جاء الخطاب الإلهي للمسلمين عامة محذرًا من الفتن قبل وقوعها وداعيًا إلى التمسك بكتاب الله تعالى ليكون عاصمًا للجميع، فقال عز مِن قائل: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا»، قال القرطبي رحمه الله: »فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة«، وحذَّر من مغبة الانزلاق في آتون الفتن التي لا ينجو منها إلا ما رحم ربي، فقال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»، وقال أيضًا محذرًا: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»، ولقد برأ اللهُ رسولَه من أهل الفرق والأهواء والضلالات فقال تعالى: «إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»، ولقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها في غير موضع، من ذلك ما جاء في صحيح مسلم في قوله: »تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أن ومن هذه الفتن التي ابتُلينا بها في هذه الأيام الطائفية الذميمة، التي أطلَّت علينا بوجهها القبيح، والتي أصبحت تحاصر الأمة، وتريد أن تفرق وحدتها، أو تنال منها، وتؤسس لثقافة صدامية قبيحة حذر الإسلام منها، فقد وصى الله تعالى أنبياءه بإقامة الدين وعدم التفريق فيه، ودعا إلى الوحدة والاجتماع على قيَمه ومبادئه على جميع البشر باختلاف لغاتهم وقومياتهم وأعراقهم، فقال تعالى: »شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ«؛ أي شرع الله تعالى للبشرية ما يوحدهم ويدفع عنهم الصراع والخلاف، الذي يريده عدوهم، ويريد أن يجعل منه عداوة وحربًا يجني من ورائها الكثير ويتجرع الطرفان مرارة هذا الاقتتال. ولقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر ووصف هذه الفتن بأنها منتنة يجب أن نتركها، فقد تشاجر رجلان من المهاجرين والأنصار أيام النبي فقال الأنصاريُّ يَا للأنصار. وقال المهاجرىُّ يا للمُهاجرينَ. فسمع النبي ذلك فخرج عليهم وقال: »أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها منتنة«؛ فقد جاء الإسلام ليبدد ظلام تلك الجاهلية بحيث ينقل الناس من ضيق العصبيات إلى سماحة التعدد، فالطائفية عند رسول الله دعوة جاهلية، رائحتها خبيثة منتة، ما إن انتشرت بين قوم حتى ساءت حالهم وتبدلت، وانتكست فطرتهم. والإسلام حارب الطائفية والتعصب كونهما من سمات الجاهلية، واعتبر من يمارسهما خارجًا عن ثقافة الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: »لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ«، وعلى الرغم من أن البعض حصر الطائفية واختزلها في الجاهلية، فإن ما أقره الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم يؤكد أنها ثقافة وسلوك قد تقترن مع المسلم في فكره وعقيدته وسلوكه؛ لأن التعصب يعد سمة من سمات المجتمعات المتخلفة والمتشددة، ومن بقايا الثقافة الجاهلية، ولعل أهم ما يميز الطائفية هو التركيز على الاختلاف ورفض الآخر بدلاً من الالتقاء، والتشبث بالفروع على حساب الأصول، واستحضار خلافات الماضي وسحبها إلى الحاضر، واستخدام المنابر في المساجد للدعوة إلى الاقتتال باسم الجهاد يدعم ذلك بمجموعة من الفتاوى الضالة. فالطائفية إذًن معوق من معوقات بناء المجتمعات، ومردها يرجع إلى طمع منتسبي هذه الفرق الطائفية في الوصول إلى المكاسب الشخصية أو السياسية أو الاجتماعية، ولقد حاربها الإسلام بكل صورها، بل حرَّم بث جذور الفتنة بين أبناء المجتمع الواحد، وبينه وبين المجتمعات الأخرى، فهي حينما تتضخم تتحول إلى ورم خبيث يهدد كيان المجتمع بأكمله، وهي إحدى المعوقات التي تعانيها المجتمعات العربية في الوقت الراهن، حيث أصبحت عقبة كؤودًا في وجه البناء والتحديث في المجتمعات المدنية؛ لأن أي نظام طائفي غير مؤهل لأن يتصالح مع المجتمعات الحديثة، بل ربما كان أكثر وبالاً على المجتمع من العدو الخارجي، وليس ببعيد ما حدث في العراق، حيث أكد مركز استطلاعات الرأي الإنجليزي (ORB) في أحد تقاريره أن عدد القتلى العراقيين في الفترة ما بين شهر أبريل 2003 إلى شهر أغسطس 2007م وصل إلى أكثر من مليون قتيل، منهم 40% سقطوا برصاص القوات الأمريكية، و60% سقطوا نتيجة الصراعات الطائفية والمعارك الداخلية بين العراقيين أنفسهم، لذا فعلى المجتمعات شعوبًا وحكامًا أن ينتبهوا لهذا الداء الخطير وهذه الفتنة ومحاصرتها بكل السبل حتى لا تقوى فتأتي على الأخضر واليابس، وعلى الأمة أن تتوحد وتنبذ الفرقة والطائفية بمختلف أشكالها، والتي يسعى الأعداء من خلالها إلى تفتيت أوصالها لكي يتسنى لها الاستحواذ على مقدراتها وثرواتها وتوهين صفوفها والنيل من عزيمتها لتستسلم إلى اليأس والإحباط. والتاريخ يشهد أنه ما سقطت أمة وتمزق جسدها إلى أشلاء إلا بعد أن تفرقت واختلفت وتحزبت إلى طوائف يقاتل بعضها بعضًا، وفشت فيهم الفرقة والمراء والخصومات في دين الله تعالى، لذا فقد أوجب الله تعالى على الأمة أن تكون أمة واحدة مجتمعة على كلمة واحدة ضد أي خطر يهددها، ونهاهم عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى: »وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ«، وقال صلى الله عليه وسلم: »أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ«، إذًن فتحقيق الوحدة أمر ثابت بنصوص الكتاب والسنة، لأن الشريعة الإسلامية بمقاصدها العليا إنما جاءت لتحصيل مصالح العباد في الدنيا والآخرة، ولن تتحقق هذه المصالح إلا بتحقق الوحدة التي تدرأ المفاسد وتجلب المصالح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. نقلا عن " الاهرام" المصرية