 أن تتولى توفير الحماية للجزيرتين، وهو ما استجابت له وقامت بتوفير الحماية للجزر منذ ذلك التاريخ. وسيسفر التوقيع والتصديق على الاتفاق عن تمكين جمهورية مصر العربية من الاستفادة من المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر الأحمر وما توفره من فرص للاستكشاف والتنقيب عن موارد طبيعية إضافية للدولة. وسيتم عرض اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية على مجلس النواب لمناقشتها وطرحها للتصديق عليها طبقًا للإجراءات القانونية والدستورية المعمول بها" كان لهذا البيان, والذي جاء بمثابة اعتراف رسمي من الحكومة المصرية بملكية السعودية لجزيرتي تيران وصنافير, وقع الصدمة على الشعب المصري ما زالت أصداؤها تدوي بعنف حتى كتابة هذه السطور. فلم يسبق للحكومة المصرية أن أحاطت الشعب المصري علما بوجود مفاوضات تجري منذ وقت طويل مع حكومة المملكة العربية السعودية بهدف ترسيم الحدود البحرية بين البلدين, ولم يسبق لها نشر قائمة بأسماء الأعضاء المصريين في اللجنة المشتركة لترسيم الحدود التي قال البيان أنها تعمل منذ أكثر من ست سنوات. لذا بدت حكاية "السنوات الست" التي تحدث عنها بيان الحكومة وكأنها مجرد محاولة مكشوفة للتنصل من مسؤولية التنازل عن أراض يعتقد على نطاق واسع أنها مصرية وتعاملت معها معاهدة السلام الموقعة مع إسرائيل عام 1979 باعتبارها كذلك, وللإيحاء بأن قرار بدء التفاوض حول ملكية الجزر يعود إلى عهد مبارك ولا علاقة للنظام الحالي به. ولأن الشعب المصري لم يصدق هذا الادعاء, فلم يكن أمامه من تبرير للسلوك الذي أقدمت عليه الحكومة المصرية سوى واحد من افتراضين لا ثالث لهما: الافتراض الأول: أن تكون حكومة المملكة العربية السعودية قامت بممارسة ضغوط كبيرة على الحكومة المصرية لاستعادة جزيرتين تعتبرهما جزء من التراب الوطني السعودي, مستغلة وضع الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر في المرحلة الراهنة, وأن تكون الحكومة المصرية قد استسلمت لهذه الضغوط. الافتراض الثاني: أن تكون حكومة مصر الحالية هي التي تطوعت من تلقاء نفسها بالتنازل عن الجزيرتين تعبيرا عن امتنانها لمساعدات قدمتها المملكة لتمكين مصر من تثبيت دعائم النظام الذي استقر عقب إزاحة جماعة الإخوان المسلمين من الحكم في 3 يوليو من عام 2013, وربما لتشجيع المملكة على تقديم المزيد من تلك المساعدات في المستقبل, وهو ما يوحي به خبر نشرته صحيفة نيويروك تايمز يوم 10/4 تحت عنوان: "مصر تهدي السعودية جزيرتين تعبيرا عن الامتنان". ومما زاد الطين بلة أن مواقع إخبارية نشرت عقب صدور البيان أن مصر ستحصل مقابل تنازلها عن الجزيرتين على 2 مليار دولار سنويا, إضافة إلى 25% من قيمة الغاز أو النفط المستخرج من هذه المنطقة. كان من اللافت للنظر مسارعة السفير أحمد قطان, سفير المملكة العربية السعودية, ليس فقط بنفي تهمة إقدام الحكومة السعودية على ممارسة ضغوط على مصر لحملها على التنازل عن الجزر وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. فقد نشر الموقع الالكتروني لصحيفة "شئون خليجية", يوم 11 إبريل, تصريحا منسوبا إليه يقول فيه بالحرف الواحد: "لا يجب على المصريين تحميل المملكة مسؤولية الأزمة التي حدثت بسبب جزيرتي “تيران وصنافير”, وأقول لكل المصريين أن مصر هي من عرضت علينا ذلك, ونحن لم يكن لدينا أي وثائق بشأن الجزيرتين ولكن الدولة المصرية هي من عرضت علينا وأعطتنا وثائق تؤكد أن الجزيرتين ملك للملكة العربية السعودية؛ واذا أردتم معرفة المزيد عن هذا الموضوع فسألوا حكومتكم"!!. ولأن الرأي العام المصري بات مقتنعا بتفريط الحكومة المصرية في حقوق سيادية, بصرف النظر عما إذا كان هذا التفريط قد جاء قهرا, بسبب ضغوط مورست عليها في مرحلة صعبة تمر فيها مصر بأزمة خانقة, أو جاء طوعا, بسبب حرصها على إظهار مشاعر الامتنان لما قدمته السعودية من مساعدات, وربما لإغرائها بتقديم المزيد منها, فقد كان من الطبيعي أن يأتي رد الفعل على سلوك الحكومة المصرية, أيا كانت دوافعه, غاضبا وصاخبا. تثير الأزمة المثارة حاليا بسبب جزيرة تيران وصنافير شكوكا وتساؤلات كثيرة, خصوصا وأنها تأتي في وقت تزايد فيه الأمل في وقف حالة التردي التي يمر بها العالم العربي, من خلال تحالف مصري سعودي قادر على تشكيل نواة لإعادة بناء النظام الإقليمي على اسس جديدة. ومن المؤكد أن هناك أطرافا محلية وإقليمية ودولية كثيرة لا تريد لهذا التحالف أن يتم وتسعى لقطع الطريق عليه. لذا يتعين على مصر والسعودية أن يعملا سويا لحماية هذا التحالف البازع بكل الوسائل المتاحة, وعدم ربطه مطلقا بقضية ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين, مع الحرص في الوقت نفسه على المضي قدما في تنفيذ برتوكولات التعاون التي أبرمت في مختلف المجالات. أما بالنسبة لاتفاقية ترسيم الحدود فيتعين على حكومتي البلدين أن يتعاملا معها بحكمة شديدة, وذلك باتباع الخطوات التالية: تتولى الحكومة المصرية عرض اتفاقية ترسيم الحدود على مجلس النواب وفقا لما يقضي به الدستور المصري. يتعين على مجلس النواب, قبل مناقشته لهذه الاتفاقية, أن يقوم بتشكيل لجان استماع من خبراء فنيين على أعلى مستوى, من كافة التخصصات ومن كافة الاتجاهات, كي يكون على بينة بالحقائق التاريخية والجغرافية والسياسية والاستراتيجية والأمنية ذات الصلة, عند التصويت عليها بالموافقة أو بالرفض. في حال موافقة مجلس النواب على الاتفاقية, يفضل أن تقوم الحكومة المصرية بطرحها بعد ذلك لاستفتاء شعبي, حتى ولو كانت تعتقد أنها ليست ملزمة دستوريا بمثل هذه الخطوة, وذلك لتحصينها من أي طعن بعدم الدستورية في المستقبل. إذا رفض مجلس النواب أن يصدق عليها ولم تقبل الحكومة السعودية, يتعين على الحكومة المصرية في هذه الحالة أن تدخل في مفاوضات مع الحكومة السعودية للاتفاق على حسم النزاع من خلال التحكيم او القضاء الدولي, مع التعهد مسبقا بقبول وتنفيذ قرار التحكيم أو القضاء. إرساء علاقات استراتيجية بين مصر والسعودية يجب أن يحظى بالأولوية القصوى على جدول أعمال الحكومتين والشعبين, في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ المنطقة, وألا يعوقه اي شيء, حتى ولو كان خلافا على ملكية أو على أمور تمس السيادة. فكل خلاف يمكن, بل ويتعين حله بالوسائل السلمية, خصوصا إذا ثار بين دولتين شقيقتين بحجم مصر والسعودية.