رفع الجلسة العامة للشيوخ.. ومعاودة الانعقاد غدا    "البحوث الإسلامية" يطلق حملة "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا" بمناسبة عيد العمال    الانقلاب يقترض 980 مليون دولار من البنوك المحلية عبر أذون الخزانة    وزير المالية: نشجع ونسعى لاستحواذ القطاع الخاص على 70% من اقتصاد مصر    وزير التجارة: نسعى لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنويا    "العمل": إعداد دراسات ترصد احتياجات السوق العربي    إيران: وفد كوري شمالي يزور طهران لحضور معرض تجاري    اتحاد الكرة ليلا كورة: فيتوريا يرفض استلام قيمة الشرط الجزائي في عقده.. ونفاوض محاميه    ذا أثلتيك: صلاح سيبقى في ليفربول.. ولم يُظهر رغبته بالرحيل    الأبناء قتلوا أبوهم وأبلغوا الشرطة.. ماذا جرى في قضية أرض الذرة بأسيوط؟    باركود وتعليمات جديدة.. أسيوط تستعد لامتحانات نهاية العام    لاستكمال المرافعة.. تأجيل محاكمة 35 متهمًا في حادث قطار طوخ    وزيرة الثقافة تلتقي نظيرها الإماراتي قبل افتتاح معرِض أبو ظبي الدُولي للكتاب    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    المخرج خالد جلال يشهد عرض مسرحية "السمسمية" بالمنيل (صور)    تحت شعار "غذاء صحي وآمن لكل مواطن".. "الصحة" تفتتح المؤتمر السنوي الثالث للمعهد القومي للتغذية    مقترح برلماني بدعم كليات الذكاء الاصطناعي بالجامعات الحكومية    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    صعود سيدات وادي دجلة لكرة السلة للدوري الممتاز «أ»    عضو مجلس الزمالك يعلق على إخفاق ألعاب الصالات    عاجل.. شوبير يكشف آخر خطوة في تجديد علي معلول مع الأهلي    رفع درجة الاستعداد لمشاركة الإخوة المسيحيين احتفالاتهم بعيد القيامة بالشرقية    «أبوظبي الأول مصر» يتعاون مع «الأورمان» لتطوير وتنمية قرية الفالوجا بالبحيرة    البنك المركزي يبيع أذون خزانة ب 997.6 مليون دولار بمتوسط عائد 5.149%    حكم رادع ضد المتهم بتزوير المستندات الرسمية في الشرابية    المشدد 5 سنوات والعزل من الوظيفة لرئيس حي السلام ومهندس بتهمة تلقي «رشوة»    «تشريعية النواب» توافق على رفع الاختصاص القيمي للمحاكم الابتدائية    وزيرة التضامن تستعرض تقريرًا عن أنشطة «ال30 وحدة» بالجامعات الحكومية والخاصة (تفاصيل)    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    تجليات الفرح والتراث: مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم 2024 في مصر    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    «للمناسبات والاحتفالات».. طريقة عمل كيكة الكوكيز بالشوكولاتة (فيديو)    عامر حسين: الكأس سيقام بنظامه المعتاد.. ولم يتم قبول فكرة "القرعة الموجهة"    «القومي لثقافة الطفل» يقيم حفل توزيع جوائز مسابقة رواية اليافعين    تراجع نسبي في شباك التذاكر.. 1.4 مليون جنيه إجمالي إيرادات 5 أفلام في 24 ساعة    التضامن : سينما ل ذوي الإعاقة البصرية بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    بث مباشر.. مؤتمر صحفي ل السيسي ورئيس مجلس رئاسة البوسنة والهِرسِك    إزالة 22 حالة تعديات على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالشرقية    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    "سنوضح للرأي العام".. رئيس الزمالك يخرج عن صمته بعد الصعود لنهائي الكونفدرالية    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    515 دار نشر تشارك في معرض الدوحة الدولى للكتاب 33    «العمل» تنظم فعاليات سلامتك تهمنا بمنشآت الجيزة    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    محمد شحاتة: التأهل لنهائي الكونفدرالية فرحة كانت تنتظرها جماهير الزمالك    بالاسماء ..مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    وكيل مجلس الشيوخ: الجمهورية الجديدة تضع التعليم في صدارة أولوياتها    مؤسسة أبو العينين الخيرية و«خريجي الأزهر» يكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين.. صور    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    ضحايا بأعاصير وسط أمريكا وانقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    خلي بالك.. جمال شعبان يحذر أصحاب الأمراض المزمنة من تناول الفسيخ    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    البحوث الفلكية: غرة شهر ذي القعدة فلكيًا الخميس 9 مايو    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 29-4-2024 بالصاغة بعد الانخفاض    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسام سويلم يكشف
أسرار وثيقة المدينة وخطة التمكين الدولة المزعومة لا تؤمن بالوطنية ولا القومية.. والانتماء عندها للعقيدة فقط وليس الأرض
نشر في الوفد يوم 22 - 01 - 2015

- ‫وكما ذكرنا في الحلقة السابقة أن كل تنظيم متطرف يبرز على الساحات الإسلامية، يفوق كل ما سبقه من تنظيمات في التطرف والعنف والإرهاب، فقد بلغ تنظيم داعش الذي يشعل الفتنة الدينية في كل جنبات العالم الإسلامى اليوم،
أقصى ما وصلت إليه الفتنة من إرهاب ووحشية بما يرتكبه من مذابح دموية وأعمال تخريب وتدمير في كل البلاد العربية التي يجتاحها، بل ويحرص على تسويق هذه الجرائم البشعة إعلاميًا ودعائيًا على نطاق واسع مسبقًا في البلاد التي يستهدف اجتياحها لترويع وترهيب أهلها ودفعهم إلى الفرار منها، بل وتخويف وردع قياداتها وجيوشها وشرطتها لدفعهم إلى ترك أسلحتهم والهروب من مواقعهم، وبما يتيح لقوات داعش اجتياح هذه البلاد بسهولة ويسر كما حدث في مدن العراق وسوريا، وفرض أيديولوجيته المنحرفة على أهلها، وإجبارهم على مبايعة زعيمهم خليفة على المسلمين، بزعم أنه يحكمهم بالتفويض الإلهى، ومن خلال هذا الزعم الباطل يرتكبون ما يشاءون من جرائم في حق المسلمين وعلى نحو فاق جرائم كل من سبقهم من فرق مارست الإرهاب باسم الدين في جميع العصور السابقة، ومنذ فتنة الخوارج في عصر سيدنا عثمان رضى الله عنه‬.
‎- ‫وقد اختلفت الآراء حول حقيقة تنظيم داعش، فبينما يبالغ البعض في وصفها ب«الأسطورة» بالنظر لسرعة انتشارها وسيطرتها في زمن محدود على مساحات واسعة من سوريا والعراق، وبما تمارسه من أعمال وحشية ضد كل من يقف في طريقها، حتى شبهها البعض بهجمات الهكسوس والتتار، بل وأخطر مافيا دموية عرفتها البشرية بسبب ما ترتكبه من مذابح جماعية بالآلاف، في ظل تفشى روح الخيبة والإحباط وسط الشعوب التي تجتاحها داعش، نجد البعض الآخر يرفض ذلك، بل يرفض مجرد وصف داعش بالتنظيم الإرهابى، بل يصفها بأنها ثورة شعبية لجماهير السُّنة في العراق ضد نظام الحكم الشيعى في العراق الموالى لإيران، ونظام الحكم العلوى لبشار الأسد في سوريا ضد جماهير السُّنة.. هذا في حين يقلل فريق ثالث من قيمة وأهمية ما تقوم به داعش وتحققه على الأرض من اكتساحات في محافظة الأنبار بالعراق وشمال سوريا، وأن كل ذلك أشبه (بالطبل الأجوف) بلا صدى ولا ثمار بالنظر لعدم قدرة هذا التنظيم على تحدى كل جيوش المنطقة وحكوماتها، لاسيما بعد أن تشكل تحالف دولي ضده، وصعوبة تمسكه بكل الأراضى التي انتشر التنظيم فيها في ظل بروز ثورة شعوبها ضد داعش، فضلًا عن الخلافات والتصدعات التي أصابت داعش من داخلها‬.
‎ ‫ومن جانبنا نقول إن داعش ليس سوى تنظيم إرهابى يتاجر بالدين ويستغل جهل معظم المسلمين بأمور دينهم، ليروج بينهم أفكارًا هدامة باسم الدين (مثل تكفير المجتمعات ومقاتلتها لقيام دولة الخلافة)، وما هي من الدين. وشأن داعش في ذلك شأن من سبقها من فرق الخوارج التي ظهرت في العالم الإسلامى قديما وحديثا ونبأنا عنهم سيدنا رسول الله في الكثير من الأحاديث وحذرنا منهم، ومن ثم فإنه بدحض هذه الأفكار الهدامة وإظهار بطلانها وتعارضها مع أساسيات الإسلام، سينهار هذا التنظيم من أساسه عملا بقوله تعالى: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق»، هذا مع التأكيد أن داعش رغم ظاهر قوته تهديد عابر سريعًا ما سينهار إن شاء الله، ويجب ألا تشغلنا عن تهديدات استراتيجية أخطر قادمة من دول في الدائرتين الإقليمية والدولية تتربص بنا الدوائر، ربما أخطرها في المنظور الحالى والمستقبل القريب، إسرائيل وإيران وأمريكا‬.
‫نشأة وتطور داعش‬:
‎- ‫ومن يتابع نشوء وتطور تنظيم داعش وأفكاره التي يدعو إليها، يجد أن أغلب قادة التنظيم هم من العرب، بينما معظم العناصر التي تقاتل في صفوفه هم من المقاتلين الأجانب من أمريكا وأوروبا وأستراليا والشيشان والألبان وكوسوفو، بينهم ألفا مقاتل من أصل مغربى يتحدثون الفرنسية قدموا من فرنسا وبلجيكا، وهناك خمسة من قادتهم يتولون المناصب القيادية. يتضح من ذلك ضحالة وسطحية إدراكهم حتى للمفاهيم الأساسية في الإسلام الواردة في القرآن والسنة لعدم معرفتهم باللغة العربية، وبالتالى سرعة تأثرهم واستجابتهم لأى مفاهيم باطلة ومضللة تطرح عليهم باسم الإسلام من زعماء الفكر التكفيرى، ويعتبرونها من صحيح الإسلام بينما هي أبعد ما تكون عنه؛ ولأن اللغة الفرنسية صارت هي أكثر لغة يتحدث بها مقاتلو داعش بحكم غلبة العنصر المغربى والأوروبي، ودخول قوميات فرعية صغيرة قادمة من أوروبا، فإن ذلك يعنى واقعًا إرهابيًا جديدًا أقرب إلى التحالف الأعمى من خلال الاعتماد على نشر الفكر التكفيرى والجهادى في جذب الأتباع، إلى جانب صدى أعمال العنف والإرهاب التي تجذب الشباب المتحمس للعنف كسبيل لتعويض اعتراضه على المجتمعات التي يعيش فيها ولا تلبى طموحاته، ورفضه للأنظمة التي تحكمها والرغبة في الثورة عليها‬.
‎- ‫يعتبر داعش بمثابة الولادة الثالثة لتنظيم القاعدة (الأولى في أفغانستان على أيدى أسامة بن لادن وأيمن الظواهرى، والثانية في العراق على أيدى أبى مصعب الزرقاوى، والثالثة في العراق أيضا على أيدى أبى بكر البغدادى)، وعندما أنشأ الزرقاوى تنظيمه أطلق عليه في البداية (التوحيد والجهاد)، وتعنى كلمة (التوحيد) تكفير كل من لا ينضم إلى تنظيمه، أما كلمة (الجهاد) فتعنى قتل كل من لا ينضم إليه. وهناك شكوك كثيرة تحوم حول هوية زعيم داعش أبو بكر البغدادى، وأنه يهودى عميل للموساد الإسرائيلى اسمه الحقيقى (شمعون إليوت)، وقد أطلقت القوات الأمريكية سراحه من معتقل (بوكا) عام 2009، وانشق على القاعدة وكوّن تنظيمه المستقل وطالب الظواهرى بأن يبايعه خليفة للمسلمين، وقد اكتشف كثيرون مؤخرًا أن كلًا من أمريكا وتركيا وإيران وقطر كانت وراء إنشاء ودعم داعش وانتشاره على هذا النحو الذي نراه اليوم؛ لأنهم وجدوا فيه ما يخدم الاستراتيجية الأمريكية في تقسيم الدول العربية والإسلامية، وإشعال الفتنة والعنف والحروب الأهلية في جنباتها‬.
‎- ‫وتعتبر داعش منتجًا إرهابيًا منفصلًا عن القاعدة بعد أن كانت جزءا منها، ثم أضيفت إليها أفكار جديدة، إلا أنه الآن يقترب من العصابات المنظمة أكثر من مجرد تنظيم دينى مسلح. ويمكن إدراك المنتج الفكرى من جملة الرسائل والفتاوى، ووصايا الشهداء، والردود على المخالفين.. الخ، أو المجتمع الداعشى على النت، ومنتديات جهادية، وحتى كتيبات تحريضية تحمل دعاية مضادة لخصوم داعش‬.
‫مراحل دولة داعش
‎- ‫واتساقا مع فكر داعش الأصلى القائم على التكفير والتفجير، فهم يكفرون الجيوش العربية كلها، وجميع الحكام العرب، والأحزاب السياسية، وأيضا الشيعة جميعهم، ولا يؤمنون إلا بالقتال وسيلة لإقامة الدين والدولة. ولأن داعش في مفهوم أصحابها هم المنوط بهم استعادة دولة الخلافة الإسلامية، فإن على المنتمين لها أن يضحوا بأرواحهم وأجسادهم وأموالهم فداء لرسالة التنظيم وقضيته، والتي تمر بثلاث مراحل‬:
‎1- ‫المرحلة الأولى: «الشوكة والنكاية»، وفيها يتم تكوين خلايا منفصلة حاضنة للفكر السلفى الجهادى، تهدف إلى التجنيد والحشد واستقطاب الشباب وتأمين الدعم المالى واللوجيستى. على أن تنتشر هذه الخلايا بداية في المناطق الوعرة حتى يتم ترتيبها وتأهيلها عقائديًا ومهنيًا من الناحية البدنية والعسكرية ثم تبدأ في تنفيذ عمليات عسكرية نوعية لإرباك قوات الأنظمة الحاكمة وتشتيت جهودها ودفعها للانسحاب من هذه المناطق والحصول على الغنائم. مع إقناع الناس بأن «داعش» جاء إليهم لينقذهم من الحكم الجائر ومحاربة المحتلين الأجانب، وشعار هذه المرحلة «الدم الدم، والهدم الهدم، وتدفيع الثمن للعدو» مع التركيز على الاستيلاء على الأهداف الاقتصادية.. خاصة منشآت النفط ومحطات القوى والبنوك‬.
‎2- ‫المرحلة الثانية: ويطلق عليها «إدارة التوحش»: فبعد أن تجبر مرحلة الشوكة والنكاية الأنظمة الحاكمة على الانسحاب من بعض المناطق، تحدث فيها فوضى عارمة، وينتشر فيها السلب والنهب والسرقة والقتل وغياب القوانين.. وهو ما يطلق عليه داعش «التوحش»، حيث تتولى مجموعات داعش إدارة هذه العمليات بالقيام بالدور الذي كانت تتولاه الشرطة والجيش قبل انسحابها، بحيث يفرض داعش سلطته وعقوباته الصارمة على مرتكبى الجرائم، وتوفير حاجات الناس، وبما يشعرهم بالحاجة إلى استمرار تواجد داعش بينهم ليعيد إليهم الأمن والنظام والاستقرار. وعند ذلك يبدأ داعش في تنفيذ القوانين السابق الإشارة إليها.. خاصة هدم الأضرحة والتماثيل، والسيطرة على المساجد وإجبار الناس على الالتزام بتعاليمهم الدينية، وحضور الدروس الدعوية، فضلا عن استكمال السيطرة على المرافق الحيوية لتأمين الموارد المالية‬.
‎3- ‫المرحلة الثالثة «التمكين»: وهى تشبه خطة «التمكين» التي وضعها خيرت الشاطر نائب مرشد جماعة الإخوان في عام 2005 لتمكين جماعته من السيطرة على مفاصل الدولة المصرية، من مؤسسات عامة وخاصة ونقابات مهنية وعمالية وأحزاب سياسية.. إلخ، وبها نجحت جماعة الإخوان في الوصول إلى السلطة والحكم في مصر عام 2012، حيث يتبع داعش نفس المنهج من خلال أسلوبين: الأول: تعزيز المكاسب التي حققها على الأرض في المناطق التي بسط سيطرته عليها، بواسطة تطبيق قوانينه واستغلال موارده المالية والطبيعية- خاصة النفط والسدود المائية ومحطات القوى - لتعزيز موارده الاقتصادية والعسكرية، ولتكون بمثابة قواعد ترتكز عليها قوات داعش لتوسيع انتشاره في الأراضى المجاورة لها مستقبلا. أما الأسلوب الثانى: فهو الانتشار الأفقى حول المناطق التي سبق أن سيطر عليها لسد الثغرات فيما بينها، وبما يؤمن له شريطا أو مناطق متواصلة جغرافيا ويحقق له مزايا استراتيجية، ويربط أراضيها بين أكثر من دولة - مثل الحال في ربط المناطق التي تحت سيطرة داعش في غرب العراق مع الأراضى التي يسيطر عليها في شمال وشرق سوريا، وليحكم سيطرته على المناطق والمدن الكردية المتواجدة في الشريط الحدودى بين شمال سوريا وجنوب تركيا، وبما يسهل عبور المتطوعين الأوروبيين والأسلحة والمعدات من تركيا إلى داعش في سوريا، مقابل بيع النفط السورى إلى تركيا بأسعار زهيدة لا تتجاوز 10 دولارات للبرميل، وأن تمتنع تركيا عن المشاركة في التحالف الدولى ضد داعش أو السماح بوصول تدعيمات عسكرية كردية إلى القرى التي يحاصرها داعش. ويحرص داعش خلال المرحلة الثالثة على فرض قوانينه بأشد مظاهر الصرامة على سكان المناطق التي تخضع لسيطرته، ومعاقبة كل من يخالفه باعتبار ذلك مخالفة لأوامر خليفة الله في الأرض، مع الترويج لتمدده إلى بلدان عربية مجاورة مثل دول الخليج ومصر والمغرب العربى وضمها تحت رايتها، ثم الانتقال إلى باقى البلدان الإسلامية، وتحرير القدس، ثم بخارى وسمرقند والأندلس لتحرير الأرض كلها من هيمنة الكفر، وفى إطار غزو داعش للأراضى العربية والإسلامية، يسعى داعش لخطف الأطفال وتربيتهم وتنشئتهم على مبادئه وأفكاره ليكونوا جنودًا له في المستقبل، وقد اعترف داعش بخطف 149 طفلًا كرديًا في سوريا والعراق لصالح هذا الهدف، ناهيك عن سفر نحو 200 فتاة من أمريكا وأوروبا ضمن 3000 مقاتل غربى للزواج والقتال ضمن صفوف داعش في سوريا والعراق منذ ثلاث سنوات‬.
‫جوهر الفكر الداعشى
‎- ‫ربما نكون مبالغين ونعطى داعش أكثر مما يستحق إذا قلنا أن لها فكرا أصلا، فحقيقة الأمر أن لا فكر مستقلاً يمكن أن يميزه عن باقى الأفكار المتطرفة والهدامة، لأنه يستند فيما يروجه من أفكار يستقطب به جماهير الشباب المخدوعين به، إلى جملة أفكار متطرفة صدرت في الماضى عن أئمة الضلال وأصحاب الفكر المتطرف الهدام.. أمثال ابن تيمية وحسن البنا وسيد قطب وأبوالأعلى المودودى.. وغيرهم، ثم زايدت على أفكار كل هؤلاء بتشدده واستباحته لأرواح ودماء المسلمين على نطاق واسع وبشكل وحشى لم يسبق له مثيل، حيث نجد مفتى ومُنظّر داعش - المدعو حلمى هاشم المكنّى (عبدالرحمن شاكر نعم الله) لا يكتفى بتكفير عموم الشعوب في العالم - مسلمة وغير مسلمة - بل إنه يكفر كل من لم يكفر تلك الشعوب، كما يكفر جميع المقاتلين في العراق وأفغانستان والصومال ممن لا يرفعون راية داعش، لذلك يعتبر من أعتى غلاة التكفير والخوارج.. حيث أصدر كتابًا بعنوان (أهل التوقف بين الشك واليقين)، إعتبر فيه أن كل الديار الآن ديار كفر والأصل في أهلها الكفر، ومن ثم فإنه يعتبر من لم يُكفِّر الكافر فهو كافر، أما أبومسلم المصرى - قاضى القضاة في دولة داعش - فهو صاحب الأحكام العجيبة ومُنظِّر الذبح والقسوة بكل مسمياتها، فهو لا يرى توبة لمرتد ممن سب خليفة المسلمين (البغدادى)، ومنهجه العلمى تكفيرى، ولذلك يصدر أحكام الإعدام دون تحقق أو تروٍ.
‎- ‫وينهض الأساس الفكرى لداعش على هدف محدد «هو حتمية إعادة دولة الخلافة الإسلامية»، وتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الحدود، والحكم بما انزل الله، وباعتبار ما يزعمه داعش أن ما يطلق عليه الخليفة هو الذي يحكم بما أنزله الله، وبالتالى لا مراجعة لأحكامة لكونه في زعمهم «يحكم بالحق الآلهى، وأن دولة الخلافة الإسلامية هي السبيل الوحيد للقضاء على المشاكل التي يواجهها المسلمون في الأرض، وإزالة العقبات التي تعوق انتشار الإسلام، وهو ما يفرض وجود (خليفة) أمير المؤمنين يقود جيوشًا مؤمنة تتخذ من الفتح والعمل العسكري وسيلة لإخضاع أعداء الإسلام والمسلمين ضعاف الإيمان، ومبايعته وطاعته ليطبق الشريعة على الجميع». وقد عبّر مقاتلو داعش عن جوهر فكرهم بقولهم: «باختصار بالنسبة للشيخ البغدادى، فإن كل دين له دولة ما عدا الإسلام، وهو ما يفرض أن يكون للدين دولة، والعمل على قوتها‬».
‎- ‫وقد سبق لنا الرد على جميع هذه الدعاوى في حلقات سابقة.. سواء فيما يتعلق بالخلافة، أو الحكم بما انزل الله، وأيضا تطبيق الحدود، وإقامة الشريعة. وأثبتنا من واقع آيات القرآن الكريم وصحيح أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنها كلمات حق يراد بها باطل، ويتمثل هذا الباطل المخفى والذي صار معلنا في الاستيلاء على السلطة والحكم باسم الدين، وإخضاع المسلمين لحكم من يطلقون عليه الخليفة، والتحكم في واقعهم ومصائرهم، أما زعم داعش بأن انتشار الإسلام يفرض وجود خليفة يقود جيوشا مؤمنة تتخذ من الفتح والعمل العسكري وسيلة لإخضاع أعداء الإسلام والمسلمين ضعاف الإيمان، فإنه أيضا ضمن كلمات الحق التي يراد بها باطلا، ذلك أن وجود جيوش قوية بالدول الإسلامية أمر لابد منه لحماية حرمات المسلمين من مقدسات وأراض وأرواح وثروات وأعراض.. الخ في مواجهة تهديدات أعداء الإسلام، ولكن بناء هذه الجيوش، ولكى تكون قوية يفرض أن تكون متماسكة مثل الجيش المصرى حاليا، لا تتنازعها الطائفية والمذهبية والعرقية كما هو الواقع في جيوش الدول العربية المجاورة لنا في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، وهو ما تسبب فيه داعش باستغلاله هذه الخلافات في تفتيت هذه الجيوش وانهيارها، مما أدى إلى شيوع الفتنة والحروب الأهلية والصراعات الدموية في مجتمعات هذه الدول، وما ترتب على ذلك من تدخل دول أجنبية هددت أمن واستقلال وحرية شعوبها‬.
‎- ‫ومما يؤكد أن دعوة الخلافة التي يرفعها داعش دعوة سياسية تستهدف الاستيلاء على السلطة والحكم، وأبعد ما تكون عن الدين ومقصده من الهداية، بل هي غطاء يتستر به التنظيم ويخدع به شباب المسلمين لينضموا له، أن ظهر زعماء جماعات إرهابية ومتطرفة في بلاد عربية وإسلامية أخرى ادعى كل منهم أنه خليفة المسلمين، ورفضوا إعطاء البيعة لخليفة داعش، مما زاد من انقسام الأمة الإسلامية واحترابها فيما بينها، وما هذا كله إلا بسبب مخالفتنا لحديث سيدنا رسول الله الذي حسم فيه موضوع الخلافة بقوله الشريف «الخلافة من بعدى ثلاثون عامًا ثم تكون ملكا عضوداً»، وقد انتهى بالفعل عصر الخلافة بانتهاء خلافة سيدنا على وبدء حكم دولة بنى أمية، وهو ما سبق الإشارة إليه بالتفصيل في حلقة سابقة. ناهيك عما تؤكده أحداث التاريخ بأن انتشار الإسلام في معظم ربوع العالم - خاصة في آسيا وإفريقيا - لم يكن بالحروب كما يدعى داعش وأعداء الإسلام في الداخل والخارج، ولكن بواسطة صحابة رسول الله والتجار الذين انتقلوا إلى هذه البلاد، وكانوا بمكارم أخلاقهم المحمدية وسلوكياتهم الراقية والمتحضرة مصادر تأس لدخول شعوب هذه البلاد في الإسلام والانتشار في أرجائها، فضلا عما نشروه من معارف وعلوم لم تكن شعوب أوروبا وآسيا وإفريقيا تعلم عنها شيئًا، وهو ما يعرف بالحضارة الإسلامية التي غزت العالم في أقل من مائة عام من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأساس الذي سطا عليه علماء الغرب وبنوا عليه ما يسمى اليوم بالحضارة الغربية‬.
‎- ‫وقد نشر داعش فكره في وثيقة أطلقوا عليها «وثيقة المدينة» تتضمن 16 نقطة، أبرزها منع المجالس والتجمعات ورفع الرايات بشتى العناوين عدا راية داعش السوداء، وضرورة هدم مقامات أولياء الله والمزارات باعتبارها في نظر داعش «مراقد شركية ومزارات وثنية»، وقد وصل الأمر إلى مطالبتهم بهدم قبة المسجد النبوى، والكعبة المشرفة باعتبارها كانت في الماضى مكانًا للأصنام!! وشطب جميع آيات القرآن التي تتحدث عن عدم الإكراه على الدين، وتعديل آيات أخرى.. ومنها سورة الكافرون، حيث لا تعجبهم آية قوله تعالى: «لكم دينكم ولى دين»، كما فرضت الوثيقة على النساء قيودًا شديدة، وأعلنت عن وجود مسجد في كل مدينة يجرى فيه قبول «توبة المرتدين»، وهو نفس فكر ابن تيمية حول «استتابة العاصى أو قتله‬».
‎‫هذا إلى جانب فتاوى بمنع ترميم أو إعمار الكنائس وعدم جهر المسيحيين بصلواتهم وفرض الجزية عليهم، وأن الجهاد يبدأ بالعدو القريب المحلى (مؤسسات النظام الحاكم) وليس العدو البعيد (إسرائيل وأمريكا وروسيا)، وإباحة قتل الحكام المسلمين والمعارضين للتنظيم من المسلمين وغيرهم، مع جواز قتل المسلم إذا استجار به الكافر وذلك على عكس ما يأمر به القرآن في قوله تعالى «وإن أحدًا من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون» (التوبة 6)، وفرض الزى الداعشى الإسلامى واجب على الرجال والنساء، ومن يخالف ذلك يتم جلده، مع فرض الصلاة جماعة على الجميع وإغلاق المحال أثنائها.‬
‎- ‫ولا تؤمن داعش بالوطنية ولا القومية، حيث تعتبرهما كفرًا بواحاً ومن ينادى بهما حلال الدم والمال والعرض، وهو تكرار لفكر سيد قطب والمودودى اللذين يناديان بالأممية الإسلامية، وأن يكون الولاء والانتماء فقط للعقيدة وليس للأرض ولا الأهل ولا العشيرة، وأن لا وطن للمسلم باعتبار أن كل أراضى المسلمين وطن للمسلم، وأن الوطن الذي يجب أن يدافع عنه المسلمين هو الأرض التي ترتفع عليها رايات داعش السوداء، لذلك ألغوا أسماء الدول وأبدلوها بأسماء تتفق مع مفاهيمهم، فبدلًا من مصر الذي كرّم المولى عز وجل اسمها في القرآن الكريم أكثر من مرة، غير داعش اسمها إلى (أرض الكنانة)، والسعودية صارت (أرض الحجاز)، وبدلا من الحبشة صارت (السودان)، ودول شمال إفريقيا أطلق عليها (المغرب)، وسوريا ولبنان (الشام)، والعراق (بلاد الرافدين).. وهكذا حتى إسبانيا صارت في مفهومهم (الأندلس)، ثم أدمجوا كل ذلك في اسم الدولة الإسلامية‬.
‫خطورة تكفير المسلمين:
‎- ‫للرد على دعاوى داعش بتكفير المسلمين الذين لا يبايعون زعيمه خليفة ثم قتالهم بسبب ذلك، نقول إن آيات القرآن وسنة رسول الله تنهى عن ذلك تماما، بل وتقرر أن من رمى إنسانًا بالكفر فقد باء به إن لم يكن هذا الإنسان كذلك، مصداقاً لقوله تعالى: «وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به، والله أعلم بما كانوا يكتمون»، حيث تشير الآية إلى أن الإنسان لو دخل على جماعة ورماها بالكفر، وهم ليسوا كذلك، فقد حمل هو وزر هذا الكفر وخرج به. يؤكد هذا المعنى حديث سيدنا رسول الله الذي قال فيه: «لا يرمى رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك»، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما‬».
‎ ‫من هذه الآية وهذه الأحاديث الشريفة نستنبط حكم المولى عز وجل في هذا الأمر، وهو وجوب توقف المسلم عن رمى غيره بالكفر حتى لا يبوء هو به، ورغم ذلك نجد داعش يفتح هذا الباب على مصراعيه، فتعددت حالات كثيرة يحكم فيها بتكفير كل المسلمين الذين لا يبايعون زعيمه خليفة عليهم، حتى وإن كانوا يؤدون ما عليهم من طاعات ويتجنبون الآثام والمعاصى، وبالتالى فإن تنظيم داعش يستحلون حرماته من أرواح ودماء وثروات وأعراض، كما يبيح داعش لنفسه باسم الدين أن يزيل من أمامه كل من يعترض طريقه ويتصدى له، كذلك يبيح لنفسه أيضا باسم الدين أن تطلق يده لتعبث في المجتمعات الإسلامية كما يشاء طالما قد أصبح الجميع في شرعه كفارًا، وقد كان من نتيجة هذه الفتنة أن وصلت المجتمعات الإسلامية إلى الوضع المتردى الذي عليه اليوم، حيث توشك أن تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، وأصبح المسلمون غثاء.. كغثاء السيل، وهو ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله «توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أو عن قلة نحن يومئذ يا رسول الله، قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل»، ومن رحمة حضرته أن الحديث بدأ بكلمة «توشك»، أي أنها لن تقع إن شاء الله‬.
‎- ‫وقد استند الذين يفتون لداعش بتكفير المسلمين وقتالهم إلى فتاوى ابن تيمية في كتابه (الفتوى الحموية الكبرى)، وفيه أسرف ابن تيمية في ذكر الحالات التي توجب تكفير المسلم وقتاله، كما أكثر من جملة خطيرة يقول فيها: «يحكم عليه بالكفر ويستتاب أو يقتل»، وزاد عليه أن ذكر في بعض كتبه الأخرى حالات تكفير المسلم، ووضع لذلك بابًا سماه «باب تكفير المسلم»، عدّد فيه الكثير من الأفعال التي يُكفِّر فيها المسلمون.. إلى أن وصل به الأمر إلى الحكم بأن «من لم يُكفِّر الكافر فهو كافر»، وقد اتبع نظام داعش نفس نهج ابن تيمية، حيث خصص مساجد لاستتابة المسلمين، فضلا عن تكفير وذبح من لا يبايع زعيمه خليفة على المسلمين‬.
‫القتال في الإسلام وحرية العقيدة‬
‎- ‫أوضح المولى عز وجل في كثير من الآيات شرط قتال الكافر، في الإسلام، وأبرز هذه الآيات قوله تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» (البقرة 19)، فهذا دليل واضح يسقط مباشرة دعوى القول بأن الكافر يمكن أن يُقتل لمجرد أنه كافر، فالقتال مع أي كافر مشروط بأن يبدأ هو بقتال أو اعتداء، فإن اعتدى علينا فلابد أن نقاتله، فإن لم يعتد فلا حق لنا في مقاتلته وإلا كنا في حكم المعتدين، وقد نهانا الله تعالى عن ذلك، وذلك كله عن الكافر حقًا الذي يعلن عن كفره بالإسلام صراحة، وليس عن المسلمين الذين يتم تكفيرهم بالباطل من قبل الجماعات المتطرفة الإرهابية، وآخرها جماعة داعش، وهو ما يؤكد حرية العقيدة في الإسلام، والتي لا تجيز بأى حال من الأحوال.. ومهما كانت الظروف أن يكون القتال وسيلة لإكراه الناس على الدخول في الإسلام‬.
‎- ‫ولكى يبرر أصحاب الفكر المتطرف والإرهابى جرائمهم في قتال من كفَّروهم - سواء من المسلمين أو غير المسلمين - نجدهم يُقطّعون سياق بعض آيات القرآن مثل قوله تعالى: «وقاتلوا المشركين كافة» (التوبة 36)، ليزعموا بناء على ذلك أن الآية تأمر المسلمين بمحاربة كل المشركين سواء اعتدوا على المسلمين أم لم يعتدوا عليهم، وذلك استنادا لقول سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) ص75 في باب «الجهاد في سبيل الله»: (كان القتال - كما يقول الإمام بن القيم - محرما، ثم مأذونًا به، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين)، ونظرًا لخطورة هذه المزاعم التي يروج لها البعض كابن القيم وغيره، فلابد أن نرجع إلى كتاب الله لندرك ما فيه من بطلان وتعارض كامل مع ما أنزله الله تعالى عن حدود القتال في الإسلام، والتي تقتصر فقط على رد الاعتداء ومقاتلة من يبدأون بالاعتداء على المسلمين، دون أي عدوان على من لايبدأ بقتال المسلمين.. ويتبين ذلك كما يلى‬:
‎- ‫أولًا: أن الوقوف عند تلك الآيات التي يستدل بها أصحاب هذا القول يكشف عن بطلان قولهم، ويثبت أنها حجة عليهم وتدينهم وتبطل دعواهم، ذلك أن الآية «وقاتلوا المشركين كافة» يجب ألا تقطع عن سياقها، بل لابد من تكملتها والنظر في بقيتها وهى قوله تعالى «كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله مع المتقين»، أي أن الأمر الإلهى بمقاتلة المشركين كل مشروط ومرتبط بقتال هؤلاء المشركين للمسلمين كل، وهو ما يعنى أنه لا يجب على المسلمين أن يبدأوا بالاعتداء على المشركين لمجرد أنهم مشركون، وإنما يجب قتالهم عندما يقاتلوننا أو يعتدون علينا، ولا توجد آية واحدة في القرآن تدل على أنه للمسلمين أن يقاتلوا أو يعتدوا على الآمنين من غير المسلمين لمجرد أنهم على غير عقيدتنا. وأن القتال في الإسلام لا يكون أبدا لفرض الدين أو إكراه الناس عليه «لا إكراه في الدين»، وإنما يكون للدفاع عن بلاد المسلمين ورد كيد المعتدين المحتلين لأراضيهم ومقدساتهم، وهو ما تثبته حروب ومعارك المسلمين في صدر الإسلام، والتي كانت كلها دفاعية أو لدفع عدوان وشيك الوقوع (وهو ما يعرف بالحروب الوقائية والاستباقية‬).
‎- ‫ثانيا: أن القول بأن القتال قد شرعه الله على مراحل كان في بدايتها محرمًا، ثم أصبح مأذونا به ثم مأمورًا به ضد من بدأ بالقتال، ثم مأمورًا به ضد جميع المشركين كل.. يشير هذا القول أن المولى عز وجل قد تغيرت أحكامه وتبدلت أقواله وتراجع في أوامره.. إذ يحرم الشىء ثم يعود فيحله مرة ثانية، ثم يأمر به.. وهذا تطاول واضح على ذاته سبحانه وتعالى، كما أنه خروج صريح على آية قوله تعالى: «ما يبدل القول لدى» (ق29)، كما يعنى أيضا وجود تعارض بين هذه الآيات، وهو ما لا يجوز القول به لتعارضه مع قوله تعالى: «أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا» (النساء82)، فآيات القرآن تحمل من أوجه الإعجاز ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان وليست صالحة لوقت فقط دون غيره، أو لمناسبة دون غيرها، أو لمرحلة فقط، وإنما تحمل واقع الأمة الإسلامية على مدى القرون منذ نشأتها وإلى ما شاء الله، مصداقًا لقوله تعالى «لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم» (الأنبياء10‬).
‫تحريم قتال المسلمين بعضهم بعضاً‬:
‎- ‫كما نهانا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكثير من الأحاديث الشريفة عن أن يقاتل المسلمون بعضهم بعضا، منهم قوله «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض»، وأيضا الحديث الشريف: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه». والغريب أن نجد من بيننا من ينسبون أنفسهم للإسلام، ثم يقومون بقتل مسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن سيدنا محمد رسول الله لمجرد أنهم يرفضون الانسياق في الفتنة التي تشعلها الجماعات الإرهابية المتطرفة، ولا يتبعونهم في دعاواهم الباطلة - هذا رغم أن رسول الله قد نهى عن ترويع المسلم لأخيه حتى ولو بقطعة حديد على سبيل اللهو، وهو ما يظهر تشدد حرمانية المسلم على المسلم‬.
‎- ‫وقد عرّف رسول الله المسلم الذي نهى حضرته عن التعرض له في عدد من أحاديثه.. منها «من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم»، وأيضا حديث حضرته «ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله، لا تكفره بذنب، ولا تخرجه من الإسلام بجهل». فضلا عن قوله الشريف: «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه». وقوله الآخر: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.. والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»، ثم كانت الوصية الجامعة الشاملة لحضرته في خطبة الوداع التي قال فيها «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب‬».
‎- ‫وللرد على ما يفعله أصحاب داعش من ذبح كل من لا يبايع زعيمهم خليفة، وينتظم في صفوفهم ويطيعونهم، نقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو أسوتنا الحسنة - لم يعط نفسه هذا الحق وهو رسول الله وخليفته في الأرض حقا، يبرز هذا الأمر واضحاً في قصتين مهمتين وشهيرتين في السيرة النبوية: أولاهما في فتح مكة، عندما دخلها فاتحا منتصرًا ومعظم من كان فيها من المشركين والكافرين بحضرته، فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ولم يتعرض لأحد منهم. أما القصة الثانية فقد كانت عندما عرض حضرته نفسه على أهل الطائف ليدخلوا في الإسلام، فرفضوا وآذوه، فأنزل الله سيدنا جبريل يفوّض رسول الله في أن يختار أن يطبق عليهم الجبال قائلا لحضرته: «لو شئت لأطبقتُ عليهم الأخشبين» فكان رد حضرته: «دعنى وقومى عسى أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله». ففضلا عما تظهره القصتان من سنة رسول الله في رفض التعرض حتى للكفار، صبرًا عليهم لعلهم يهتدون، فإنهما يكشفان أيضا عن مدى الرحمة التي بعث بها حضرته للعالمين كل.. مؤمنيهم وكافريهم، إنسهم وجنهم سواء، مصداقاً لقوله تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» وهو ما ينبغى أن نتأسى به في تعاملنا، خاصة فيما بيننا كمسلمين.. لا أن نكون أعداء يكفر بعضنا بعضًا، ونضرب أعناق بعضنا بعضًا، على النحو الذي تمارسه داعش وغيرها من الجماعات الإرهابية والمتطرفة‬.
خلاصة القول‪:
- تؤكد جميع آيات القرآن وأحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تتحدث عن تبليغ رسالة الإسلام للعالمين، أنه ليس له إلا وسيلة واحدة هي العمل بقوله تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» دون قهر أو إشهار سيف، هو ما يشهد به تاريخ دخول الإسلام في معظم بلاد الأرض.. من الصين شرقًا إلى المغرب غربًا، ومن سيبيريا شمالًا إلى جنوب إفريقيا جنوبًا في أقل من مائة سنة من بعث رسول الله، ومعظمها تم بغير قتال، ولم يكره أحد على الدخول في الدين بالقوة، بل إن كثيرا من البلاد التي فتحها المسلمون كانت بناء على طلب أهلها لإنقاذهم من بطش القوى الظالمة التي كانت تحتلها، وأبرز مثال على ذلك فتح مصر بناء على طلب أهل مصر لإنقاذهم من بطش الرومان الذين كانوا يستعمرونها، وما كان دفع الجزية من الذين لم يدخلوا الإسلام إلا لحمايتهم وتوفير الأمن لهم، وكانت الجزية مبلغًا زهيدًا ويعفى منها كبار السن وغير القادرين، ويحكى التاريخ أنه في المدن التي اضطرت قوات المسلمين للخروج منها أعادوا أموال الجزية إلى من دفعها، لأنهم بخروجهم من هذه المدينة لم يعودوا قادرين على حماية أهلها‪.‬
- كما تؤكد جميع آيات القصص القرآنى أن رسل الله تعالى تبعث لغاية واحدة هي تبليغ رسالة الله تعالى لأقوامهم، بأن يقلعوا عما هم فيه من معاص، وأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، أما حسابهم فهو على الله، مصداقا لقوله تعالى: «إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب»؛ ولأن رسل الله تعالى جميعًا مصادر رحمة في الوجود لأقوامهم «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، وليس لعقاب المخالفين كما تدعى جماعة داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية والمتطرفة الأخرى، مصداقا لقوله تعالى: «أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله»، حيث يمنح زعماء هذه التنظيمات الإرهابية لأنفسهم ما لم يمنحه الله لرسله الكرام، وهو ما يتعارض مع العديد من آيات الله تعالى.. منها قوله تعالى: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، حيث ترك المولى عز وجل المشيئة للناس في أن تؤمن أو تكفر وحسابهم على الله، وأيضا قوله تعالى «ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة» (النحل61)، ومن ثم فإن الإسلام ينهى عن كل صور الإكراه والقسر على الدين‪.‬
- لذلك فإن السبب الرئيسى فيما حل بالمجتمعات الإسلامية اليوم من تدهور وصور تخلفاً في مختلف المجالات وعلى معظم الأصعدة، وانعدام الأمن والاستقرار، إنما يرجع إلى مخالفتنا لما أمر به الله ورسوله، وعدم اتباعنا لسنة حضرته وصحابته وأئمة الفقه الأربعة، وخالفنا قوله تعالى: «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» (الحشر59)، كما خالفنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى»، بل وقع الكثير من المسلمين في واقع حديث حضرته الذي حذرنا فيه من اتباع أئمة الضلال واتخاذهم مرشدين وزعماء، وذلك في قوله الشريف «يكون دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها»، حيث يخبرنا هذا الحديث عن وجود من يلبسون أثواب دعاة إلى الله، ولكنهم في حقيقتهم رؤوس جُهال، بل شياطين يقفون على أبواب جهنم، من يطيعهم يقذفونه فيها‪.‬
- ومن الواضح أن هذه العصابة المسماة بداعش قد كشفت لنا بممارساتها الدموية والوحشية عن أمراض دفينة داخلنا ينبغى أن يتم تشخيصها جيدا حتى يمكن علاجها أو استئصالها، فليس بإمكان دولة أو منظمة في العالم كله أن تسىء للإسلام كما أساءت له هذه العصابة التي تقطع رؤوس البشر كما لو كانوا طيورًا أو حيوانات، بل ويتباهون بذلك أمام الكاميرات، وهو ما لا يقره أي دين ولا ملة، بل وترفضه الفطرة الإنسانية السليمة. فها هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسوتنا الحسنة، نجده يقف لجثة يهودى أثناء تشييع جنازته، فلما أخبره أصحابه إنها ليهودى أجاب حضرته: أو ليست نفسًا؟. بل إن ديننا الإسلام أمرنا بالرفق بالحيوان في حياته أو حتى عند ذبحه، ووضع الضمانات التي تكفل عدم تعذيبه، منها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة»، ولكن جاء هؤلاء الوحوش الآدمية التابعون لداعش والذين انعدمت في قلوبهم الرحمة ليضربوا الإسلام في الصميم بكل ما يرتكبونه من جرائم في حق المسلمين وغير المسلمين؛ وأن يلوثوا سيرته وبياض صفحته، في وقت يكتشف فيه العقلاء في الغرب حقيقة الإسلام وأنه السبيل الوحيد لإصلاح ما يسود مجتمعاتهم من فساد وخراب، فجاء وحوش داعش بسلوكياتهم الإجرامية ليعطوا الذريعة لأعداء الإسلام ليصموه بهذه الوحشية وتلك البشاعة‪.‬
- ولقد اتضح لنا من سلوك داعش أنها ليست مجرد عصابة مجرمة تعتدى على حرمات الناس، وتقتل وتسرق وتذبح وتستحل كل الحرمات، بل - وهو الأخطر - أنها تُشرِّع لجرائمها هذه وتقننها بموجب دعاوى دينية باطلة من خلال استخدام أحاديث موضوعة، ولىّ معانى الآيات وتقطيع سياقها، وهذا هو الجانب الأخطر في سلوكيات هذه العصابة، لأنه الوسيلة التي تجتذب بها الشباب الضائع الذي لا يعلم من أمور دينه شيئاً، خاصة أن كثيرًا من عناصرها من غير العرب الذين لا يعرفون لغة القرآن، وربما لا يحفظون منه سوى سورتين قصيرتين للصلاة، والغريب في الأمر أن كثيرًا من هؤلاء القادمين من الغرب لا يعانون مشاكل مادية ولا مشاكل في الديمقراطية، بل يريدون الإسلام فانخدعوا فيما يمليه عليهم فقهاء داعش من أعتى غلاة التكفير والخوارج، الذين لا يكتفون بتكفير عموم الشعوب، بل يكفرون كل من لم يكفر الشعوب!! وقد ثبت أن هناك ماكينة فكرية وشرعية تلقن هؤلاء أفكارا دينية مشوهة، ينبغى أن تتوقف عن العمل حتى نوقف هذا المد الداعشى المدمر الذي يجتاح العالم العربى والإسلامى، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بمواجهة هذا الفكر الهدام بالفكر الدينى السليم القادر على اقتلاع الفكر التكفيرى من جذوره‪.‬
- إن المطلوب من كل مسلم غيور على دينه أن ينفى أي ارتباط بين تنظيم داعش الإرهابى وبين الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يوصى أصحابه وقادة الجيوش والسرايا وقت الحروب والغزوات بألا يؤذوا طفلا أو امرأة أو شيخًا، وألا يُروِّعوا كاهنًا أو قسيسًا يتعبد في صومعته، كما نهى صلى الله عليه وسلم حتى عن قطع شجرة أو إسقاط حجر من مبنى. ‬ويوجد في دير سانت كاترين بجنوب سيناء ما يطلق عليه «العهدة المحمدية» في العام الثانى للهجرة، وذلك عندما طلب وفد من الدير حمايتهم، فكتب تعهدا لحمايتهم، وطلب من أصحابه أنهم في حمايته إلى يوم الدين، وكتب ما معناه أنهم في سلام داخل ديرهم، وقد تأسى الخلفاء الراشدون بالرسول، فكانوا يوصون قادة الجيوش بحسن معاملة المدنيين والأسرى من العسكريين والمحافظة على ممتلكاتهم، وربما تكون «العهدة العمرية» التي أعطاها سيدنا عمر لبطريرك كنيسة القيامة بالقدس ومسيحيى المدينة بعد فتحها دليلًا على ذلك، حيث تركهم على دينهم وتعهد بحمايتهم، وهو ما يشهد على مدى رقى وحضارة الجيوش الإسلامية في حروبها، وسنفرد قريبًا إن شاء الله حلقة خاصة عن أخلاقيات وآداب الإسلام في الحروب، وذلك في إطار مقالاتنا عن ترشيد وتجديد الخطاب الدينى‪.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.