التدهور العام فى كل شئ يدعو كل غيور للإسهام فى التغيير والإنقاذ بحسب مؤهلاته وقدراته وإختصاصه ، وعلى مستوى دور الإسلام العظيم وحضوره فمن غير المعقول بل من المستحيل الظن وإعتبار الإسلام الحنيف عامل فرقة وتمزيق للأوطان والأمم ولم يكن يوماً ولن يكون مسبباً لحروب وفتن أهلية وطائفية ، إنما القضية تكمن فى خلل فى الفهم والتطبيق لدى البعض وتحريف من البعض الآخر عن قصد لمصالح دنيوية . الإسلام أمانة عظيمة جداً وضخامة المسئولية وثقلها لكون المولى تعالى أشرك الإنسان فيها ، والجزء البشرى بالفهم والتطبيق الصحيح – بإستخلاص مراد الله – يضع الإسلام موضعه السليم كعامل وحدة وتوحيد وسلام وإسعاد ورفاة للبشر والمجتمعات والأمم ، والعكس يحدث بوضعه فى غير موضعه وإقحامه فى صراعات ومسارات لا تتوافق معه ولا مع مراد الله جل وعلا ، والجانب الإلهى " الدين " أتمه الله وأكمله وأنزله على أكمل وجه ، والجانب البشرى " فهم شريعة الخالق والإجتهاد فى تطبيقها وفق مراد الله " هو ما يرفع البشر المكلفين فى نظر الله تعالى أو يحطهم بحسب الإجتهادات التى ترقى لمستوى المسئولية الضخمة أو العكس . قضية " التوحيد " – التى هى القضية الأكبر فى الإسلام – جزء كبير منها قيمى وسياسى بجانب الزاوية العقدية المعروفة ؛ فالجانب الحضارى من الإسلام يسعى لتوحيد البشر على التوافق والسلام والحرية والمساواة ، وجوهر الدين وروحه أنه يوحد ولا يفرق .. " توحيد " على مستوى العقيدة بعبادة إله واحد ، وعلى مستوى المجتمع بالإنضواء فى " الأمة الواحدة " المتناغمة المنسجمة المتعاونة المتكاملة ولو إختلف أعضاؤها فى التصورات العقدية . إذا عدنا إلى ردود وحيد الدين خان المنهجية على أبو الأعلى المودودى نجده قد مس عصب هذه القضية المصيرية الرئيسية بأسلوب مبسط وسهل الإستيعاب وبضرب نماذج وأمثلة تضع الجميع أمام وضوح كامل للرؤية لا حجة بعده لمن يتوارى خلف أطروحات ملتبسة وينتهج مسارات ملتوية لنشر وإشاعة رؤية مجتزأة تضر بالدين وتوظفه كعامل فرقة ، وقد أراده الله ووضع قيمه وتعاليمه العليا ليكون عامل توحيد بين البشر والأمم وداخل المجتمعات والأوطان . فى أدبيات الجماعات التى طورت منهج المودودى وطبقته – ولا تزال – كان القتال حالة دائمة تحكم علاقة صراع متواصل مع الآخر المحلى والإقليمى والدولى ، حتى إذا عرضنا لواقع العالم الإسلامى اليوم نكتشف أنه تحول لمنظمات وجماعات وكيانات تعلن الحرب وتخوض الصراع الدائم المتواصل مع مجتمعاتها ومع دولها ومع دول العالم الخارجى ، وأن هذا الصراع يحمل عناوين وشعارات دينية ويستشهد مشعلوه بنصوص قرآنية ، أما حقيقة الإسلام وجوهر القرآن المنزل من عند الله فبعيد تماماً عن هذا الخلل فى الفهم وعن هذا العبث وعن تلك السطحية فى التطبيق . جاء فى القرآن العظيم فى موضعين – مع إختلاف طفيف - : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " ، وتلك من ضمن أهم النصوص التى وظفها هؤلاء فى خوض تلك الصراعات التى أججت تلك الفرقة وأحدثت هذا التمزق على كل المستويات .. وكانت " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " و " وأعدوا " شعارين لأهم جماعتين واجها الدولة والأنظمة السياسية المصرية – وبعض العربية - طوال عقود . بالفعل كانت هناك فتنة أمر الإسلام بإنهائها ولو بالقتال ليتوحد العالم وتتوحد المجتمعات ، فإذا ما زالت تلك الفتنة توقف القتال " حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله " بمعنى أنه إذا ما تحقق هذا الهدف توقف القتال . كان ذلك واضحاً من كلام عبدالله بن عمر حيث روى عن نافع بن عمر قال " أتاه رجلان فى فتنة إبن الزبير فقالا : إن الناس ضيعوا وأنت إبن عمر وصاحب النبى صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ فقال يمنعنى أن الله حرم دم أخى ، قالا : ألم يقل الله " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ؟ فقال عبدالله إبن عمر رضى الله عنهما : " قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة وحتى يكون الدين لغير الله " ! الإمبراطوريات فى الزمن القديم كانت تتمتع بحرية مطلقة حيث كان الإمبراطور فى منزلة الإله من حقه أن يفعل ما يشاء ، وتحت هذا القهر السلطوى كان تبليغ الدين وحرية الإعتقاد أمراً مستحيلاً وعسيراً ، لأن التوحيد يعنى الإعلان عن المبادئ الإنسانية الخالدة والتى من بينها أن الكبرياء لله وحده وأن الناس سواسية وليس لأحد الحق فى التسلط على الآخرين بإستخدام سلطة أو جاه أو منصب ، وليس لأحد الحق فى منع نشر إعتقاد بعينه أو فرض عقيدة بعينها دون غيرها ، فلزم النضال الحربى المؤقت لإنهاء هذه الفتنة حتى يكون أمر الدين خالصاً لله وحده ؛ فليعتقد البشر ما شاءوا وليختر الواحد منهم ما شاء من فكر وإيمان ، والذى يحكم فى هذا الأمر ويحاسب ويعاقب ويفصل فيه هو الله وحده وليس أحد من البشر مهما كان سلطانه ، وهذا معنى قوله تعالى " ويكون الدين لله " ، وقد حرفت الجماعات هذا المفهوم لتصرف القتال لتحقيق أهداف محدودة وليصبح الصراع الدموى التخريبى حالة دائمة داعمة للتمزق والفرقة الشاملة بتوظيف مزور للدين . قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لإنهاء فتنة القهر السياسى وإنهاء تسلط الطغاة وحرمانهم الناس من إعتقاد ما يشاءون بكامل إرادتهم وحريتهم وتحقق ذلك بمدد من الله ، " فلم تعد دعوة التوحيد ولا إعلان الحرية يلقيان أية عقبات فى طريقها كتلك التى كانت سائدة قديماً " – بحسب وصف وحيد الدين خان – ثم جاء من يناهض مقصود الدين ومراد الخالق ويصنع فتن الفرقة والتمزق بإستخدام مزيف لنفس الآيات التى أراد الله من البشر فهمها فى إتجاهات ومسارات أخرى ، وظهروا فى الجيل الأول لكنهم توحشوا وطغوا وتزايدوا وعلا صوتهم وطغى على صوت الحقيقة فى جيلنا الحالى ، مما تطلب من إبن عمر تلك الحدة والحزم فى الرد " قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة وحتى يكون الدين لغير الله " .. فتنة الفرقة وتمزق المجتمعات ، وليس دين الله ولا النصوص المنزلة من عنده هى التى تأمر بذلك . منهج الأستاذين أبو الأعلى المودودى وسيد قطب والجماعات التى تابعتهما فى مصر والعالم العربى والإسلامى تصرف " الفتنة " إلى الحكام المسلمين بقصد الخروج عليهم وقتالهم والصدام مع الأنظمة السياسية والصراع على الحكم والسلطة ، وهو ما " سيدفعنا إلى مقاومة هؤلاء الحكام والإطاحة بهم بكل قسوة كما أن سيفتح الباب على مصراعيه أمام الفتنة الجديدة وسينتج عن ذلك أن الحكام سوف يعدون الدعوة الإسلامية جبهة سياسية معارضة وبالتالى يلزم قمعها وإخمادها بهدف البقاء فى السلطة وهكذا تعود الفتنة من جديد " ، وخان هنا يعدهم صانعى فتنة ويسند إليهم " جريمة " الإضرار بالدعوة والدين ، حتى وإن كان تصرفهم ناتجاً عن اللاوعى واللاشعور بالحقائق وبجوهر الدين وروحه ومقاصده ، فالتصدى لمهمة بهذه الخطورة وتلك القداسة يتطلب وعياً تاماً بالطريق وطبيعة المهمة وحقائق وجوهر وأبعاد مقاصدها وأهدافها ووسائلها للوقوف فعلياً على مراد الله والإسهام فى تحقيقه .. يقول نصاً " واقع المسلمين المعاصرين أنهم نتيجة فقدانهم الشعور الدعوى قد إنصرفوا إلى صراعات سياسية ومادية مع الأمم المدعوة ، وهذا النوع من الصراعات مهما تراءى للمسلمين بأنه ذو فوائد بمثابة السم فى الدسم ، وبذا يصبح اللاشعور الدعوى الذى يتمتع به المسلمون جريمة عظيمة لذا فالمسلمون ملزمون بإنهاء كافة أنواع النزاع مع الأمم المدعوة وإلا تورطوا فى مخالفة قانون الله " . من المفيد جداً تأمل هذا المثل الموحى الذى ضربه خان لتبسيط القضية ولتسهيل إستيعاب تلك الإشكالية المهمة ، يقول " إن ملكاً أرسل بعثة إلى منطقة منكوبة أصابها القحط وقد زودهم بالمال وكافة الحاجات الضرورية ليقوموا بتوزيعها فى تلك المنطقة المنكوبة ، ولما وصلت البعثة إلى المنطقة خاضوا صراعاً مع سكانها مما أسفر عن تشبثهم بكل ما زودهم به الملك ! لقد أعلنوا شكواهم وإحتجاهم بهذه العبارات أنهم لم يحسنوا إستقبالنا ولم يقدموا لنا بيتاً نسكن فيه وأن أطفال القرية أساءوا معاملتنا وغير ذلك من عبارات الشكوى والإحتجاج . وحين علم الملك بالأمر إشتد غضبه وسخطه على أعضاء بعثة الإنقاذ وأصدر حكماً بإلقاء القبض عليهم وسجنهم ، وقال لهم إنى قد أرسلتهم إلى المنطقة المنكوبة ليقوموا بعملية الإنقاذ وليس لخوض حرب وصراع ضدهم ، وعلى أى أساس تطالبونهم بأن يعاملوكم معاملة فائقة ؟ ونفترض أنهم أساءوا معاملتكم رغم ذلك فإنكم ملزمون بأن تقدموا لهم كل ما زودتكم به بكل صدق وأمانة ثم ترجعوا بكل هدوء وطمأنينة لتحصلوا على مكانة لائقة من قبلى وليس من قبلهم ، ولو قمتم بأداء مهمتكم رغم إساءتهم لكم لثمنت جهودكم وكافأتكم أضعافاً مضاعفة لكنكم حين تورطتم فى المطالبة بحقوقكم وبدأتم تفكرون فيها فلن أقدم لكم شيئاً سوى السجن ! إن هذا المثال ينطبق تماماً على المسلمين المعاصرين إذ أن الله تعالى قد أعطاهم الكتاب والهداية وكلفهم بأن يبلغوا الآخرين بذلك ويقوموا بإيصال رسالة الله إلى عباده إلا أن المسلمين على نقيض ذلك خاضوا أنوعاً من الشكاوى والإحتجاجات ضد الأمم المدعوة وأشعلوا نيران الحرب الضارية معهم مما أسفر عن بقاء رسالة الله تعالى محفوظة داخل بيوت المسلمين بدل أن يقوموا بتبليغها إلى الأمم الأخرى وبدأ التناحر والتخاصم بينهم فى صورة إحتجاج شفوى حيناً وفى صورة قتال حيناً آخر . إن المسلمين بعملهم هذا يستحقون عقاباً جزاء ما يعملون كما هى الحال بالنسبة للبعثة التى أرسلها الملك لإنقاذ المنطقة المنكوبة ، مع الفارق حيث إن مهمة المسلمين غاية فى الخطورة فهى بمثابة إنقاذ الناس من العذاب الأبدى الذى لا نهاية له " . هناك عدة نقاط رئيسية فى هذا الملف الحيوى تتلخص فى الآتى : أولاً : هل قام المسلمون المعاصرون بما يجب عليهم وفق المسئولية الملقاة على عاتقهم بتجلية وعرض وتنفيذ الجانب البشرى الموكول بهم لتحقيق مراد الله فى الكون والحياة بأمانة ومصداقية وتجرد وإخلاص كامل يليق بمستوى تلك المسئولية الكونية التى شرفهم المولى بأن يكونوا طرفاً فيها ؟ ثانياً : هل يدرك المسلمون المعاصرون – خاصة الكيانات التى تتصدى لحمل مسئولية الحديث بإسم الدين وتمثيل الشريعة - أن " الدعوة إلى الله هى بمثابة التمثيل عن الله بين عباده وهى أمر يتناوله الداعية بإعتباره مسئوليته الوحيدة دون أن يطمح إلى أية حقوق " ؟ و أن " الداعية يعطى ثم يأخذ أجره من الله وحين يؤذيه الناس يصبر ويثابر من أجل الله وهو يتلقى الحرمان من قبل الناس إلا أنه يبقى جاداً فى مهمته المقدسة دون أن يعتريه أى وهن " ؟ .. وأن الأمر ليس " سبوبة " للتحصل على حقوق أو منصب أو مال أو سلطة أو مكانة .. الخ ؟ ثالثاً : هل وعى المسلمون المعاصرون – خاصة الكيانات التى تتصدى لحمل مسئولية الحديث بإسم الدين وتمثيل الشريعة – أن توظيف الدين فى السياسة – والتى من طبيعتها جوهراً وروحاً أنها تفرق لكونها تقوم حيث يوجد الخلاف ، وهى أقرب إلى إدارة الإختلاف – إنما يهدف بحسب طابع الدين وجوهره ومقصده التوحيدى إلى أن يؤدى الدين دوراً فى مسار الوحدة والشراكة والتكامل والحيلولة دون أن يؤدى الخلاف السياسى والتنوع فى الآراء الدنيوية إلى حرب أهلية أو طائفية أو إلى صراع حربى تخريبى دائم ؟ .. وليس العكس كما يعتقد البعض زوراً حيث يحملون الرواية والتفسير الذى يقدم الدين للعالم والفرقاء والناس والمجتمعات تنظيراً وتطبيقاً كأداة فرقة وتمزيق للأمم والأوطان ؟ رابعاً : هل وعى المسلمون المعاصرون حقيقة مهمتهم وواجبهم وطبيعة دورهم بناءاً على علم عميق بالدين وإجتهاد دقيق فى الشرع وإستيعاب كامل للواقع ومتغيرات العصر ومتطلباته وتحدياته ، وهى قضية مصيرية كبرى من العبث إسنادها لكل من إدعى أنه من أصحاب الشأن ولكل من ترأس مجموعة ترفع شعارات الدين وتتحدث بإسمه ؟ خامساً : هل تواضع المسلمون المعاصرون على خطة منهجية مدروسة وشاملة من خلال أئمتهم ومفكريهم وخبرائهم الموثوق بهم ديناً وفكراً ودراية ووعياً وورعاً وتجرداً ترقى بهم للقيام بدورهم ومسئولياتهم بما ينسجم مع مراد الله الأعلى ، ليظل دين الله لدى الجميع فى مكانته التى أرادها سبحانه له ، وحتى لا يجلب التفسير المجتزأ السطحى والخلل فى الفهم والتطبيق سخط وغضب الله علينا ؟ إذا لم يحدث ، وظللنا بهذا الأداء وهذا المستوى مع قضايا بهذه القدسية والهول .. فنحن من الذين " إتخذوا دينهم لعباً ولهواً " !
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.