الحق أن فكرة الحاكمية أساء فَهمها الكثيرون. وأدخلوا في مفهومها ما لم يرده أصحابها. وأود أن أنبه هنا علي جملة ملاحظات حول هذه القضية 1- الملاحظة الأولي: أن أكثر من كتبوا عن "الحاكمية" التي نادي بها المودودي وأخذها عنه سيد قطب. ردوا أصل هذه الفكرة إلي "الخوارج" الذين اعترضوا علي علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قبوله فكرة التحكيم من أساسها. وقالوا كلمتهم الشهيرة: "لا حكم إلا لله". ورد عليهم الإمام بكلمته التاريخية البليغة الحكيمة حين قال: كلمة حق يُراد بها باطل! نعم. لا حكم إلا لله. ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلي لله! ولا بد للناس من أمير بر أو فاجر وهذا المعني الساذج للحكم أو الحاكمية أصبح في ذمة التاريخ. ولم يعد أحد يقول به. حتي الخوارج أنفسهم وما تفرع عنهم من الفرق. فهم طلبوا الإمارة وقاتلوا في سبيلها. وأقاموها بالفعل. في بعض المناطق. فترات من الزمان. أما الحاكمية بالمعني التشريعي. ومفهومها: أن الله سبحانه هو المُشرَّع لخَلقه. وهو الذي يأمرهم وينهاهم. ويحل لهم ويحرم عليهم. فهذا ليس من ابتكار المودودي ولا سيد قطب. بل هو أمر مقرَّر عند المسلمين جميعا. ولهذا لم يعترض علي رضي الله عنه علي المبدأ. وإنما اعترض علي الباعث والهدف المقصود من وراء الكلمة. وهذا معني قوله: ¢كلمة حق يُراد بها باطل¢. وقد بحث في هذه القضية علماء "أصول الفقه" في مقدماتهم الأصولية التي بحثوا فيها عن الحكم الشرعي. والحاكم. والمحكوم به. والمحكوم عليه. فها نحن نجد إماما أصوليا مثل حجة الإسلام أبي حامد الغزالي. يقول في مقدمات كتابه الشهير "المستصفي من علم الأصول" عن "الحكم" الذي هو أول مباحث العلم. وهو عبارة عن خطاب الشرع. ولا حكم قبل ورود الشرع. وله تعلُّق بالحاكم. وهو الشارع. وبالمحكوم عليه. وهو المكلف. وبالمحكوم فيه. وهو فعل المكلف... ثم يقول: "وفي البحث عن الحاكم يتبين أن "لا حكم إلا لله" وأن لا حكم للرسول. ولا للسيد علي العبد. ولا لمخلوق علي مخلوق. بل كل ذلك حكم الله تعالي ووضعه لا حكم لغيره" ثم يعود إلي الحديث عن "الحاكم" وهو صاحب الخطاب الموجه إلي المكلَّفين. فيقول: "أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخَلق والأمر. فإنما النافذ حكم المالك علي مملوكه. ولا مالك إلا الخالق. فلا حكم ولا أمر إلا له. أما النبي صلي الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج. فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم. بل بإيجاب من الله تعالي طاعتهم. ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب علي غيره شيئا. كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب. إذ ليس أحدهما أولي من الآخر. فإذن الواجب طاعة الله تعالي. وطاعة من أوجب الله تعالي طاعته" 2- الملاحظة الثانية: أن "الحاكمية" التي قال بها المودودي وقطب. وجعلاها لله وحده. لا تعني أن الله تعالي هو الذي يولي العلماء والأمراء. يحكمون باسمه. بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب. أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلي الأمة. هي التي تختار حكامها. وهي التي تحاسبهم. وتراقبهم. بل تعزلهم. والتفريق بين الأمرين مهم والخلط بينهما موهم ومضلل. كما أشار إلي ذلك الدكتور أحمد كمال أبو المجد. بحق"14". فليس معني الحاكمية الدعوة إلي دولة ثيوقراطية. بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما الله. أما سيد قطب. فقال في "معالمه": "ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولي الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجال الدِّين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة. ولا رجال ينطقون باسم الآلهة. كما كان الحال فيما يعرف باسم "الثيوقراطية" أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة. وأن يكون مردُّ الأمر إلي الله وفق ما قرَّره من شريعة مبينة" وأما المودودي. فقد أخذ بعض الناس جزءا من كلامه وفهموه علي غير ما يريد. ورتبوا عليه أحكاما ونتائج لم يقل بها. ولا تتفق مع سائر أفكاره ومفاهيم دعوته. التي فصَّلها في عشرات الكتب والرسائل والمقالات والمحاضرات. وهذا ما يحدث مع كلام الله تعالي وكلام رسوله. إذا أخذ جزء منه معزولا عن سياقه وسباقه. وعن غيره مما يكمله أو يبينه أو يقيده. فكيف بكلام غيرهما من البشر؟ فقد ذكر المودودي خصائص الديمقراطية الغربية ثم قال: "وأنت تري أنها ليست من الإسلام في شيء. فلا يصح إطلاق كلمة "الديمقراطية" علي نظام الدولة الإسلامية. بل أصدق منها تعبيرا كلمة "الحكومة الإلهية أو الثيوقراطية"". ثم استدرك فقال: "ولكن الثيوقراطية الأوروبية تختلف عنها الحكومة الإلهية "الثيوقراطية الإسلامية" اختلافا كليا. فإن أوروبا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة مخصوصة يشرعون للناس قانونا من عند أنفسهم حسب ما شاءت أهوائهم وأغراضهم. ويسلطون ألوهيتهم علي عامة أهل البلاد متسترين وراء القانون الإلهي. فما أجدر مثل هذه الحكومة أن تسمي بالحكومة الشيطانية منها بالحكومة الإلهية! وللحديث بقية العدد القادم