وقع التصور البشرى لمفهوم الحاكمية بين تصورين متناقضين تماما نتج عنه صورا متباينة من التطبيق الواقعى للمفهوم المظلوم تماما من الجانبين الأول تمثل فى إزاحة الإطار البشرى الزمنى للمفهوم ومحاولة إجلاس النص ( كنص) على كرسى الحكم وجحد أى إجتهاد بشرى وظهر ذلك جليا فى دعوى الخوارج الأولى ( إن الحكم إلا لله) ورفض تحكيم الرجال ...وتصور آخر رفض تماما الإطار الإلهى التشريعى المهيمن على الإجتهاد والتطبيق البشرى للحكم والزج بمفاهيم غريبة على العقلية الإسلامية تمثل ذلك فى مفهوم ( السيادة) المهيمن على الفكر السياسى الغربى والذى يرفض أى وصاية كانت من قبل السماء على ممارسات السلطة البشرية والدعوى المهيمنة على الصياغات الدستورية ( الأمة مصدر السلطات) لاحظ إطلاق لفظ ( مصدر ) المجرد من ( ال) التعريف ونستعرض معا التصور الأول الذى بدأ مع الخوارج الذين رفضوا تحكيم الرجال ومايروية لنا الثقات فى ذلك لما خرجوا على الإمام على فى قبوله التحكيم وإرساله رضى لله عنه لابن عباس لمحاورتهم ( قال: قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وختنِه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله معه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثاً. قال: وما هنّ؟ قالوا: أولهن أنه حكّم الرجال في دين الله، وقد قال الله: ((إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ))، فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل. قال: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما لا تنكرون [ ينقض قولكم ] أترجعون؟ قالوا: نعم. قال: قلت أما قولكم: حكّم الرجال في دين الله، فإن الله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ))، إلى قوله: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ)). وقال في المرأة وزوجها: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا)). أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وإصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم، وفي بضع امرأة. وأن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال.) أراد الخوارج نفى السلطة البشرية والزمنية من الحكم تماما فى حين أن القرآن الكريم حكم الرجال فكان ردا مفحما من ابن عباس ألجمهم وبعد أن رد عليهم فى هذه القضية وقضيتين أخرييين هل تراهم رجعوا عن تصورهم رجع مع ابن عباس البعض وأصر البعض على معتقده لينفث هذا البعض الأخير فتنته عبر كل العصور . نطوى صفحة الخوارج لنطير سريعا إلى العصر الحديث ونرى مفهوم الحاكمية ( والتى تحدثنا عنها كمفهوم أصولى وسياسى فى المقال الأول ) وكيف أن أول من نحته كان أبو الأعلى المودودى فى ظرف تاريخى وسياسى قرن بين مفهوم الحاكمية ومفهوم جاهلية المجتمع الذى كان متسقا من وجهة النظر الإسلامية مع ظروف المجتمع الهندوسى الوثنى وأن لا حكم لرجال وثنين على أغلبية المجتمع المسلم يؤكد ذلك بقوله:( إن السيادة أو الحاكمية هي لله وحده بيده التشريع،وليس لأحد-وإن كان نبيا- أن يأمر وينهي دون أن يكون له سلطان من الله)ويقول ايضا:( إن التوحيد ينفي فكرة حاكمية البشر، ويريد القضاء عليها قضاء مبرما ،سواء أكانت هذه الحاكمية لفرد من الأفراد ،أو طبقة من الطبقات ،أو بيت من البيوت،أو أمة من الأمم ،أو لجميع من على ظهر الأرض من أبناء البشر .. الحاكمية لا يستحقها إلا الله وحده عز وجل ،فلا حاكم إلا الله ولا حكم إلا حكمه،ولا قانون إلا قانونه ) وكان ذلك بالطبع قبل إنفصال الهند عن الباكستان ولما أنفصلت الباكستان فى كيان سياسى مستقل توارى مفهوم جاهلية المجتمع تماما بل ورأينا أن المودودى يتحالف مع حزب الرابطة بقيادة(علي جناح) مؤسس دولة باكستان الحديثة،اسماعيلي العقيدة،علماني الفكر والتصور،ثم تحالف مع أخته(فاطمة جناح)في الكتلة البرلمانية المعارضة،ثم توالت تحالفات الجماعة الإسلامية إلى عهد نواز شريف وهلم جرا.وهكذا تكّون وتجلى مفهوم الحاكمية عند المودودي في جانبيه النظري والتطبيقي حيث اسهمت الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية الحرجة التي مرت بها دولة الباكستان في مرحلة تأسيسها في بلورة مفهوم الحاكمية وتطوره من مفهوم سكوني إلى مفهوم حركي بممارسات عملية تجلت فيها مقاصده من مفهوم الحاكمية وأنها فى النهاية ممارسات بشرية إجتهادية واقعية ولكنها مؤطرة بإطار شرعى إلهى .. ونقفز من القارة الهندية إلى أرض الكنانة مصر وبالتحديد فى منتصف خمسينيات القرن الراحل وقت تأجج الصراع بين الحركة الإسلامية ( الإخوان المسلمين) ورجال الثورة الناصرية ،وتوسعت دائرة الاعتقالات في التعامل مع قيادات الفكر والاجتهاد الحركي من قبل رجالات النظام الناصري،فكانت تلك الفترة هي بداية عملية التنظير لمفهوم الحاكمية، فقام سيد قطب بما أوتى من صفاء ذهني وبيان قلمي ينظر في مفهوم الحاكمية من خلال تجربة المودودي في شبه القارة الهندية وإرتباطها بمفهوم جاهلية المجتمع الملازمة للمودودى فى الفترة الهندوكية الوثنية من داخل السجن الحربي فوجده مصطلحا مفاهيميا تتولد منه مقومات وأبعاد شتى مما يعني إمكانية استعماله واستخدامه لإدارة الصراع بين الحركة وخصومها ،وتثوير المجتمع وتجييشه خلف شعارات الحركة لحسم الصراع لصالح الطرح الإسلامي ضد الطرح الناصري القومي. وبالفعل تمكن قطب من تطوير مفهوم الحاكمية حتى صار منهجا عقيدياً،وشعاراً سياسياً،وخياراً انقلابياً،ضد الأنظمة العربية،ومشاريع الدولة الوطنية، والفكر الناصري،وفي هذه الأجواء استطاع قطب أن يصبغ مفهوم الحاكمية بجميع معانيه ومقوماته بصبغة عقدية جعلته مترادفا لكلمة التوحيد وأصل الإيمان ،فالتسليم بكل معانى الحاكمية إيمان وعدم قبولها كفر وجاهلية.وهو بهذه الرؤية للمفهوم تمكن من جعل الجزء مرادفا للكل حتى أصبح مفهوم الحاكمية بمقوماته المتعددة ؛العقدية والقانونية والسياسية والفقهية دال على معنى واحد ،هو الحاكمية العليا ،والسلطان المطلق ،فقال رحمه الله :(إن طبيعة الدين هي التي قضت بهذا،فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة،وكل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الاصل الكبير ).،ويقول في موضع آخر:( فالإسلام منهج للحياة البشرية،وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية متمثلة في الحاكمية). الخلل الواضح عند سيد قطب هو إستنساخ فكرة المجتمع الجاهلى وضرورة الإنعزال الشعورى عنه وإن كان ذلك مفهوما عند المودودى فى الفترة الهندوكية فهو مستغرب جدا فى نقله إلى مجتمع مسلم هل كان للإضطهاد الشديد وظروف السجن والتعذيب الغير آدمى دورا فى هذا الشطط ؟ فيعتبر العالم اليوم بما فيه العالم الإسلامي يعيش جاهلية مدمرة شبيهة بتلك التي كانت قبل الإسلام، إلا أن قطب أعطى لطروحات المودودي بعداً حركياً وذهب بها إلى المدى الأقصى، فحكم بكفر الأمة وليس المجتمع وحده والدولة فقط، بدون تردد شاملاً الحاضر وأربعة عشر قرناً من الماضي، ولم يستثنَ إلا الخلافة الراشدة في عهديها الأولين، إذ قال: " ليس على وجه الأرض مجتمع قرر فعلاً تمكين شريعة الله وحدها ورفض كل شريعة سواها فالأمة الإسلامية "انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق الأرض ويقول: "إن الناس ليسوا مسلمين كما يدعون. وهم يحيون الحياة الجاهلية.. هذا ليس إسلاماً وليس هؤلاء مسلمين. والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام ولتجعل منهم مسلمين من جديدوهو يعتبر أن "إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها... إن الحكم الذي مرد الأمر فيه للبشر يجعل بعضهم أرباباً من دون الله" ويخلص إلى أنه لا بد من تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض... ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم... ولكنها تقوم بانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد، ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وإلغاء القوانين البشرية" يتلقف الفكرة سريعاً شكرى مصطفى ومجموعته التكفيرية فى نكوص مذهل لفكرة الخوارج فى صورتها الأولى الساذاجة فى إحداث أكبر فتنة فى العصر الحديث اكتوى المجتمع بها. Comment *